رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس والسبعون
وراء ذلك الباب الموصود كانت تتم بطولاته، شهدت تلك الغرفة على جراحات ناجحة قام بها الطبيب المصري الذي عُرف في لندن بأرجائها، وبات يحمل من الشهرة نصيبًا، وها هو الآن عاجزًا عن إنقاذ زوجته التي تلتاع صرخاتها ممزقة حوائط قلبه الهزيل.
يخفي دموعها بصعوبة، وهو يراها تصرخ ألمًا، بينما ابنن المنتظر على وشك أن يفقد حياته، عساه الآن يخوض أبشع لحظة قد مرت على حياته يومًا، يرى الممرضات تركضن من حوله، في محاولاتٍ لوقف النزيف، بينما هو يقف كفقاقد الذاكرة الذي وُضع بمحل غير محله.
انتهت من الاجراءات الاحترازية لوقف النزيف، وترك باقي المهام للممرضات، تحرك يوسف تجاه الباب الجانبي، ومن إلى حمام الغرفة، توضأ وخرج يفرد سجادة صلاته، ووقف يؤدي ركعتين، وهو على يقين بأنها دواء آنين قلبه، يعلم بأن البرودة سُتبيد حرقته.
لمست رأسه سجادته وبللتها دموعه، بينما يردد في عجزٍ: عجزت وما أنا الا بعبدٍ عاجز أمام رحمتك يا الله، استودعتك زوجتي وما برحمها وأنا أعلم بإنك سبحانك رحيمًا رؤوف بهما.
انتهى يوسف من صلاته، ونهض يطوي سجادته، استمد بعض الطاقة التي انهدرت قبل أن يغتسل، عاد لغرفتها فوجدها تغفو بارهاقٍ تام، أغلق باب الغرفة بالمفتاح، واتجه يتمدد جوارها، يضمها بيديه بينما رأسه موضوع على كتفها، تاركًا سيل دموعه على كتفها يشهد على مشاركته لوجعها، بينما يهمس لها باحتقانٍ: أنا جانبك يا ليلى، جانبك ومش هسيبك!
اجتمع آيوب و عمران مع يونس و إيثان بمحل يونس، لاحظ عُمران نظرات إيثان المستريبة تجاهه، وما أن تأكد بانشغال آيوب ويونس بدفتر الحسابات حتى تسلل للأريكة التي يحتلها عُمران، جلس يحك رقبته بتوترٍ يشمه الطاووس من محله، ومع ذلك تابع هاتفه ببرودٍ متعمد، انتقل بجلسته جواره وتنحنح بخشونة: بقولك أيه يا خواجة؟
لزم صمته وتابع الهاتف، مرددًا ببرود: بشتغل زي ما أنت شايف!
تمعن بما يفعله يهاتفه، وقال بتذمر: افضلنا شوية طيب.
اتجهت رماديته إليه يمنحه نظرة تقييمية، وقال ببرود: وأفضلك بتاع أيه!
زفر بسخطٍ وصاح: يا عم اركن غرورك ده شوية وركز معايا، عايز أجبلها هدية ومش عارف!
وتابع وهو يشير باستياء تجاه مكتب يونس حيث وقوفهما: والاتنين دول تربية الشيخ مهران يعني لو سألتهم أجبلها أيه هيقولولي هاتلها ملحفة وسجادة صلاة!
وتابع بفتورٍ: متعصلجش بقى يا خواجة فكها!
عبث برماديته بدهشةٍ وقال: أيه معصلجش دي، آنت بتشتمني بالشعبي بروح أمك!
أذعن مطلبه: لا مش شتيمة صدقني، قصدي متصغرش عقلك، وبعدين أنا اللي عايزك في مصلحة ووقت المصالح الشياطين بيتصافوا مش هنتصافى احنا يا جدع! ده احنا بينا تحديات ومشاريع مستقبلية تشرف.
أحاطه بنظرةٍ ساخرة، وتمتم بسخط: طمنتني!
وتابع بتذمرٍ: جاي أهدي أعصابي بالمكان الصح والاشخاص الشخص، طول عمري ليا نظرة!
