رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث والثلاثون
لا أعرف من أين يمكن أن أبدأ وكيف؟
من تلك النهاية التي جنيت فيها ثمار صبري!
أم من ذلك الجرح الغائر الذي ما زال يستقطب إليه نعيم كل أيامي ويمررها!
أبدا من عينيه التي أستهللت عندها وانطفأت!
أم من الأمان الذي طوق قلبي بصحبته!
أم بصبره علىّ وتحمله مخاوفي وسعيه الدائم لهدمها!
أم من شكوى مرارة الحيرة التي ما زلت أعاني منها وأكبرها.
معاناة وقوفي الدائم بالمنتصف. من حملي لرومانة الميزان حائرة بين كفتي العقل والقلب، اجهاد كي أعدل بينهم ورغم رُجحان كفه العقل واتزانها إلا أن كفة القلب خُلقت مائلة عن الأعراف والمتاح والمُمكن وهذا هو سر عنائي المستمر. أنني أميل دائمًا إليها، إلى قلبي الذي لم يُخلق إلا عاصيًا.
قبل ست سنوات
تأرجحت وتراقصت أفاعي الانتقام أمام الغرفة التي ترقد بداخلها مها التي فارقت غُرفة العناية للتو، تتمدد وتتطلع إلى السقف تستوعب حقيقة كونها ما زالت على قيد الحياة. صحة هروبها من الموت بأعجوبة!
تتذكر كيف صارعت الموت بكل قوتها!
وكيف نجت من براثنه الطائلة بمعجزة إلهية، أو بدعوة صادقة عانقت أبواب السماء، فاستجاب لها القدر!
تنفست بارتياح وهي تتصالح مع الحياة التي ابتسمت لها من جديد بعد ثلاثة أعوام من المعاناة؟
كيف منحتها فرصة آخرى لتنعم بحياة هادئة مع حبيب أيامها وبناته! تخيلت كيف سيكون لون الليالٍ برفقتهم يا ترى! هل مثلما تمنت أم أعظم بكثيرٍ!
دخلت جيهان وعبلة عليها الغرفة تاركين هدير تلهو عاصي بالأسفل، عيون انتقامية يملؤها لهيب الثأر والحقد غمرت الغرفة. تململت مها في فراشها بوهنٍ:.
-فين بناتي؟ وعاصى كمان، قال لي هيخلص حساب المستشفى وجاي. اتأخر ليه؟
ألتوى ثغر الحية بضحكة شريرة: -بردو اتحدتيني وعملتِ اللي في دماغك؟
انكمشت ملامح مها التي تفهم جيدًا مغرى الشر من وراء كلمات عبلة الخبيثة. حاولت أن تنهض ولكن بطنها المجروحة ألمتها كثيرًا، تأوهت متوجعة وهي تكرر بحدة:
-فين عاصي؟ أنا عايزة جوزي.
مالت عبلة إليها وقالت: -أنتِ فاكرة لما تتحديني كده هتكسبي؟ أنا سبتك تتجوزي ابني بمزاجي، لأنه صمم عليكِ، كنت فاكرة الموضوع شهرين وقرشين وتروحي في ستين داهية! بس أنتِ اتمسكنتي لحد ما اتمكنتي.
غمضت مها جفونها بصرامة وضيق: -أنا عايزة عاصي. مش طايقة أبص في وشك. سيبيني في حالي بقى.
قهقهت الساحرة الشريرة فوق أذانها وأكملت بنبرة تشبه فحيح الأفعى وهي تداعب خصلات شعرها:.
-على فكرة أنتِ مكنش عندك مشكلة في الحمل، بس اجبرتيني على كده. قهوتك الزيادة بتاعت كل صبح كُنت أعملها بنفسي، واحط لك فيها حبوب تضعف بطانة الرحم عندك، يمكن عاصي يزهق ويطلقك. بس طلعتي عنيدة وحملتي وكمان فوقتي.
تأملت مها في نومتها: -كفاية، ابعدي عني. أنتِ شيطانة.
ثم شرعت في إصدار صرخات الاستغاثة في تلك اللحظة توترت الأجواء. دفنت عبلة وجه مها بالوسادة كي تكتم صوت استغاثتها، وفي نفس الوقت فرغت جيهان الأبرة السامة بالمحلول المائي المعلق. حتى رفعت عبلة رأسها تسأل اختها:
-خلاص…
أومأت جيهان بهلع وهي تتخلص من الأبرة: -خلاص.
شرعت عبلة في رفع الوسادة عن وجهها وأخذت تتأمل ملامحها المتجمدة والنائمة في سلام. مررت سبابتها أمام أنفها تتحسس أنفاسها حتى اتسعت ابتسامتها وقالت: -وهي كمان خلاص. يالا يالا.
