التخطي إلى المحتوى

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الثاني والخمسون

تناولت القميص منها لتنظر إلى بتمعن فطرفت بإرتباك أبعد عيناي عنها.
لم يكن عليكِ مرافقته كما تعلمين، هذا الشاب وقح جداً وقاسي القلب، كان عليكِ توخي الحذر! هل تمادى معكِ كثيراً؟ هل أبلغ الشرطة؟
نفيت بسرعة بقلق: لا! لم يتمادى معي لا تقلقي. ثم أنا لست فتاة من الحانة. هذا الشاب يكون زو.
نفيت متنهدة لتقاطعني: هذا المتكبر يحتاج إلى من يوقفه عند حده. التعامل معه أمر صعب.

أضافت محذرة: تريدين الصراحة؟ لا يبدو شخص عادي. أشعر أنه رجل عصابات أو شخص ثري وما شابه، ليس عادي أنا واثقة. إياكِ وتوريط نفسكِ معه!
فغرت فاهي وارتخت ملامحي حتى ضحكت بخفوت: الخيار الثاني يا جدتي. هو لا ينتمي إلى مكان كهذا بالفعل، إنه رجل أعمال ومنزله يقع في أحد الأحياء الراقية.

لوت شفتيها بإنزعاج وإزدراء: هل أغراكِ بالنقود؟! أنتن الفتيات التائهات لا ترغبن سوى بالأموال فقط. أنظري إلى النتيجة الآن! لا تلومي أحد سواك. ثم من الواضح أنكِ بكيت بما يكفي فوجهك متورم ومتورد إلى أقصى حد!
نظرت إلى القميص في يدي متمتمة: أنا لست من الحانة. ذلك الشاب يُدعى كريستوبال. إنه زوجي.
اتسعت عينيها الزرقاوين وقد استقامت في وقفتها مرددة بصوتها المبحوح: زوجك!

حاولت بكل جهدي التعديل من صوتي المبحوح وأنا أتنحنح وأومأت مجيبة: نعم.
أضفت هازئة أخفي العبوس الذي لا يزال يحاول التسلل إلى ملامحي: ولكن يبدو أن هذا الزواج لم يعد يعني له أي شيء حقاً.

نظرت إلى القميص بين يداي في حين ارتخت ملامحها وعقدت حاجبيها، رأيت الإهتمام يشع من كلتا عينيها واقتربت واضعة يدها على مرفقي بقلق كان كبداية تحذير بأن أنفجر باكية مجدداً، قالت لي بصوت حاني: ارتدي هذا القميص وارتاحي قليلاً. وإن شعرتِ برغبة في البكاء فابكي بقدر ما شئت.
ابتسمت ضاحكة بتهكم: بكيت وقد جفت دموعي يا جدتي، كل ما اريده هو تغيير ملابسي، و المغادرة ثم.

ولكنني أسرعت أدفن وجهي في القميص لتعود إلى نوبة بكاء جعلتني أجلس على الأريكة منهارة الجسد والعقل والفؤاد!
بكيت فجأة ودون سابق إنذار وتفجرت الدموع من عيناي وكأنها نتيجة وخيمة بعد إطلاق جرس إنذار بعد شن الحرب!
لا زلت أشعر بالضعف، بالتعب والخيبة والقلق.
خائفة من كريس وقلقة عليه بعد إغلاقه للباب واختلائه بنفسه!
كيف أتصرف الآن؟! أواصل البكاء المثير للشفقة هذا! هل هذا كل ما يمكنني فعله؟

شعرت بيدها على رأسي! ربتت بلطف وسمعت صوتها الهادئ اللطيف: ابكي. البكاء أفضل الأدوية في العالم للصحة النفسية يا ابنتي.
جلست بجانبي فتفاجأت بنفسي القي بجسدي لأدفن وجهي في صدرها واتشبث بملابسها وأبكي بحرقة! هذا غريب. أن أرتمي في أحضان إمرأة لا أعرفها وأزعجها ببكائي وفي المقابل أشعر بدفء غريب! لصدرها الذي رحب بي ودفء جسدها الذي يحتويني ويدها التي تتخلل شعري بكل حنان ورفق.

ظلت تربت على رأسي حتى قالت ممازحة: يا له من شعر جميل وطويل، لطالما تمنيت أن أنجب ابنة أعتني بها كما تعتني الفتيات بالدمى.
أرغمني قولها على الإبتسام وقد حاولت التوقف عن البكاء تدريجياً، نظرت إلى الفراغ أسند رأسي على صدرها وقلت بوهن: أنا أعتذر على ما أفعله، أنا فقط. انفجرت في وقت خاطئ تماماً.
يحدث هذا عندما تكبتين الكثير في جوفك وتمتنعين عن الكلام، هل فعلتِ هذا؟!