حاول أن يتلصص لحديثه وحينما فشل سأله ببعض الرفق الغير معهود عليه: ها يا خواجة قولت أيه؟
وضع هاتفه بجيب جاكيته الأسود، وقال بفتورٍ: عندك عربية؟
جحظت عينيه في صدمة، ونهض عن الاريكة يصرخ بحدة: عربية مين دي اللي أهديها بيها، بقى أنا أقولك متعصلجهاش تغفلقها! أنا لا يمكن أفرط في عربيتي فاااهم يا خواجة!
رفع ساقًا فوق الاخرى ببرود اتبع نبرته الواثقة: اقعد يا غشيم.
تنحنح حرجًا وعاد يجلس جواره كالطفل البريء، فقال عُمران ساخطًا: من بعد ما شوفت الأجهزة اللي طاير بيها للندن بقى عندي خلفية عن مودل عربيتك، فتأكد إنك هتهاديها بعربية كارو أفضل من اختياراتك الغشيمة.
وتابع وهو يمنحها بسمة استفزته وجعلته يعتصر غيظه بصعوبة: عدي عليا بليل بعربيتك الكحيانه نختارلها دريس سمبل وشيك لاني للاسف مش واثق في ذوقك.
وأشار بيده يسترعي انتباهه: وخد بالك كرمي معاك عشان خاطر محبتي لآيوب، فيوم ما ترجع ترازيه هتشوف وقاحتي وطولة لسان أطول من طولك الفرع ده، معلوم؟
برق ايثان بعينيه صدمة، مرددًا
أرزيه! فرع! خواجه من بولاق!
هدر ببسمة واثقة: احسبها واعقلها يا ايثو، وبلاش تعاند في وش الطاووس، مش هينوبك غير طولة لسانه ووقاحته.
واضاف ببسمة ماكرة، متبعًا نفس سياسيته: متعصلجهاش وفكها!
احتقنت معالمه غيظًا، وهدر من بين اصطكاك أسنانه: فكتها وروقتها لما أشوف اخرتها معاك أيه؟
منحه نفس الابتسامة الواثقة وقال: ماليش آخر يا آآ، إيثو!
وأضاف بغمزة خبيثة: مكان ما هتسايرني هتلاقيني، أنا رقبتي سدادة!
لوى شفتيه بتهكمٍ، وتطلع قبالته، فوجد يونس وآيوب يتابعونهما بدهشةٍ مضحكة، وما كادوا باستيعاب حوار حديثهما المتبادل في جو من السلام والسكينة حتى اقتحم فارس مجلسهم راكضًا، يلتقط أنفاسه بصعوبة، وبين يده يحمل كيسًا بلاستيكًا يتشكل على هيئة وعاء كبير، راقبوه جميعًا بفضولٍ، فكان يونس أول من تحرك تجاهه يتساءل باستغرابٍ: بتجري كدليه يا فارس، وأيه اللي في ايدك ده؟
ابتلع الصغير ريقه بتوترٍ، وقال: مش معايا حاجه.
لفت أمره انتباه الجميع، فنهض عُمران واتجه للصغير مبتسمًا: يا أهلًا بسيادة الطيار، مش هتسلم؟
أخفى الصغير الكيس البلاستيكي خلف ظهره، وناوله كفه يصافحه، تساءل آيوب بدهشة: أيه اللي ورا ضهرك ده يا فارس؟
تراجع الصغير يجيب: معيش حاجه يا عمو آيوب.
احتدت معالم يونس من طريقة ابنه الغير مبشرة بالمرة، فصاح بعصبية: يعني أيه مفيش حاجة، داخل تجري وبتخبي حاجه وراك بشكل غريب وتقولي مفيش حاجة، وريني معاك أيه!
اتجه إيثان إليه يلكزه بذراعه الممتلئ بعضلات تمرينه، غاضبًا: بتقولي غشيم وإنت مزروع جوه عنق الزجاجة، اتنيل ارجع ورا وسبني أتعامل على رأي خواجة بولاق!
نجح بدفعه للخلف، وانحنى بطول قامته ليصبح طول الصغير، وقال مبتسمًا: فروسه حبيب قلب عمو إيثووو، تعالى لعمو يا حبيبي ووريني مخبي أيه؟
ربع عُمران ذراعيه أمام صدره، واستند على الحائط هاتفًا بسخرية: الحاجة الوحيدة اللي حاول يعملها صح مش عارف ينجح فيها، غشيم وغبي!
