رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الخامس والثلاثون والأخير
أُريد أن أهدأ، كما لو أنني لم أُجرب التخبط في عاصفة القلق و أن أطمئن طويلًا للحد الذي لا يكون هناك أي أحداثٍ أُخرى تسلب مني شعوري بالطمأنينة.
بالمركبة الجديدة التي ابتاعها عاصي بمجرد قدومه إلى الغردقة كي تسهل له الانتقال كيفما يشاء خاصة عندما قرر أن يسلك مسارًا جديدًا للعمل.
تجلس حياة بحمام المركبة على طرف المرحاض. أصابع قدميها الحافية تتكور بالأرض إثر القلق الشديد بقلبها وهي تراقب نتيجة اختبار الحمل بلهفة غريبة ويد مرتجفه. ترجوه أن يصبغ بالشريطة الحمراء. أن يزف لها خبرًا سعيدًا تلك المرة نيابة عن كل المرات الخائبة. مرت قرابة الساعة وهي بالحمام تنتظر، تتأمل أن يندس جنينها تلك المرة بأحشاءها. خاب أملها للمرة الثالثة فرمت الاختبار بنفس القوة التي تفتت بها قلبها المنهزم.
اعتصرت بطنها باكية بنحيب منخفض وهي تتحمل الوجع الذي لا تعرف مصدره. ربما بسبب تغير حالتها النفسية أم تأثير شريطة منع الحمل التي اختبأت بأحشائها بدون علمها. وربما بسبب موعد عذرها الشهري الغير منتظم بالمرة.
توجهت إلى صنبور المياه وغسلت وجهها كثيرًا كي تزول آثار البكاء، جففت وجهها ثم أخذت عدة أنفاس متتالية حتى خرجت من الباب بفستانها الوردي الذي يصل إلى ركبتيها ذو أكمام واسعة. اتجهت لأعلى حيث سطح المركبة الذي يقف فوقها.
يقف كالجبل الصخري كأنه يعلن عدم خوفه منه ومن الحياة بعد الآن. يلفح هواء البحر صدره العارٍ ويطاير قميصه المفتوح بقوة. اقتربت منه بخطوات متمهلة وبأقدامها الحافية لتطوقه من الخلف بكلتا يديها. استندت رأسها فوق ظهره وأخذت تتنفس باسترخاء.
ألقى سيجارته باليم ثم خاطبها مقترحًا: -جات في دماغي فكرة مشروع جديد هينقل الغردقة في حتة تانية.
تجاهلت حديثه عن الشغل وقالت بحرقة مكتومة: -أنا نفسي أخلف يا عاصي. تعبت من الانتظار. عندي شغف وحماس رهيب أبقى أم. وغصب عني مش عارفة اصبر.
طوى جملة مشاعرها التي كانت كالخنجر بقلبه وأكمل مفتعلًا اللامبالاة: -سلسلة مطاعم متكاملة. وبدل ما توردوا السمك للتجار نستغله أحنا في مطعمنا دي بجانب المصنع اللي هيكون المصدر الأول لأكبر ثروة سمكية. أنا متحمس جدًا لافتتاحه…
ارتخت يدها من فوق خصره وتحركت لتقف أمامه: -أنت مش بترد عليا ليه؟
-عشان أنتِ مستعجلة أوي يا حياة. سيبي الموضوع لوقته.
-طيب عايزة أروح لدكتور. ممكن تيجي معايا.؟
أمسكها من كتفيها ليطمئنها: -حبيبتي. أنت محتاجة بريك، وجسمك يرتاح من الظروف اللي مر عليها. سيبي موضوع الحمل ده لوقته. انتِ قلقانة ليه؟
انبثقت عِبرة من عينيها بحرقة: -مش عارفة وحاسة مش مظبوطة ومودي مش متظبط. والأحساس ده مسيطر عليا أوي. ومش شايفة مبرر للتأخير ده.
-ممكن تهدي طيب. أنا مش حابب أشوفك بالحالة دي. وبعدين هما تاليا وداليا مسدوش نفسك عن الخلفة؟
ابتسمت من وسط حزنها وهي ترتمي بحضه: -دول أحلى حاجة في حياتي.
رد ممازحًا: -يا سلام! وأنا أيه ماليش لازمة يعني.
أجابته بحنو: -أنت حياتي كلها يا عاصي…
طبع قبلة خفيفة على رأسها وأخبرها: -أحنا مش اتفقنا أن لينا يوم خاص بينا نقضيه سوا من غير نكد. أحنا بنيجي هنا ننبسط ونستمتع وبس.
-أنت معاك حق، أنا اللي متلخبطة شوية. تعالى نقعد.