توارت سيدة التي تراقبهم من وراء الزجاج خلف الحائط بملامح يملأها الذعر والخوف. لم تحملها قدميها من هول ما رأته وهي ترتعش. ضمت تلك الصغيرة التي أحضرتها لترضعها أمها وأخذت تنحب بأنين العجز وقلة الحيلة…
فزعت سيدة صارخة من نومها المتقلقل والسر الذي تعمدت دفنه لسنواتٍ كي تحافظ على مصدر دخلها الوحيد، بات يطاردها من جديدٍ كالشبح. فتحت نور الأباجورة بجوارها وهي تلهث باحثة عن أقراص الدواء المهدئة التي استمرت في تناولها منذ تلك اللحظة التي شاهدت فيها شر بنات المحلاوي على أرض الواقع، ومن وقتها اتخذت قرارها أن تكون كالملاك الحارث لعاصي وبناته وأخرهم حياة التي حاولت بكل جهدها أن تحميها من مكرهن…
بعد مرور أسبوع
أحيانًا لا يبكي المرء بسبب ضعفه فقط، بل لشدة مقاومته، أن قوته لست كافية ليتجاوز الأمر. يبكي لدرجة الانهيار لأن ثمن تلك القوة صعب جدًا…
سبعة أيام مروا عليها بقسوة سنوات عمرها بأكمله. دائمًا صامتة شاردة، نسيت كيف تنطق الكلمات، حالة من التيهِ والحزن سكنت رأسها، مستلقية على فراشها وهي تمرر أصبعها على رحمها من حين لآخر تستيقن حقيقة خلوه من بذور الحُب التي جنت ثمارها لأشهر مضت وتجيب أعينها بمدامع الحسرة.
بشقته التي حبذا أن يعود إليها بدلًا من قصر دويدار الذي بات لا ينتمي إليه. دخل عاصي حاملًا مائدة الإفطار وبعض الأدوية التي حان موعدها. ترك ما بيده جنبًا ثم توجه نحوها قائلًا بهدوء:
-حياة ممكن تطلعي من الحالة دي؟
طالعته بأعينها التي تملأها الحسرة ثم انصرف أنظارها للسقف مرة آخرى. مرر كفه على وجنتها مطمئنًا:
-حبيبتي حزنك مش هيرجع اللي حصل، بس في أيدنا نصلح اللي جاي. قومي يلا.
وثبت بتثاقل وهي تضم ركبتيها إلى صدرها:
-حاسة بوجع شديد بيأكل في جسمي كله، ومش عارفة أسكنه إزاي،!
تلقى على أبهامه عِبراتها المنهمرة وقال: -بعد الشر عليك. مش متعود عليكي ضعيفة كده.
حضنت كفه ومالت رأسها عليه وشكت همها: -صدقني مش قادرة.
ثم بللت حلقها الجاف وسألته: -البنات فين؟ مش سامعة صوتهم.
-لسه نايمين. ممكن تفوقي كده عشان نفطر سوا، وحشني الكلام معاكي.
أستسلمت لرغبته مجبرة ونهضت ببطء متجهة نحو المرحاض لتزيل عن وجهها أثر الدموع ثم عادت إليه. تحرك من مكانه ممسكًا بيدها وسار معها نحو الأريكة. جلست بجموحٍ ثم سألته بصوت شامس:
-أنتَ نازل؟
مد لها كأس العصير لترتشف وأجابها: -اطمنت عليكِ، هنزل اقابل عالية وتميم ونتكلم، وبعدين هرجع عشان عندنا سفر بالليل.
ارتعشت يدها القابضة على كوب العصير: -أنت متأكد من قرارك ده يا عاصي! هتقدر تستقر في الغردقة.
فرد الجبن فوق قطعة الخبز وقال: -أنا خلاص اتفقت على كل حاجة مع أخواتك، هبدأ البزنس بتاعي هناك. أنا محتاج أبعد يا حياة، ولو توافقي هنطلع بره مصر خالص. أنتِ اللي رافضة.
ثم دقق النظر في ملامحها العابثة: -أنتِ مش مبسوطة ولا أيه عشان هترجعي المكان اللي بتحبيه؟
ردت بفتور: -أنا ما بقتش عايزة حاجة.
طبع قبلة طويلة على كفها ثم ناظرها بأعينه المواسية والتي ظلت تحرسها طوال الأسبوع المنصرم:.
-حياة اللي عرفتها كانت أقوى من حياة اللي شايفها قُدامي. متعودتش منك على كده.
بررت ضعفها: -عارف لما تسرق حاجة من بين سنان الدنيا، وتحس للحظة إنك انتصرت عليها وفجاة تخسرها. أنا كنت مستنية البيبي ده أوي، حسيته عوض ربنا ليا. بس راح مني يا عاصي.
ثم مالت على كتفه وهي تحتوي ذراعه وتضمه إلى صدرها: -أنا عُمري ما هسامح اللي كان السبب.
فك ذراعه من أسرها وتبدلت الأدوار ليطوقها به ليحضنها بقوى، ترك الاثنان زمام الحوار لمشاعرهم التي تترمم ببعضها. استمر صمت الألسن طويلًا حتى قطعته متأملة:
-هنعوض البيبي مش كده. نفسي يكون لي طفل شبهك، أنا وحامل في ابنك كنت زي الفراشة طايرة مش حاسة برجليا، عايزة أعيش الأحساس ده تاني وألف معاك يا عاصي.
ثم مررت كفها المرتعش على وجنته وقالت: -أنا واثقة أنك هتقدر تنسيني كل ده. واثقة فيك وفي حبك ليا.
كلماتها كانت بمثابة خناجر تطعن في قلبه حاول تسكين مشاعره بأن كل شيء سيهون إلا أنه يخسرها للأبد. لا يعرف صحة من خيبة قراره ولكن تلك المرة لم يغامر ويخاطر بحياتها من جديد حتى ولو كان أنانيًا بقراره معها.
نثر العديد من قُبلات اعتذاره فوق ملامحها ليسكن غضبها ويهدأ روعها، استقبلت قُربه بلهف وشغف الظمأن حتى انتهى بها الأمر أن تعانقه بعناق طويل يملأه الضعف وكأنها أرادت أن تعيد بناء نفسها من قُربه. مسح على ظهرها بحنو ثم قال:
-اسيبك تجهزي عشان بالليل هنتحرك.