وعاد يتابع مع يحدث في محاول لحجب حديثه، فوجده يخبر الصغير: إنت عملت حاجة غلط وجاي تستخبى، صارح عمو ايثو وخليك صريح يا حبيبي.
إلى هما وكفى، تحرر عن صمته هادرًا بحزمٍ: انتوا متجمعين حولين الولد كده ليه؟
وأشار ليونس وآيوب: مش كنتوا بترجعوا حسابتكم روحوا كملوا اللي بتعملوه.
وأضاف مشيرا باستهزاء لمن مازال يجلس أرضًا: عمو إيثو قوم من على الأرض التراب هيقفل شرايينك ياحبيبي
نهض إيثان يطالعه بغضب وصل لذروته ومع ذلك وضع اختيار الفستان وفتح الوتيك أمام مقلتيه، وتحلى بالصمت.
فتح عُمران كف يده وأشار للصغير ببسمة جذابة، فاتجه إليه يضع كفه بكفه، وتحرك معه للأريكة التي كان يعتليها، جلس وحمله على ساقه ومن فوقهما الوعاء الذي يحمله، مازال الجميع يتابعونه بفضول وخاصة حينما بدأ بالدردشة مع الصغير عن أمور دراسته وألعابه حتى قال بمكرٍ: آنت مش قولتلي إنك عايز تبقى طيار، قلبتها حارس شخصي ليه؟
أجابه الصغير ببراءة: لا عايز أبقى طيار يا عمو.
رد عليه مبتسمًا وهو يمسد خصلاته: وأحسن طيار في الدنيا كلها يا فارس.
وتابع بنفس بسمته: قولي عُمران بس من غير عمو، مش أنا صديقك زي مصطفى اللي بتلعب معاه؟
هز رأسه مؤكدًا، فأضاف عُمران بمكر: طيب بما إني صاحبك الجدع وريني معاك أيه، تسمحلي؟
قالها مستأذنًا قبل أن يحمل الشيء منه، فهز رأسه مبتسمًا بترحاب، زوى حاجبيه بتعجب حينما وجده يحمل إناء معدني مغلف باحكام، فتح غطائه ليجد أمامه ما صدمه.
انتقلت نظرات آيوب ليونس وفجأة سقط من الضحك وهو يردد بصعوبة: ما شبه أباه فما ظلم، كأني شايفك وإنت صغير المشهد بيتعاد قدامي!
قالها وسقط على المكتب يضحك بقوة، بينما يطالع عُمران الأصابع التي تملئ الاناء بدهشةٍ، دنى إليه ايثان يتطلع لما بالوعاء، وببسمة واسعة قال: كفتة رز من صنع الحاجة رقية!
وحمل الوعاء من بين يد عُمران قائلًا: تلزمني يا خواجة، خليك معتكف الزيوت لحد ما تشحن أجهزة تليق بسعراتك الحرارية، أنا معدتي محرقة.
بدأ يلتهم الأصابع وهو يشيد بفارس الغاضب: أول مرة تعمل حاجة صح إنت وأبوك يا فروسه.
صعد الصغير على حافة الاريكة وانتشل الوعاء منه بغضب، ثم جلس يلتهمه، رمش يونس بعدم استيعاب ودنى من ابنه يردد بتيهة: إنت سرقت الكفتة يا فارس؟!
شعر الصغير بخطأ ما فعله وقال وهو يلوك الطعام: أنا آسف يا بابا بس بحبها، وماما بتعملها وحشة.
رد عليه بصعوبة وهو يكبت الضحك: استأذن والحاجة رقية هتديك!
قال ببراءة: ادتني تلات مرات واتكسفت اتطلب تاني، واصلا أصلا احنا كلنا معزومين عندها عشان الخواجة، بس أنا مش بحبها بالصلصة انا عايزها كده.
تعالت ضحكات آيوب ودنى يستند على كتف عمران يخبره بضحك: الحاجة رقية كانت لسه بتهددني امبارح انها هتحرمني من الكفتة، الشعب كله هيتحرم منها النهاردة.