نعم. ظننت أن هذا سيجعلني أقوى، الكتمان ليس من طبعي ولم يكن على اللجوء إلى هذه الطريقة.
أمسكت إحدى خصل شعري وبدأت تلفها حول أناملها وتظفرها لتعلق متنهدة: يبدو أن لديكِ الكثير لتقوليه بالفعل، أنظري من حولك لا أحد هنا، أنا مجرد كهلة تعيش وحدها ولا أحد برفقتي عدى لوسي التي تنظر إليكِ بغيرة الآن.

نظرتُ إلى القطة التي أدركت أنها المعنية بالاسم في حين أكملت: اعتبريني جدتك، أخبريني بما يجول بخاطرك، سيملأ حديثك وحدتي وسترتاحين في المقابل.
بدوت في نظرها سأعترض وهذا ما كنت سأفعله بالفعل ولكنها وقفت وابعدتني بلطف لتقول بحزم: سأذهب إلى المطبخ للحظات، ارتدي القميص ريثما أعود وابدئي الحديث كيفما شئتِ.

ارتفع حاجباي وانا امسح الدموع عن وجهي ولم تسمح لي بقول كلمة إذ ابتعدت لتختفي عن أنظاري وتتوارى خلف الزاوية الأخرى.
هذه المرأة العجوز. لا تبدو وكأنها تسألني بدافع الفضول. أشعر بوجود عطف وإهتمام في كلتا مقلتيها! كما أن تجاعيدها قد ارتخت وكأن وجودي ملأ فراغ معين وحتى لو كانت تعلم أنني لن أفعل شيء سوى إضافة نقط نكد وشؤم في يومها هذا بحديثي وبمظهري المريع!

نظرت إلى القميص بإمتنان كما لو كنت أشكره على وجوده وعلى ولادة من قام بخياطته وبيعه! كنت في أمس الحاجة إلى قميص فقط!
نزعت الممزق الذي أرتديه وقد سرت رجفة في جسدي ما أن تذكرت تصرف كريس ذاك.
بدى كشخص آخر. شخص لا أعرفه! وكأنه مجرد وغد منحرف لا يهتم بمشاعري ولو قليلاً!
هدوء، برود، جفاء وتهكم.! هذا كل شيء.
تمنيت لو يغضب أكثر لعله يشعر ويندم، تمنيت لو يسخط على لا أن يلجأ إلى تلك الطريقة فجأة.

هل كنت أتعامل مع كريس حقاً؟
كريستوبال الذي وقعت في حبه وشعرت بتبادل هذا الحب في الأونة الأخيرة قبل الحادثة؟ الذي أخبرتني جينيفر بأنه ذكرني ذات مرة لرين!
الذي وعدني بأمور كثيرة ولم يوفي بها. وعلى رأسها توضيح ما حدث قبل أن تفقد أوليفيا عقلها تماماً، حين رددت كلمات سمعتها منه شخصياً بينما كان ثملاً وقد آمنت به ووثقت به دون سبب مقنع.

يوجد الكثير من الأمور التي كان عليه تسويتها وتوضيحها، ولكنه رحل بذهنه بعيداً!
رحل ولم يحكي لي المزيد من تفاصيل الليلتان اللتان قضيتهما في منزله في الطفولة، رحل ولم يخبرني حتى الآن إعترافاً صريحاً يوضح فيه مشاعره تجاهي.
أغلقت أزرار القميص بوجه شارد حتى انتبهت للقطة التي وثبت فوق الأريكة أمامي مباشرة، ابتسمت لها أمد يدي ببطء لأربت على رأسها هامسة: لوسي. تبدين غيورة بالفعل، هل وجودي يزعجكِ؟

أغمضت عينيها مستمتعة بما أفعله.
جلست على الأريكة انتظر مجيء المرأة التي لم أعرف اسمها حتى الآن ولا أدري بما على مناداتها! نظرت للمكان من حولي بتأمل حتى عادت ممسكة بيدها صينية فوقها إبريق أبيض أنيق وبسيط وكوبين إضافة إلى طبقين وبهما شيء يفوح منه رائحة داعبت أنفي فوراً! رائحة منعشة بطريقة ما!

وقفت لأساعدها وأضع الصينية على الطاولة ثم جلسنا، أشارت للطبق مبتسمة: خَبَزت هذا البسكويت في الأمس، أما الطبق الآخر فهو كما ترين. كعك الليمون الطازج ولكنه لا يزال ساخناً بعض الشيء لذا لنعطيه وقته ليبرد.
اتسعت عيناي: هذا كثير حقاً لم يكن عليكِ إتعاب نفسك بإحضار هذا لي!
لا شيء يُذكر. خبز الكعك والبسكويت والحلويات هو إختصاصي اليومي تقريباً.