ابتعدت عنه بتحيرٍ ثم قالت له: -قبل ما نسافر، خلي البنات يزوروا مامتهم ياعاصي.
ثم ابتلعت غصة أحزانها وأكملت: -آكيد هي مفتقدة وجودهم، جات في بالي الفترة اللي فاتت، كنت قبل كده مستغربة ازاي واحدة تخاطر بحياتها عشان تبقى أم. أنا حسيت بمها من بعد خسارتي لابني.
أرهقني القلق تجاه كل شيء اتسأل كيف يكون شعور الإنسان وهو بعيد عن القلقِ والحذرِ في كل خطوة يخطي لها أو حتى يفكر، راحة البال أصبحت مطلبي ولكني أعلم جيدًا أن نيل المطالب لست بالتمنّي.
تململت عالية من فوق فراشها على صوت رنين هاتفه بتثاقلٍ وهي تفتش عن مراد بجوارها فلم تجده. ألقت نظرة على الكمود وقفلت صوته ثم عادت مُلقاة بإهارق على مخدها، تفقدت تفاصيل الغُرفة حولها بشعور مضطرب لا يمكن وصفه، شعور مسموم، يشقُ في الروح كدمة لا يستطيع المرء أن يضمدها، كدمة بالغ آثرها لا يمكن زوالها بسهولة.
قبل أسبوع
وصل مراد برفقة عالية إلى المشفى التي ترقد بها حياة، فاندفعت ناحية عاصي وسألته:.
-حياة عاملة أيه يا عاصي؟ طمني.
رد تحت تأثير صدمته: -حالتها مطمنش يا عالية.
ربتت على كتفه بحنان: -متقلقش إن شاء الله هترجع أحسن من الأول. ومتزعلش نفسك ربنا يعوضك خير عن البيبي.
جلس مهمومًا على المقعد المعدني وسألها: -أنتِ أحسن دلوقتِ؟
تعلقت غصة الحزن بحلقها: -ممكن أسأل سؤال، عارفة مش وقته. بس لازم أعرفه.
أجابها بتعب وهو يُقاوم: -قولي يا عالية؟
-أنت كنت تعرف إن عبلة مش أمي.
حك كفيه ببعضهما مزفرًا عند سماعه لاسمها وكأنه يجاهد ليخفي حُمرة الغضب المشتعل من بين ملامحه: -لا. كانت مفهماني أنك بنتها الوحيدة اللي لازم تحميها من غدر عيلة دويدار، كانت بتبرر عملتها وأنها أخدت طفل وكتبته باسمها عشان تبقى هي أم الولد الكبير وكل الثروة دي تبقى ليها.
أغرورقت عينيها بالعبرات وهي تسأله: -ليه طاوعتها وكملت في مسرحيتها. ليه؟
وثب قائمًا متحركًا إلى الزجاج الذي يفصل بينه وبين حياة الراقدة أمامه. تابعت خُطاه وهي ترمق زوجته بشفقة ثم قالت مواسية:
-ربنا يقومها بالسلامة.
هز رأسه بجمود خارجي داخله فراغ وقرر أن يُجيبها على سؤالها:.
-لما عرفت كنت طفل 15 سنه، لسه فاكر كلامها وتهديدها. سابت عزاء شهاب دويدار وقفلت المكتب علينا. ادتني شهادة ميلاد وقالت لي إني مش ابن دويدار ولا ابنها، وأمك خياطة وأبوك جنايني. وأنها انقذتني من الفقر، و رد الجميل لتعبها ده إني اسكت وأكمل وإلا مصيرك هيبقى زي مصير أمك وأبوك. هتعيش وتموت عامل.
ثم ألقى نظرة طويلة مطوية بالاعتذار لعالية:.
-كنت مجبر أوافق، مش بعد النعيم ده كله هترمي في الشارع! كملت في مسرحيتها لحد ما بقيت زي العروسة الخشب. تحركها زي ما هي عايزة، كنت فرحان بلقب عاصي بيه سلطة نفوذ وخدم، خلتني أشك في صوابع أيدي، حتى تميم بقيت أراقبه طول الوقت منا خايف سري ينكشف وأطلع خسران. مين الغبي اللي يسيب كُل ده!
ردت عالية بحزن بالغ: -عرفت تلوي دراعك،!
هز رأسه بأسف ثم أتبع: -الوحيدة اللي عرفت السر ده مها. وعشان كده صممت يكوني عيلة وأولاد اتسند عليهم، قالت لي السر هيجي له يوم ويتكشف. من يومها خدت عهد على نفسي أحافظ على فلوسك أنتِ وتميم، وابتدي أعمل بيزنس لنفسي بعيد عن فلوس دويدار.
بلعت غِصة أحزانها وأخبرته بنبرة مبطنة بالبكاء: -على فكرة، كل ده مش فارق لي. أنا هفضل طول عمري معتبراك أخويا أنت وتميم، أنا ماليش غيركم ولا أنت ناوي تستغنى عني؟
ضم رأسها إلى صدره بعد ما وضع قبلة خفيفة فوق شعرها المبعثر وقال بحب: -أنتِ كُنتِ بنتي الأولى يا عالية، سامحيني لو كنت قسيت عليكِ وظلمتك، بيت وحضن أخوكي مفتوحين لك في أي وقت.