وفتح كفه للصغير هادرًا: اديني صبعين تلاته يا فارس أنا عمك الطيب يا حبيبي، افتكرلي كيس الحلويات اللي كنت بدلعك بيه كل يومين.
فكر الصغير بالامر، ومنحه بعضًا منها، تناولها آيوب بتلذذ وقال يشرح لعمران الذي يتابع ما يحدث بدهشةٍ: أبوه كان كده وهو صغير، كان يفضل يشد الكفتة طبق ورا التاني لحد ما منلقيش كفتة نحطها في الصلصة، بس فارس أذكى خلع بالحلة مرة واحدة
سحب ايثان بعض الاصابع وتناولها باشتهاء بينما يتابعهما يونس بصدمة وصرخ: بتهبب ايه انت وهو، ميصحش كده أنا هرجعها لمرات عمي.
قال ايثان وهو يغمز له: وده اسمه كلام، دي عيبة في حقنا لو رجعت للحاجة رقية، بص يا يونس أنا قتيل حلة الكفتة دي الليلادي!
تعصبت نظراته وتطلع لعمران يستجديه: شوفت يا عمران!
مسد على شعر الصغير بابتسامته الهادئة وقال: سيبه يا يونس، معتقدش إن الحاجة رقية هتضايق لما تعرف، بالعكس.
وتابع بحب: ألف هنا على قلبك يا حبيبي.
منحه آيوب احدى الاصابع قائلًا: خد دي انتشلتها من ايثان بالعافية.
أشار له مبتسمًا: لا ماليش فيها، ألف هنا ليك انت كمان يابن الشيخ مهران.
أصر عليه: هتاخدها يعني هتاخدها، وانجز عشان الحق الحلة قبل ما ايثان يلتهمها ورا الكفتة.
ضحك على حديثه وجذبها منه ثم اتجه يستند على الباب الخارجي للمكتب يتابع الاجواء بالخارج بشرود، لحق به يونس وجلس على الرخام الفاصل بين مكتبه والمحل مثله، واشار لاحد العمال يقدم لها مبلغ كبير من المال قائلًا: معلش يا محمد اطلع على الكبابجي، قوله يعمل 20 طبق كفتة وسجق وتشكيلة، طلع نص الكمية عند الحاجة رقية والنص التاني وزعه على العمال.
التقط منه المال يجيبه بحب: إنت تؤمر يا معلم يونس.
ردد عمران بمزحٍ: تكلفتها عالية الحلة دي.
ضحك وقال: بس بامانة تستحق.
شجعه بحديثه على تناول الاصبع الذي بيده، وقال مؤكدًا: نفسها هايل بجد.
أومأ برأسه والبسمة تزين وجهه، بينما يستمد همته لينطق: على فكرة يوم ما كنا بالمسجد وسمعت ابتهالك لمست جوايا كل وجع داريته عن العيون، يمكن لان صوتك كان موجوع ووصلني اللي جواك.
وأضاف بحزنٍ جعله يبدو كالذي يحتضر الموت: مبيحسش بالمجروح غير اللي جرحه لسه طاري، والجروح اللي أثارها بتدوم بتكون دايمًا سببها حد عزيز عليك، مش سهل تلم وتتغفر.
زحف الحزن لوجه عُمران هو الاخر، فتطلع أمامه بعيني غائمة، تابع يونس بابتسامة تئن: خليني اقولك نصيحة قالهالي حد من الاشخاص اللي بقوا عزاز على قلبي، ويمكن لما تسمعها تقدر تعرفه.
نجح بلفت انتباهه، حينما استدار بوجهه وجسده اليه، بينما تابع يونس بجمود تام: الشخص اللي مكانته عزيزة على قلبك مش سهل تفترق عنه، حتى وهو بعيد عنك هتربطك بيه علاقة كره، وما بين الكره والحب شعرة واحدة ممكن في لحظة متبقاش موجودة.
واستطرد يضيف: الشخص اللي نجح يأخد مكانة جواك مش هتقدر تتقبل إنه ميبقاش يعنيلك شي، هتلاقي نفسك بتدورله على حجة أو تصرف أو كلمة تعلق عليها حجتك عشان تحاول تمسح غلطاته وترجعله.