ارتفع حاجباي أطرف بعيني بإعجاب أنظر إلى الطبقين وكاد لعابي يسيل للحظة.!
ابتسمت بإمتنان: شكراً جزيلاً. بالمناسبة جدتي. ما اسمك؟!
كنت سأسل السؤال ذاته!
اسمي شارلوت.
يا له من اسم لطيف يليق بشابة جميلة مثلك! نادني بجدتي هيذر.
أضافت ممازحة: مع أنني التقيت بشابين في الأمس ونادا بي ب الخالة ، كان هذا مبهراً إلى أقصى حد ولكنني أريد سماع جدتي منكِ. يشعرني هذا أنني جدة تجلس برفقة حفيدتها!

ابتسمت لها بإحراج وأومأت: حسناً إذاً جدتي هيذر.
سكبت لي من الإبريق ليتضح أنه شاي أخضر بالأعشاب العطرية، تناولت الكوب منها لأرتشف وأستمتع بمذاقه لوهلة قبل أن تقول وتطرف بكلتا عينيها بشيء من التردد وقد تلعثمت: شارلوت عزيزتي. هل لكِ أن تسدي لي خدمة قبل أن نتحدث؟
تعلقت يدي في الهواء لأثبت الكوب وتساءلت مندفعة فوراً: بالطبع! إسألي ما شئتِ، ما الذي يمكنني فعله؟

بللت شفتيها بإرتباك واضح قبل أن ينخفض صوتها: هل أستطيع إحضار المشط لتسريح شعرك؟
هاه!
نظرت إليها بعدم استيعاب اردد كلماتها في عقلي قبل أن انفجر ضاحكة رغماً عني وأسرعت أضع الكوب على الطاولة لئلا أسكب الشاي.
يا الهي.
هذه العجوز. لطيفة حقاً!
بدت مستغربة ضحكاتي فتأدبت وقلت بلباقة أكتم ما تبقى من ضحك: بكل سرور.

وقفت دون تفكير وابتعدت عني لأراها تبحث في الخزانة المجاورة للتلفاز وفي أحد الأدراج لأضحك بخفوت مفرغة ما تبقي قبل أن تعود.
من كان يتخيل أن أبتسم أو أضحك بعد ما حدث قبل لحظات!

عادت وبدت كطفلة تمسك بقطع نقدية في مناسبة سعيدة ومتحمسة لشراء ما تتوق إليه، جلست بجانبي على الأريكة ولأجل قامتها الهزيلة والقصيرة تطوعت من نفسي لأجلس على الأرض وأعطيها ظهري واضعة أسفلي وسادة رفيعة بعض الشيء أستمتع بيديها اللتان تسرحان شعري، لتقول وبدت تبتسم: قد يكون هذا مضحكاً، ولكنني أنجبت ذكوراً ولطالما تمنيت أن ألد فتاة ولكن هذا لم يحدث، كان لدي ابنان، أحدهما قد توفي هو وزجته فاعتنيت بابنهما، حفيدي الذي لا يقصر معي بأي شيء. وابني الآخر سافر منذ زمن بعيد للعمل خارج البلاد ويتواصل معي بين فترات متراوحة وقد اختار أن يكون عازباً ولا يرغب في الزواج.

هذا مؤسف حقاً. لا بد وأنكِ تشعرين بالوحدة.
لن أنكر هذا. ولكن زيارة حفيدي تغنيني عن كل شيء، لوسي أيضاً وجودها بات جزء لا يتجزأ من حياتي، أنظري إليها تشعر بالغيرة بالفعل.
ضحكتُ مستمتعة بتسريحها لشعري وأحدق إلى لوسي التي تحوم حول قدماي وقدميها وكأنها تحاول لفت الإنتباه إليها.

هذا أفضل شعور على الإطلاق، يشعرن النساء غالباً بالرغبة في إنجاب الفتيات، أتعلمين يا شارلوت. الفتيات الصغيرات أيضاً يستمتعن بشراء الدمى اللطيفة وقضاء الوقت في العناية بهن وتسريح شعورهن. يبدو أنها غريزة ستظل باقية مهما تقدمت في العمر.
أعترف أنني أفضل الفتيات أيضاً. اعتدت اللعب بالدمى عندما كنت صغيرة ولازلت أحتفظ ببعضهن حتى اليوم.
هل لديكِ أطفال من زوجكِ المغرور يا ابنتي؟!