ربتت على كتفه بتودد: -ربنا يخليك ليا. انا مش زعلانة منك بالعكس والله.
ثم امتدت أنظارها لأخر الممر وأخبرته: -طنط سوزان جاية مع مراد…
تحركت عالية لاستقبلها فضمتها سوزان بكل حُب بعد ما أخبرها مراد سرًا عما حدث ليلة أمس بقصر دويدار وحقيقة نسب عالية المجهول، فوضعت معه الخطة سِرًا لاستكمال كشف الحقائق. صافحت عالية سوزان وأخذت تشاركها الحديث، أم عن مراد وقف بجوار عاصي وقال له بهدوء:
-شد حيلك.
أومأ رأسه متقبلًا تعازيه فابتعد مراد وعاصي عن موقف سوزان و عالية، أخبره مراد: -لسه كنت مع الدكتور وطمننا أن حياة حالتها مستقرة وعلى بكرة ممكن تخرج.
اكتفى بكلمة خير وهو يُقلب في أحدى الرسائل على هاتفه، أكمل مُراد قائلًا بخجلٍ: -أنا عارف أنه مش وقته بس.
قاطعه عاصي ممتنًا لمعروفه لإنقاذ حياة: -شكرًا على اللي عملته مع حياة. لولا وجودك مش عارف كان حصل أيه.
-أنا معملتش غير الصح في الوقت اللي كان لازم ادخل فيه، لأن عواطفك كان سابقة عقلك أنا متفهم. بس مش موضوعنا.
رمق عالية بنظرة سريعة ثم قال: -عالية ماينفعش تبقى لوحدها الفترة دي، ولازم أكون جمبها. وأنت أخوها محدش يقدر ينكر فلو تسمح يعني…
قاطعه متفهمًا طلبه ولكن بنبرة حادة: -لسه فاكر أن عندها أخ! مراد أنت لو فاكرني نايم على وداني ومش دريان بمقابلاتك أنتَ وعالية تبقى غلطان. من أول مجيتك ليها الفندق وعارف أنكم بتتقابلوا.
تراجع مراد بخجل لا يمكن تبريره، تقطعت الكلمات الحائرة: – أنا مش قصدي أكسر كلمتك بس عالية مراتي وو
-فاهم، بس في أوصول. وعشان وقفتك مع حياة أنا هنسى كل اللي حصل.
ثم ربت على كتفه وقال: -خلي بالك منها، أنت أقرب حد ليها دلوقت.
لأول مرة وبعد مضي عشرين عاماً مال مراد على عاصي ليحضنه كحضن أول فوز لهم في بطولة النادي. حضن كل منهما الآخر بالصُلح فعادوا الرفاق رفاق، وانقشعت غمامة الكراهية عنهم. أقبلت عالية وسوزان إليها بنظرات يعلوها العجب والتعجب. تعلقت عيني عالية بمراد وكأنه تستفسر منه عما حدث. حتى سألته بذهول:
-هو في أيه؟
مازال يعتصر قبله بالحزن ولكنه دفنه للحظات بقلبه وسألها ممازحًا: -جوزك بيحايلني عشان يرجعك! أنتِ أيه رأيك؟
بهتت ملامحها الحائرة: -معرفش، اللي تشوفه يا عاصي!
-أهي مش راضية يا عم.
تدخل لينقذ الموقف: -دي بتتقل علينا بس، سيبني أنا هفهمها.
لحقت عالية نفسها وقالت: -أنا موافقة لو عاصي وافق.
رمقها بتخابث: -وقال يعني فارق معاكي أوي موافقة عاصي!
-هااه؟
همس مراد بتحذير: -اسكتي بقا عشان طلع كاشفنا وشكلنا وحش.
فرحت سوزان بعودة العلاقات بينهم ثم رفعت أنظارها لعاصي وطلبت منه بخجلٍ: -عاصي ممكن كلمتين بس.
اتخذت معه جنبًا تستجمع فيه كلماتها التي بدأتهم: -البقاء لله في البيبي. أنتوا لسه صغيرين والعمر قدامكم طويل.
رد باختصار: -شكرًا…
غيرت مجرى الحديث ووضحت موقفها: -أنا عارفة أنه مش وقته وأنا الزعل باين عليك. بس هقول كلمتين يريحوا ضميري. أنا أسفة يا عاصي على كل حاجة، منكرش أن عبلة كانت بتبخ في دماغي أفكارها السم وأكيد أنت عارف من غير ما أوضح، أنا عايزاك تنسى اللي فات وتعتبرني في مقام أختك الكبيرة وو
وفر عليها سرد المزيد من الأعذار: -مشكلتي مش معاكي، واللي حصل مفيش داعي نقلب فيه. كلنا بنغلط محدش معصوم. بعد أذنك هشوف مراتي…
عودة للوقت الحالي
في يلا سوزان التي أصرت على مراد وعالية أن يعودوا معها لتعتني بها أثناء فترة غياب زوجها اضطرات عالية أن توافق خاصة بعد نفورها التام من عالم دويدار المزيف. ووافق مراد على مضض استكمالا لمخططهم.
ملت عالية من رنين هاتفه المتكرر، فغادرت فراشها بكلل وارتدت معطفها الحريري فوق منامتها وهبطت لأسفل وهي تفتش عنه.