وتعمق بالتطلع إليه وهو يخبره عن معاناته خلسة: صدقني ده الجزء الأصعب، انك تتمسك بتصرف واحد عمله صح وتحاول ترجع زي ما كنت، انك تحارب نفسك ده في حد ذاته انجاز تستحق إنك تفتخر بيه، الفرصة اللي هتجددها هتكون مرهونة على الطرف التاني، لو قدرها واحترمها هتتأكد إنه هو كمان كان مستنيها عشان حبه وتمسكه بيك، لو هدرها بغلط جديد اطرده بكل قوتك بره حياتك وإنت مرتاح لقرارك.
واتسعت بسمته وهو يسأله بمكر: عرفت مين ده؟
تنهد وشعور الراحة يحيطه، وأجابه بعرفان: هو نفسه اللي محاوطني وواقف حواليا زي السد، هو اللي بوجوده محستش إني يتيم، ابويا وأخويا وصاحبي وكل ما أملك في دنيتي.
وتابع بفخرٍ: لا يوم انتبهيت بنجاحي ولا بنفسي أد ما بتباهى بيه، ربنا قسم أرزاقه بالعادل بين عباده وخصني بأجمل رزق، على اخويا.
هز رأسه اليه بابتسامة تشاركه الفخر بشخصٍ مثله، نهض عمران يخبره وهو يهندم ملابسه باهتمام: خليني استغل انشغال آيوب بحلة الكفتة وأروح لوالدة واحد صاحبي، عازماني بقالها كام يوم وحججي مش بتنتهي.
نصب عوده قبالته وقال ضاحكًا: يدوب تلحق، آيوب مش هيفارقك بسهولة.
أجاب بابتسامته الجذابة: عارف، ومبقدرش أزعله.
قال يونس ماكرًا: ولو مخلصتش مشوارك وجيت على الشقة أنا اللي هزعل منك يا بشمهندس.
ضحك بصوته الرجولي وقال: عنيا حاضر.
وأضاف مازحًا: متعاقبش فارس الكفتة تستحق بصراحه.
ضحك وهو يخبره: تستحق ونص.
قال وهو يغادر الدرج: طب روح الحق.
أجابه بحزن جعل عمران يضحك دون توقف: عملها في يوم أنا صايم فيه الغبي!
سحبت باب الشقة بايدي مرتعشة، مضت معه وسكينه مسلط من أسفل خمارها على بطنها، مال يهمس لها بحقد: نفسك لو طلع ولا حركة منك طلعت كده او كده السكينة هترشق في قلبك، فاهمه؟
حركت رأسها برعبٍ، وخاصة حينما صاح؛
نزلي الزفت ده.
أخفضت نقابها على وجهها، بينما فعل هو مثلها، فكانت يختبئ بملابس النساء، مرتديًا نقاب أسود وخمار طويل، كأنه يوصم نفسه بما استحقه هو، هبطت برفقته الدرج وهي تستند على الدابزين برعشة، وما كادت بتخطي طابق الشيخ مهران حتى تفاجئت بسدن تخرج عليها وتناديها: خديجا انت رايح فين من غيري؟
وتابعت وهي تتامل تلك المرآة البدينة، ذات النظرات الحادة: مين دي خديجا؟
ازدردت ريقها الهارب بصعوبة، وقالت: دي واحدة من قريبنا، ادخلي وأنا هنزل مشوار معاها وهرجع على طول.
سحبها معتز للاسفل دون سماع أي كلمة منها، زمت سدن شفتيها بتعجب وعادت للداخل، فوجدت الحاجة رقية تقف أمام السفرة ترتب الاطباق، وسألتها: كنتي بتعملي ايه بره يا بنتي؟
ردت عليها بحيرة: مش عارف خديجا ماشي مع واحدة كبيرة اوي ولابس نقاب زيها، وبتقول انه قريبتها راح معاه مشوار وراجع!
توقفت عن وضع الاطباق ورددت بدهشة: مين دي اللي خديجة نزلت معاها من غير إذن مني أو من الشيخ مهران! دي عمرها ما حصلت!
وأضافت بصدمة: وبعدين هي ملهاش حد غير المرحومة أمها.
هرعت للشرفة تحاول لقطها بالحارة ولكن دون جدوى، فصاحت الى سدن بحزمٍ: هاتيلي الاسدال بسرعة!