قالتها بتوجس وإهتمام فابتسمت بشرود قبل أن أميء: يمكنكِ قول هذا. طفل لطيف يبدو كملاك صغير، لديه ابتسامة مشرقة وعيون تشع بالحيوية. إنه بريء إلى درجة لا تتخيلينها!
أراهن على أنه سيكون بلطفك وجمالك.
بدت وكأنها تقوم بتظفير شعري أو محاولة صنع تسريحة ما، لأجد نفسي أتنهد بعمق وأضم قدماي إلي: وجودكِ اليوم أنقذني حقاً. لا أعلم كيف أرد الجميل لكِ.

لم أفعل شيء، ظننتك إحدى فتيات الحانة وكنت غاضبة في البداية، ولكن رؤيتك تبكين كان أصعب بكثير فلم أمنع نفسي من مساعدتك، كما أن مساعدتي شيء لا يذكر إنه مجرد قميص.
أضافت بإستياء: أنا أسفة حقاً لذكر أمر فتيات الحانة يا ابنتي، لم أكن أعلم أنه زوجك حقاً!
أعلم. أعلم أنه يعبث معهن.

قلتها ولا أدري كيف خرج صوتي، بل وانقبضت عضلة قلبي وتباطأ ضخ الدم في شرايين جسدي، ومع ذلك شردت عيناي وقلت بهدوء: لقاؤه اليوم كان أغرب ما تعرضت له طيلة حياتي. لا زلت مشتتة ولا أعلم ما على فعله.
قلتِ بأنه يدعى كريستوبال صحيح؟
نعم.
تذمرت بإنزعاج: ما هذا الإسم الطويل!
كريس فقط. هذا أسهل!
فليكن. هذا الشاب وجوده هنا غريب بالفعل، دعيني أخمن. هل أتيتِ من مكان بعيد أو سافرتِ للقائه؟

نفيت موضحة: لا، لم آتي من مكان بعيد، كما أنني لم أكن أملك أدنى فكرة عن مكانه، علمت اليوم فقط بالعنوان وأتيت فوراً دون تردد.
أشعر أن قصة طويلة منطوية خلف كلماتك! يمكنك التحدث يا ابنتي ولكن لا تشعري بأنكِ ترغمين نفسك على البوح بأي شيء، لا أزال غريبة عنكِ وربما لن تشعري بالراحة.

أنا لا أبالغ ولكن. مجرد جلوسي هنا يشعرني بالطمأنينة والدفء الشديد. ليس وكأنني لا أريد البوح فالكتمان أرهقني وجعلني أنفجر اليوم في وقت خاطئ، أنا فقط لا أريد إزعاجك بثرثرتي، لا بد وأن لديك ما يكفيكِ.
هيا يا فتاة لقد حاولت رشوتك بالبسكويت والكعك ولا زلتِ ترفضين التحدث!

ضحكت بخفوت فضحكت هي أيضاً بصوتها المرتجف ذو البحة العميقة ثم تنهدت وقالت بهدوء: لأكن صريحة معك. أنا مستنكرة لقسوة هذا الشاب. ماذا كان إسمه! آه نعم كريس. استقبلته بحفاوة ولكنني لقيت العكس تماماً ولم يقصر بإلقاء كلمات قاسية وساخرة علي، صحيح بأنني غاضبة منه كثيراً ولكنني في الوقت آنه أدرك أن خلف كل تصرف قاسي مئة وجع ووجع، هذه الأوجاع تسيّر البشر لمحاولة إستمداد القوة من أي شيء ليتمسكوا بأخر ما تبقى لهم من أمل ليبقوا على قيد الحياة.

لمست كلماتها وتراً حساساً في داخلي وقد أخفضت نظري للأرض بيأس.
تمتمتُ مبتسمة بصعوبة: أنتِ على حق، كريس مرّ بالكثير. ولكنني لم أتوقع أن يؤول لقائي به إلى هذا الشكل. لم أتوقع أن يكون بهذا الضعف ليهرب من كل شيء ويلقي ما كان على عاتقه دون أدنى مسؤولية. فاجأني هذا كثيراً.
أياً يكن ما يحدث، إياكِ والإستسلام! بينكما طفل صغير ولا يجب أن يدفع ضريبة ما يحدث.