جلس الاثنان بأرض المركبة بعد ما جعلها تتوسط صدره مستمتعًا بمداعبة شعرها بحب يتقاذف عينيه. سألته بشرود تحت مظلة عشقهما: -شايفة أنك اندمجت هنا وحبيت البلد.
مازال يغازل أوتار شعرها بأنامله. فأجابها قائلًا: -البزنس مان الناجح بيندمج في أي مكان ويسلك في أي حاجة.
ف مازحته قائلة: -أي ده! يعني قلبي بالنسبة لك كان مجرد مشروع!
ضحك بهدوء فوضح قائلًا: -كان مشروع بس صعب حبتين. بس على مين! مفيش حاجة تصعب على عاصي دويدار…
-يا سلام! بقا كده؟
ثم اعتدلت قائلة: -ما قولتليش. ناوي تسمي المصنع أي.؟
استند على ذراعيه فبرزت عضلاته أكثر وهو يقول بثقة: -مارو.
انعقد حاجبيها بدهشة: -اشمعنا! يعني أي أصلًا.
-معقولة تتوه منك دي!
حياة بحماس: -لا بجد. يعني أيه واشمعنا الاسم ده!
-مارو يا ستي اسم حيوان من أكبر الأسماك البحرية.
مالت نحوه بدلالٍ وهي تُلاطفه: -اها. واشمعنا الاسم ده.
غازل أرنبة أنفها بخفة: -هو ده السر الأخير في حياة عاصي دويدار.
اتسع بؤبؤ عينيها: -أيه ده! أنت كمان عندك أسرار مخبيها عليا؟
أسبل عينيه وكأنه يطالب بعفوها: -قولت لك آخر واحد…
هزت كتفيها بتحدٍ: -على فكرة مش لوحدك اللي عندك أسرار. أنا كمان عندي سر.
رفع حاجبه متعجبًا من اسلوبها المراوغ: -كمان! طيب ومسموح لي أعرفه ولا لسه مجاش وقته.
-هو سر رسيل، مش حياة.
-والاتنين ملكي.
زامت شفتيها متدللة: -حياة بس ملكك. أما رسيل ملهاش ملكة. زي السمكة بالظبط.
أصدر إيماءة خافتة: -ويا ترى قلب حياة يختلف كتير عن قلب رسيل.؟
تعمدت أن تطيل النظر بعينيه التي دومًا ما تحمل دعوة صريحة لاحداث الفتنة بقلبه: -هي رسيل مجنونة شوية عن حياة بس الحاجة الوحيدة اللي اتفقت عليها مع رسيل هي قلبي اللي حبك. وقفل عليك بضبة ومفتاح.
فرغم رفضها التام للتورط بالحُب بعد تجربتها المؤسفة، كان وقوعها بحبه أجمل حدث بعمرها، أمسكت بياقة قميصه بخفة وقالت: -حبك كان تأشيرة سفر قلبي للحياة.
اقترب منها حد ارتطام أنفاسه بملامح وجهها وهو يشير إلى قلبها: -وقلبك ده كُل حياتي…
بنفس نبرتها العاشق أتبعت: -تيجي أعرفك على أخر سر في ماضي رسيل.
رد بشغف: -يلا.
رفعت حاجبها لتسأله بدون تفكير: -تغطس!
-في البحر ولا في عيونك؟
ضحك وجهها الفاتن وتلألأت عيونها الزقاء التي لم تَكُن مُجَرد عيون بَل صورة مُصَغرة للبحر أن رأها رسام استمد حبر لوحاته من مائها. فردت متباهية بحبه:.
-أنت كده كده جوه نن عيني. حتى شوف كده.
هم لافتراس تلك الملامح التي لم يرتوي منها أبدًا ولكنها تملصت أبية متحمسة للغطس معه لأول مرة وهي تشد يده لتساعده على الوقوف ثم الذهاب لغرفة تبديل الملابس الخاصة بالغطس. ارتدى كل منهما زيه الخاص حاملًا انبوبة الأوكسجين على ظهره نظرت بعينه مفتونة بهما استعدادًا للغطس: – جاهز!
أمسك بكفها مستعدًا: -جاهز…
الإنسانُ بغيرِ أنيسٍ تأكله الغربةُ، يهزمُه طولُ الطريقِ.
تغلبُه أهونُ المخاوفِ حتى تقبضَ يدٌ أخرى على يديه، فيطمئن، ويواجهُ، ويرى العالمَ من جديد…
دومًا ما يتكرر أمامي جُملة ومن الحُب ما قتل
لِمَ لم يُقال ومن الحب ما يُحيي ، ما ينعش القلب الهالك؟
مثلما أنقذَ قلبي بحبك فلم أعرف معنى الانتصارَ على جيش الحياة إلا عندما أحبَبتني.
حبك حياة…
كلا ؛ بل أحيا بحبك،.
تمت
التعليقات