جاب طرقات الحارة مغادرًا لزقاق حارة جمال البعيدة عنها بقليل، فاذا بهاتفه يعيد رنينه مجددًا، رفع عُمران هاتفه وقال ببسمة مشرقة: دكتور على الغرباوي بيكلمني بنفسه! I can t believe myself. (أنا لا أصدق! )
وبعدهالك يا عُمران! كام مرة كلمتك ومردتش! هو ده كان اتفاقنا؟
ارتكن على أحد الارائك الموضوعة جانبًا بالحي، وقال: حقك عليا يا على إنت عارفني بعمل كل حاجة بمزاج.
ومزاج جنابك مش جايبك تعبر أخوك الكبير!
أوه، على أنا مبسوط ومش حابب أتخانق ممكن!
=وأنا عايز أيه غير إنك تكون مبسوط ومرتاح؟
واللي عايزه حصل، وجودي هنا ريحني صدقني، وحتى وأنا بعيد عنك بصمتك ملاحقاني من لندن لهنا.
=بحاول أفهمك بس للاسف دماغي مش مجمعة تركيبتك!
سمعت اللي كان المفروض اسمعه.
وتابع بحزن: تعرف إن من كلام يونس حسيت اد أيه هو عانى! ويمكن أكتر مني.
علم مقصد حديثه فقال: إنسان صبور وعدى باللي مفيش إنسان يقدر يستحمله، يونس نموذج لنماذج كتير اتوجعت في حياتها يا عمران، لازم تعرف إن مش إنت لوحدك اللي موجوع بالعكس ممكن يكون وجعك هين قصاد ناس كتيرة أوي، لو مقدرتش تتعظ من وجود ناس مبتلية زي يونس، اركب تاكسي وقوله وديني 57357، ممكن تكون بتتبرع بفلوس كتيرة بس لما تشوف اللي يوجعك هتعرف إن وجعك هين والله.
وقال يبدد حديثهما المؤلم: وبعدين إنت مش هتسحب عفاريتك عن شمس هانم ولا أيه؟
قال يجيبه بتعنت: ولا حتى بعد الفرح، عفاريتي هتفضل ملاحقها هي وحضرة الظابط لحد ما يخلع!
خرج شمس من دماغك يا عمران، ووصل هديتها لادهم بهدوء
مش هيحصل يا علي، الهانم مكلفاني أختارله هدايا على ذوقي، دي عمرها ما فجأتني بهدية واحدة متخيل؟
ضحك وهو يخبره بتهكم: وانت بيعجبك ذوق حد! محدش يجرأ يجبلك هدايا لاننا عارفين مصيرها، مش حوارنا لخص ووصل الهدية.
باحتقان وغيظ قال: مش بالسهولة دي انا بسببها غيرت البرفيوم بتاعي، متخيل!
غيرته ليه مش فاهم؟
مهي الهانم طالبتني أجبلها نفس الماركة فاضطريت أجيب لجناب الرائد واغير أنا لنوع تاني، متخيل يعني بذكائك أني هحط نفس النوع بعد ما حد تاني يحطه!
انفجر بنوبة من الضحك وقال: لا ميصحش يا طاووس، دي متجيش بجميع المقاسات.
وتابع بجدية: المهم مايا مصممة تنزل معانا مصر، ومن ساعة ما مشيت منعت الاكل، أنا مش عايز حالتك النفسية تقصر عليها وعلى ابنك!
تنهد بضجر وقال: متقلقش هتصرف، وخلاص العمال بداوا ينضفوا قصر الغرباوي، قبل وصولكم هيكون جاهز لاستقبال فريدة هانم.
الله عليك يا بشمهندس، أحبك وأنت بعقلية رجل الاعمال الناجح ده.
مش دايمة لحد يا دكتور، دقيقتين كمان وهيخرجلك الطاووس الوقح، عندي انفصام في الشخصية بعيد عنك وعن السامعين.
مرت من جواره السيدة الملقبة ب(أم عزت) حيته ببساطتها: منور الحتة كلها يا بشمهندز، كده متعديش عليا أحضرلك غدا من اللي هو.