بغرفة المكتب
-مفيش أخبار عن عبلة يا مراد؟
رد بضيق: -قلبت عليها الدنيا مفيش. والشرطة كمان بتدور. المهم أي أخبار التحليل؟
أجابته سوزان بحماس وهي تفارق مقعد مكتبها: -النتيجة النهاردة. متتصورش أنا مرعوبة أزاي؟ قلبي بيقول لي ان عالية بنتي بس بردو في خوف. قلبي مش هيرتاح غير لما أشوف النتيجة بعيني…
في تلك اللحظة اقتحمت عالية عليهم المكتب ف عمّت الحيرة والارتباك على سوزان ومراد خشية من سماعها شيئًا. وقف مراد ليقطع وتيرة الأسئلة المعقدة وقال: -في حاجة يا حبيبتي؟
ردت بهدوءٍ: -موبايلك مش مبطل رن.
أخذ الهاتف منها فوجده رقمًا مجهولًا، عاود الاتصال به فأتاه صوت العسكري يبلغه بعثوره على إمراة تشبه المواصفات التي سبق وأبلغ عنها. رد مراد ملهوفًا: -أنا جاي لك حالًا.
سالته عالية بقلق: -في أيه يا مراد؟
رد بعجلٍ: -عالية اجهزي عشان معادنا مع عاصي وتميم. هوصل مشوار ساعة وراجع.
-طيب فهمني في أيه؟
هتف بسرعة وهي يغادر الغرفة: -لما ارجع.
-بابي، أحنا فين؟
صف عاصي سيارته أمام مدافن آل دويدار. أردفت تاليا سؤالها مشدوهًا وهي تحاول أن تستفسر عن ذلك المكان. شد مفتاح السيارة وقال بهدوء:
-أحنا هنا عشان نودع مامي. لان الفترة اللي جاية هنكون بعيد عنها شوية.
أغرورقت عيني تاليا بعبرات البراءة: -مامي؟ هي مامي موجوده هنا. يعني مش في السماء زي ما حضرتك قلت.
تابعت داليا حلقة أسئلتها: -يعني مامي موجودة ورا الباب ده؟ طيب هي ليه مش عايشة معانا يا بابي. سابتنا لوحدنا ليه!
أخذت عينيه المكدسة بالدموع التي ظن أنها جفت من بعد موت مها تنقل من واحدة للآخرى بوجع يعتصر قلبه. يُدقق النظر في عيني تاليا التي تُشبه عيني أمها كثيرًا. وأنف داليا المدببة التي نُسخت من وجه أمها. والحفرة المستقرة بخدها التي سبق ووقع بها وبسحر غمازتها. لملم شتات نفسه وداعب شعر صغيرته:.
-هنتكلم كتير! يالا انزلوا وقولوا لمامي كل اللي نفسكم تقولوه.
هبط من السيارة ليقف أمام المكان الذي لم تطأه أقدامه منذ أربع سنوات ماضية. ارتدى نظارته الشمسية وهو يمرر عينيه على جدران المقابر التي ضمت حبه الأول. تقدم بخطوات مثقلة بالحزن وأمسك يدي صغاره، تاليا على يساره وداليا على يمينه. وتقدم نحو درجات المبنى المهيب فاستقبله الحارس بترحاب وهو يفتح له الباب.
تقدم عاصي وبناته للداخل حتى وقف الثلاثة أمام قبرها المنثور بالبذور والذي تحاوطه الطيور من جميع الاتجاهات. كوصيتها الأخيرة له حيث أمر الحارس بنثر تلك البذور يوميا على قبرها. تذكر جملتها الأخيرة وهي تترجاه:.
((-قلوب البني آدمين بتتقلب، والحب مع الأيام بيقل، واللهفة بتموت مع موت صحابها، وأنا بخاف يا عاصي وأنت غصب عنك هتتلهي عني وتنساني، عايزة أحس بالونس. عايزة صوت يونسني. عشان كده عايزاك توصي الحارس يرمي القمح فوق قبري عشان الطيور تزورني كل يوم، ))
جلس عاصي على رُكبتيه ليبقى بمستوى صغاره، ابتلع غصة وجعه المدفون لأعوام وقال بنبرة هادئة: -حافظين الفاتحة مش كده!
أومأ الفتيات بصمت وأخذن يفعلن مثل ما فعل عاصي، وشرعوا في قراءة سورة الفاتحة في كفوفهم المقعرة. ما انتهى مسح على وجهه ففعلا الفتاتين مثله. مرر كفه على سقف قبرها وقالت عينيه بحزن وخيم:.
((-ياريت كنتِ لسه موجودة، أنا عارف أنك زعلانة مني. بس مكنتش هقدر أزورك وأنا كده! أنا عملت كُل حاجة غلط في غيابك يا مها، كُنت بعوضني عن غيابك لحد ما ضعت وجات حياة لحقتني من نفسي. سامحيني، على فكرة حياة هي اللي أصرت أجيلك وأودعك، وأخد البنات معايا، آكيد وحشوكي. سامحيني يا مها عن كل حاجة، حتى إني معرفتش أخافظ على بناتنا من بعدك، كنت محملهم ذنب غيابك. ودلوقتِ بعد ما ظهرت الحقيقة جاي أوعدك أصلح غلطي معاهم. هما الحاجة الأخيرة اللي باقية لي منك. )).
استقر كف تاليا على كتفه لتسأله بنبرة متحشرجة: -بابي هي مامي بتسمعنا؟
-أكيد يا حبيبتي.
تاليا ببكاءٍ: -طيب مش بترد علينا ليه؟
ضم صغيرته لحضنه لمواساتها فانضمت داليا إليهم وهي تلوم على غدر الزمان وتقول: -يا ريت كانت معانا بجد…
أردف بحب: -أنا معاكم أهو وبقيت فاضي. هنلعب وهنخرج وهنعمل كل حاجة سوا.