منحها ابتسامة وقال: من النجمة هتلاقيني عندك يا ست الكل، بس دلوقتي معزوم عند ناس حبايبي.
تابعت بمعزة حملتها اليه: هستناك سلام عليكم.
ردد السلام وابتسامته تتسع شيئًا فشيءٍ، عاد يضع هاتفه على آذنيه فاستمع لصوت ضحكات علي، الذي تساءل بصعوبة: مين دي يا بشمهندس؟
اجابه بحماس: أم عزت عرفني عليها آيوب، بس بتعمل أيه شوية فلافل وبتنجان يستهلوا بوقك يا دوك، ويمكن دي من أهم الاسباب اللي هتخليني أفضل في cairo.
وأضاف إليه: لما تيجي هخدك أكلك عندها مرة.
=إبعد عني يا عُمران، أنا مبسوط كده خليك في أكلك إنت، وأوعى تعرف فريدة هانم باللي قولته ده.
مبسوط ازاي وإنت كده! على إنت لازم تلعب رياضة لانك sorry شبه خلة السنان.
=أنا مقتنع بنفسي وحابب نفسي كده، ركز في رياضتك واعتقني أنا وشمس لوجه الله.
يابني الرياضة بتربي عضلات، جسمك حلو وإنت مهتم بيه بالأكل الصحي، فاضل بس تشيل حديد.
= الوقت اللي هشيل فيه حديد أقرألي فيه كتابين تلاته، فخليك في حالك وإترك حالي لحالي، وقبل ما ترغي كتير هقفل وشوفلك حل مع مايسان، يوسف مقلقني من حالتها، يلا سلام.
أغلق عمران الهاتف وفتح محادثة زوجته، حرر زي التسجيل وقال بخبث.
«اشتاقتيلي مش كده، وأنا كمان مع اني لسه قافل معاكِ يا بيبي، بس للاسف رسالتي مش خير ليكِ أبدًا، كده حبيب قلبه متقدم فيه شكوة، فحبيت أبلغك رسالة وإعتبريها انذار، لو فاكرة إني مش موجود فده هيديكي الحرية تأهملي في أكلك وأوديتك فده مش هيحصل، بنهاية الاسبوع ده لو مكنش ميزانك زايد 3أو 4 كيلو مفيش سفر لمصر يا مايا وانتِ عارفة كلمة عُمران الغرباوي قادرة تعمل أيه حتى وأنا مش موجود».
نهض عن محله، يعيد الهاتف بسترته السوداء، يستعد للرحيل، فإذا بتلك المرأة المسرعة تصطدم به، فأسقطت عنها الحقيبة التي تضعها على يدها باهمالٍ، حرك عُمران كفه ببعض الألم، جسد تلك المرأة كان قويًا لدرجة جعلته يطالعها بدهشةٍ.
انحنى يليتقط حقيبتها، واستقام يقدمها لها هاتفًا بلباقة: أنا آسف حضرتك اللي طلعتي فجاة قدامي.
هزت رأسها وهي تمد يدها لتلتقط الحقيبة بتوتر، قدم لها عمران الحقيبة، فلفت انتباهه يدها الخشنة والمطموسة بمعالم الرجولة، عاد يتمعن بوجهها بنظرة متفحصة ولتلك للهزيلة التي تجاورها، وقبل أن يترجم اشارات عقله، وجد السيدة رقية تندفع نحوهما وهي تصرخ بجنون: خديجة!
حملت هاتفها وهبطت تبحث عنه، حتى عثرت عليه بمكتبه، بعد أن بدل وجهته عن جناحه خشية من أن تعلم ما مرت به شقيقتها، ولجت فاطمة تبحث عنه هاتفه بذعر: علي، بكلم زينب من الصبح مبتردش عليا، ممكن تتصل بسيف وتخليه يديها التليفون أنا قلقانه عليها أوي.
نهض عن مكتبه يسيطر على ثباته بصعوبة، وقال بهدوء: ما يمكن نايمه أو قفلت موبيله وحبت تقضي شوية وقت مع جوزها.
هزت رأسها برفض تام وقالت: مستحيل تعملها، هي عارفة اني بقلق عليها.
وأكدت عليه باصرار: كلم سيف بسرعة.