يقال أن المشاعر ليس لها صوت لكنها ذات ملامح
ولكني أرى أن هذا الكلام غير صحيح، المشاعر لها صوت و لكنها تحتاج الى شخص شجاع عاشق ينطق بها.
انتهت شمس من أداء سُنة الصباح ثم نزعت سترتها المخصصة للصلاة وتوجهت ناحية تميم الذي فر النوم من عينه لقُرب الفجر حائرًا عما سيفعله بهذا الكم الهائل من الأملاك الذي سلمها له عاصي. عن رأسه التي أوشكت أن تنفجر من ثقل المسؤوليات المُلقاة على عاتقه. جلست على طرف الفراش تدقق النظر بملامحه النائمة. أنفه المدبب، لحيته القصيرة. حاجبيه الكثيفتان. شعرت بخفقان قلبها الشديد ورغبتها الجامحة في الإقبال نحوه إقبالًا يليق بصبره عليها ومشاعرها المتقدة التي لا تعلم من أي جهة تسربت إليها.
صدق الرافعي في وصفه للشوق قائلًا: هو حبلٌ من الحنين التفَّ حول القلب، فكُلّما نبض القلب نبضةً اشتدّ حبلُ الحنين على القلب وضاق عليه
نفضت دخان مشاعرها وهمست له بصوت مدجج بالحنان:
-تميم. الساعة عشرة.
رد بصوتٍ نائم: -ساعة يا شمس.
شدت الغطاء من فوقه بإصرارٍ: -تميم عاصي وعالية جايين الساعة 12، أنت نسيت ولا أيه.
اعتدل متأففًا: -أهو صحيت يا شمس. حاجة تانية؟
ضحكت بصوت مسموع ثم نبشته ملاطفة: -لسة زعلان مني؟
تنهد بحيرة: -أحنا مش اتصافينا وخلاص!
-ااه يا تميم، أنا فضلت متكلمنيش 3 أيام، وكمان كلامك بقا قليل معانا حتى بعد ما اتصالحنا. وأنا قولتلك ألف مرة أسفة وعاصي كان مأكد عليا أن الموضوع سر، حط نفسك مكاني بقا؟
قسم الصداع رأسه من صباحها المزعج: -شوفتي أنتِ أهو اللي بتنبشي في القديم. ومش مدياني فرصة انساه.
ربما أصدق طريقة للتعبير عن المحبّةتجاه الآخر.
هي الرغبة في قضاء أكبر وقت معه وبما أن الوقت جزء من العمرفأنت تود لو تُعطيه عُمرك بأكملِه. عارضته بانزعاج: -شفت يعني لسه زعلان، يعني كلامي صح؟
رد بنفاذ صبر: -مش زعلان يا شمس، بس الموضوع ضايقني في وقتها وكنت محتاج وقت عشان افصل فيه. أعمل أيه تاني؟
تعمدت أن تطيل حبال الحديث بينهم مفتعلة الكثير من الحجج والأقوال الحمقاء كي لا ينتهي حوارها معه:.
-شفت حتى طريقتك بتقول أنك مش طايق تسمع صوتي. وأنا قولتلك ممكن أمشي وانت رفضت.
رمقها بأعينه الماكرة التي عجزت في فهمها. ف رد باندفاع وهو ينهض جالسًا على رُكبتيه: -تصدقي أن الكلام مش نافع معاكي.
أن قرر أن يصوم عن حبها فقلبه يأتي أبيًا عنيدًا مسافرًا إلى عينيها قسرًا ليُفطره. جذبها بكل قوته لترتمي في منتصف فراشه صارخة ممانعة: -تميم.
فك أزرار منامته وألقاها أرضًا، فكادت أن تفر منه هاربة ولكنه أفشل مخططها ففتحت نوافذ صدره لاستقبال حبها وإقباله نحوها. وقال محتجًا: -مفيش هروب.
خفق قلبها بمشاعر لا يمكن وصفها خاصة بعد ما كبل ذراعيها ببعضهما بكفه المنقبض على معصمها ورفعهما لأعلى. فسألته باضطراب ممزوجٍ ببحة شجار العصآفير في صوتها: -أنت هتعمل أيه؟ تميم،!
-هسكتك بس بطريقتي…
انطبق فاهه على ملامحها المتوترة بلهفة بحار ضائع وقارب قلبه يتعذب بين الموج والإعصار. يقاوم هروبها تارة ويقاوم لهفتها إليه طورًا. لم تكن لحظات عابرة من الحب بل كانت نجوم تضيء ظلام أعوامهم، ووهب الحب نفسه للأذرع المفتوحة لا للقلوب المتمردة. ما بين جزم ورفع وضم حروف اللغة بادر الحُب بأفعاله المجونة حتى عرفت المشاعر طريقها وسكن الفؤاد عن لوعته وتحول الحب المدفون بينهم لصرخات مكتومة بروح كل منهما الأخر. حتى تفوهت مُقرة تحت سطوة الحب وبأنفاس محترقة:.
-تميم، أنا بحبك. حبيتك من أول يوم قابلتك فيه. بس كنت بكابر.
قالت شفتيها كلمات، وغنت عينيها بمواويل معترفة بهما: أحسستُ بالحُب تجاهك منذُ اليوم الذي لمحتُ فيه الدفء الذي في وجهك و العناق الذي حدث مابين صوتك ومسمعي، احسستُ بك وشعرتُ أنّ هذا القلب الصّغير الذي أحمله في زوايا صدري يتمدد بحُبك يومًا بعد يوم، لايتبدد شعُوري لك ولاينقص، بل إنهُ يحتشد في وسط صدري حتّى إنه يفيض من وسط عيني.
كَانَت الشمس فِي الخَارج سَاطِعَة وحارة وكلّ الأشياءِ تَشعّ نورًا أم عن شمسه فكانت تنافسها في الإشراق والتلألأ والحرارة كَما لَو أنها هِيَ الَّتِي تُضِيءُ. أن تشرق في قَلبه من حيثّ لا غُروب لها بعد الآن. تنهد بجدار عنقها ليُجيب على اعترافها بلهفة قاتلة بقلب كالسنبلة مائلة دومًا نحو شمسه ووشوش إليها:
-آخيرًا! بحبك.
وصلت عالية برفقة كريم إلى قصر دويدار بعد تعذر مراد عن مجيئه. هبطت عالية من السيارة فلحق بها كريم قائلًا:
-تميم ليه أصر أنك تحضري، مش المفروض خلاص.
ردت بشرود ورأس منشغل بألف موضوع: -معرفش والله يا كريم. أدينا هنشوف.
دخل الاثنان من باب القصر فاستقبلتها سيدة بترحاب وأحضانٍ: -وحشتيني يا ست عالية. والله البيت ما له حس من غيركم أنت وسي عاصي.
ربتت عالية على كتفها: -تسلمي يا سيدة. هابقى أكلمك على طول. قوليلي عاصي لسه مجاش؟
-لا، بس سي تميم فوق، هروح أناديه.
-تمام. وأنا هستناهم في المكتب.
نظرت إلى كريم الذي احتج قائلًا: -هعمل مكالمة فالجنينة وأجيلك.
بالأعلى
يقف تميم أمام المرآة يعد رابطة عنقه وهو يطلق صوت صفير مسموع بعد ما روى شرايين حبه الظمأنة. ثم هتف ممازحًا بصوت مرتفع كي يصل لأذان شمس التي اندست بالحمام:
-طيب ناوية تباتي جوه!
ردت باضطراب وصخب يملأ روحها: -خليك في حالك…
ضحك بانتصار ثم قال: -طيب حبيت أقول لك نازل.
ردت باختصار وهي تحضن قلبها المتراقص: -طيب…
ثم تحمحم بخفوت مداعبًا: -هتوحشيني.
ردت بفيض من الخجل: -تميم روح شوف شغلك. الله!
أخذ سترته السوداء وغادر الغرفة بضحكة واسعة مرسومة على محياه ومازال محافظًا على روقان مزاجه حتى التقى بسيدة التي رمقته بدهشة:
-خير اللهم أجعله خير يا تميم يابني!
رسم الجدية على ملامحه: -في أيه يا سيدة!
ردت بتخابث وهي تدور حوله: -وشك ولا البدر المنور. اللي يشوفك النهاردة ما يقولش ده تميم بيه اللي كان من يومين!
رد متبسمًا: -سبحان مغير الأحوال بقا يا سيدة.
ضاقت عيني سيدة الخبيثة بثغر مبتسم: -يديمها عليك الأحوال اللي تخليك رايق كده يا بني.
-أحم. هي عالية جات!
-ااه جات، جوه مستنياك. أعملك قهوة ولا فطار؟
أجابه بفظاظة قبل أن ينصرف: -أي حاجة مسكرة عندك ياسيدة.
رمقت سيدة ظهره بنظرات التيقن: -وماله؟
مرت الدقائق حيث آتى عاصي وانضم إلى اجتماعهم وبالخارج يجوب كريم ذهابًا وإيابًا منتظرًا مجيء نوران الذي ألح عليها كي تلتقي به. جاءت خائفة متفقدة المكان حولها بحرصٍ خشية من أن يراهم أحد. هبت في وجهه معترضة:
-أنتَ عايز مني أيه؟
-عايز أودعك قبل ما أسافر.
جمرة متقدة استقرت بحلقها فأدت إلى انفراج كل ملامحها: -أيه؟ هتسافر بجد! أمتى.
استند على جدار الشجرة عاقدًا ذراعيه أمام صدره: -طيارتي 12بالليل.
ملأت الدموع عينيها ولكنها أبت الهزيمة تمردت على أعراف واعتراف قلبها. أجابته بشفتين مرتعشتين:
-طيب وأنا مالي.
نفذ صبره من كبريائها: -مالك ازاي! نوران أنا بحبك لو مش واخدة بالك. ومعنديش مانع اطلب أيدك دلوقتي. بس أنتِ وافقي.
أحست بحبل العشق يلتف حول رقبتها فأصبحت تعاني من اتخاذ انفاسها بحرية وكأن ثقل الخبر أنصب على صدرها. بنبرة فائض منها الحزن:
-قولتلك مش وقته الكلام ده، أحنا لسه صغيرين. وأنت هتسافر وتقابل غيري ووقتها هتعرف حقيقة مشاعرك. دلوقتِ أحنا منقدرش نحدد إذا كانت المشاعر دي صادقة ولا…
الغريق تعلق بقشاية الحروف: -نوران يعني جواكي مشاعر ناحيتي! قوليلي وإحنا ندي قلبنا فرصة. طيب قصدك أيه بأخر جملة. يعني…
تذكرت تهديد جيهان لها وتحذيراتها بأن تبتعد عن ابنها. فقالت:
-الحب حباله طويلة يا كريم. ركز في طريقك ودراستك.