اضطر أن ينصاع لها، وبالفعل اتصل هاتفيًا به، فوجده يجيبه مندفعا: دكتور علي، البشمهندس جمال اتأخر اوي ومعاد الطيارة خلاص.
أسرع يحجب حديثه: فاطمة قلقانه على زينب يا سيف، اديها الموبيل تكلمها لو أمكن.
وقدم لها الهاتف ثم وقف يتابعها باهتمام، عاتبها فاطمة فور، ان استمعت لصوتها: زينب، حبيبة ديالي واش انتي لاباس؟ تيليفونك مسدود من الصباح، انا اتخلعت عليك!
(زينب حبيبتي انتي كويسة؟ قافلة موبيلك من الصبح ليه قلقت عليكي! )
=انا بخير ا فطيمة، غير التيليفون ديشارجا و خلاص
(أنا كويسة لا فاطمة بس الموبيل كان فاصل شحن مش أكتر)
زينب مالك، صوتك جاني غريب اش حتحاولي تخبي عليا؟
(صوتك غريب، بتحاولي تخبي عني أيه يا زينب؟ )
أجابتها بتوتر: لا والو احبيبة، غير انا مشغولة كنجمع حوايج السفر، حيت سيف قرر اننا نمشيوا ندوزوا شهر العسل في مصر
(مفيش يا حبيبتي، أنا بس مشغولة بترتيبات السفر، لان سيف قرر إننا نقضي شهر العسل بمصر)
بدهشة هتفت: مصر! ولكن انتي ماقولتيليش هاد الخبر فاش كنت عندك اخر مرة!
(مصر! بس انتي مقولتليش الخبر ده وانا عندك أخر مرة! ).
ردت عليها بتوتر: حيت هو كان دايرهالي مفاجأة، و يلاااه قالهالي هاد الصباح
(عشان هو كان عمالهالي مفاجأة، لسه عارفة الصبح)
وأضافت لتطمنها: ما تقلقيش الدكتور على قالي بانه يومين و غايلحق بينا باش يحضر عرس شمس.
(متقلقيش دكتور على قال انه يومين وهيحصلنا عشان فرح شمس)
تنهدت فطيمة وقالت: بصح ازينب، انتي بخير؟
(بأمانة يا زينب انتي كويسة؟ ).
أجابتها بحب: انا بخير احبيبتي غي ارتاحي و ريحي قلبك، يلااا سيف كيقولي سربي راسك، غنعيط ليك من بعد
(انا بخير يا حبيبتي اطمني وطمني قلبك، يلا سيف بيستعجلني، هكلمك بعدين)
اغلقت الهاتف وتطلعت لعلي بنظرة مهمومة، تركا الهاتف على المكتب وخرجت دون أن تضيف كلمة واحدة.
فور أن وجدها معتز تقترب منه، ألقى الحقيبة ونزع الخنجر من أسفل خمارها، يصوبه أسفل ذقنها بعدما نزع نقايه وصرخ بجنون: أي حد هيتحرك من مكانه مش هسمي عليه.
وفجأة اقتربت منهم سيارة مكشوفة، تحمل أربعة رجال ذو بنية قوية، يحملون الاسلحة البيضاء المدببة، هبطوا يسرعون اليه ويأشرون بالخناجر في وجوه المارة ليبعدوهم عن ذلك الوضيع الذي اشتراهم بمبلغ زاهد من المال!
ترك باب سيارته مفتوحًا وسحب سلاحه الخاص، ثم هرول تجاه وكالة يونس، اقتحم مكتبه بشكل افزع فارس والشباب، فكان آيوب اول من تحدث: آدهم!
صاح بيونس وعينيه نفتش عن غايتها: معتز هرب!
انتفض بجلسته وأسرع إليه يهتف بهلع: هرب ازاي؟
اجابه وهو يسرع للخارج: مفيش وقت، أكيد هيحاول يتعرضلك أو أ.
جحظت عيني يونس دون سماع باقي كلماته، هرول راكضًا تجاه المنزل، فاستوقفه مجموعة من الناس يتجمهرون حول شيئًا غير، مرئي له ولمن خلفه، اتجه إليهم، لتضربه صاعقة فور أن رآها تنازع والسكين يحيط رقبتها!
التعليقات