ثم دارت لتخفي عيونها الدامعة عنه: -وإن شاء الله اسمع عنك كل خير.
رمقته بآخر نظرة كأنها تودعه وتودع قلبها المنخلع معه ثم ركضت هاربة من سطو عينيه وألم قلبها المميت. ركل الطوبة بقدمه وهو يلعن حظه ويعلن هزيمته وخسارته لحبها المدجج بصميم قلبه.
بغرفة المكتب.
ردت عالية بإصرارٍ: -لا وألف لأ يا تميم. أنا مش هاخد مليم واحد في الفلوس دي.
عارضها تميم: -عالية ده حقك وحق حرمانك من أهلك السنين دي كلها ونصيبك القانوني في ورث دويدار.
-وأنا اتنازلت عنه يا تميم. ومتقلقش عليا أنا في عصمة راجل وهو مسئول عني دلوقتِ.
تميم بعدم اقتناع: -مال دي بدي! ورث دويدار هيتوزع علينا بالحق. ريحيني يا عالية لحد ما نشوف الباشا الكبير.
اتكئ على المقعد الجلدي واضعًا سبابته فوق فمه وقال: -الموضوع بالنسبة لي منتهي يا تميم. أنا حافظت على ورثكم وعملت البزنس بتاعي يعني مش محتاج الفلوس دي!
فاض صبر تميم: -عاصي الشيلة تقيلة عليا وأنا مش هقدر، وبعدين أنت مرجعتش ليه القصر! عاصي سيبك من كل الهبل ده، أنت أخويا الكبير والوحيد الفاهم في الشغل. يرضيك بعدم خبرتي أهد كل ده!
ثم وقف موضحًا: -أحنا زي ما أحنا، أنت كمل في شغلك، وأنا هكمل في الجزء اللي افهم فيه والمركب هتمشي. قولت أيه؟
صوت دق الباب قطع حديثهم، فدخل منه مراد مستأذنًا: -لو حاجة شخصية أنا ممكن استنى بره.
تعلق تميم بقدومه: -تعالى يا سيدي شاركنا. وشوف الاتنين دول قبل ما اتجنن.
قفل مراد الباب وجلس بجوار زوجته، فأجابه عاصي بهدوء مُريب: -أنا رتبت حياتي ومش هينفع يا تميم. موضوع وجودي هنا منتهى.
تدخل مراد قائلًا: -بس وجودك مهم الفترة دي يا عاصي. أنا عارف أنك ورا الضربة اللي حصل لممدوح علم وهاشم، وسمعت انهم مش هيعدوها، فلازم نبقى أيد واحدة. التشتت مش في صالحنا.
تنهد تميم بارتياح وهو يجلس على مقعده: -ينصر دينك يا مراد. اقنعه عشان أنا تعبت.
عاصي بإصرار وهو يتحرك ليفتح باب الخزنة ويخرج منها بعض المجوهرات الخاصة بمها: -كلام منطقي، بس أنا عارف بعمل أي. وأنت يا تميم هتتعب شوية في الشغل لحد ما تفهم الدنيا ماشية ازاي.
تدخل تميم مقترحًا: -وفيها أيه. مراد هيمسك نصيب عالية ويديره لحد ما تتخرج وتديره هي. وأنت تفضل رئيس مجلس الإدارة وتكمل ونكبر سوا، السوق مليان ديابة يا عاصي وآكيد مش هتسيبني وتمشي…
جهر بغضب: -وأنا مش هكمل يا تميم. ولو سمحت سيبني على راحتي. وبكرة هتفهم أنا عملت كده ليه.
ثم هدأت نبرته: -متقلقش عيني هتفضل عليك وهفضل في ضهرك حتى لو مش مكمل هنا…
احتج مراد معترضًا: -وعالية براحتها عايزة تستلم نصيبها تستلمه لكن أنا اعذرني يا تميم…
رمقهم تميم بخيبة: -تصدقوا أن كلكم شوية عيال وأنا أصلًا غلطان إني بتكلم معاكم…
وثب مراد بملامح وجهه المترددة والحزينة: -هو في خبر لازم تعرفوه. الشرطة لقيت خالتي عبلة ولما شافتني متعرفتش عليا. وهما وشكوا في قواها العقلية. وللاسف حولوها على المستشفى وو
تدخلت عالية بقسوة لم تعهدها: -كل واحد بياخد العقاب اللي يستحقه يا مراد…
رمق مراد عاصي بنظرة كاشفة: -عاصي.
رد بجحود وهو يلملم متعلقاته الخاصة بالصندوق: -زي ما عالية قالت، كل واحد بياخد العقاب اللي يستحقه، أشوفكم بخير.
انتهى اجتماعهم وتبادلوا الأحضان والسلامات والدموع المحبوسة في قلوبهم قبل أعينهم. خرج عاصي من الغرفة وهو يودع إمبراطورية دويدار التي قضى بها تسعة وثلاثين عامًا، ركضت سيدة نحوه بلهفة:
-عاصي بيه، عايزاك في كلمتين.
-قولي يا سيدة.
شدته لأحد أركان القصر وقالت له بفزع: -بصراحة في سر جيه أوانه عشان تعرفه.
-سر! سر أيه يا سيدة.
-بخصوص ست مها.
ثم رفعت عينيها المذعورة وأكملت: -ست مها اتقتلت، مماتتش قضاء وقدر.
التعليقات