هو ليس ابني يا جدتي، إنه ابن كريس من إمرأة أخرى ولكنني لم أعد أشعر بهذا حقاً. جيمي بات جزء مهم من حياتي، أقلق لما يقلق بشأنه وأفرح لما يفرحه وأغضب لما يغضب منه. أنا متعلقة به ولا أدري متى حدث هذا بالضبط، ولكنني أدرك جيداً أنني وبلقائي به منذ البداية قد رغبت في التمسك به ومحاولة إسعاده بشتى الطرق. رؤيته يبتسم تشعرني أن لا شيء بعد ابتسامته يستحق أن أنظر إليه. رؤيته سعيد ومسرور تشعرني أن كل الهموم من السهل إزاحتها عن طريقي.

هذا ألطف ما قد أسمعه في أيامي المملة الروتينية، النظرة الأولى غالباً ما تخطئ ولكن نظرتي لكِ كانت في محلها وإن ظننتك فتاة من الحانة. اللطف والطيبة والنقاء أمور واضحة على ملامحك يا عزيزتي.
دمعت عيناي قليلاً تأثراً وقد التفت لها نصف التفاته أبتسم بإمتنان ثم عاودت انظر للأمام، وحينها شعر جزء كبير مني برغبة في الثرثرة والتحدث أكثر! برغبة في البوح وإخراج الكثير مما يكبت على صدري.

شردت قليلاً بذهني وبدى أنها كانت راضية بهذا الصمت مستمتعة بتسريح شعري وتمنحني وقتي للتفكير بروية، أغمضت عيناي مرتاحة. وأي راحة كانت!
راحة افتقدتها كثيراً وكنت في أمس الحاجة إليها. راحة كانت أشبه بالتخدير!
همستُ وقد وصلت إلى ذروة الإستجمام: أشعر أن جفناي ثقيلان.

كان هذا آخر ما همست به. فلقد أغمضت عيناي بالفعل دون شعور، وقد شعرت بالسكينة والهدوء وأنا أقاد نحو الأريكة، لأدرك أنني كنت شبه نائمة عندما طلبت مني بصوت حاني أن أستلقي فوق الأريكة.
غلفني الدفء من كل جهة، ولم يكن سوى الغطاء الناعم فوق جسدي.

ويدها التي مسدت على كتفي قبل أن أغط في النوم، يبدو أنني بدأت أغط في النوم. مدركة المكان والزمان ومع ذلك مستمتعة، وكأنني أنام هرباً من واقع مر. واقع تمنيت لو أكتشف انه مجرد كابوس فور إستيقاظي من النوم.
وكأنني أنام لأنكر كل ما حدث قبل لحظات، لعلني أستيقظ وأرى نفسي لا زلت متجهة إلى عنوان كريس. وأجده شخص أفضل مما وجدته عليه.
جينيفر:.

نظرت إلى الساعة حول رسغي بقلق ثم زفرت أسند رأسي للوراء على مقعد السيارة ولويت شفتي بضجر.
هذه الحمقاء شارلوت. ماذا تظن نفسها فاعلة بذهابها هكذا. ليس وكأن كريس سيؤذيها حقاً فأنا أعرفه جيداً ولكن. أردت الذهاب أنا أيضاً! لأطمئن عليه وأطمئن عليها أيضاً! فأنا لا زلت أحاول تخيل نوع اللقاء الذي سيجمعها وردة فعل ذلك الطفل الخطل.

اعتدلت وقد نظرت لرسالتها للمرة المئة وقد أخبرتني أنها تتحدث مع كريس وأن كل شيء على ما يرام.
شيء في داخلي يرفض تصديق هذا.
ولكنني واثقة أيضاً أنها لن تتردد في الإتصال بي في حال احتاجتني.
ثم أنني أبدو كالجاسوسة وانا أركن سيارتي أمام هذا المتجر، ربما على الحرك بالفعل والعودة في حال اتصلت بي.

كما أنني سأتصل بها بعد قليل ولكنني بحاجة إلى كوب قهوة حالاً، لم أتمكن من شرب ما أحضره النادل في المطعم وقد انشغلت في حديثي مع شارلوت.
هذا ما آل إليه الأمر، فها أنا ذا أجلس في أحد المقاهي ذات الإطلالة الجميلة على إحدى الحدائق، استقريت على أحد الطاولات أحتسي كوب القهوة وقد تزاحمت الأفكار في رأسي.
أرجو أن يتعقل كريس ويعود برفقتها، عليه أن يكون قوياً.

لا أقصد تلك القوة السلبية، بل قوته الطبيعية التي ستمكنه من الخوض قدماً لا العودة للوراء.
رشفت من الكوب أنظر إلى الفراغ متذكرة اللحظات الثمينة بيني وبينه وكذلك مع رين، حيث كنا نقضي أوقات ممتعة، مضحكة وجميلة لا تنسى. قبل أن تنتكس السكينة ويغادر الهدوء إلى أبعد مكان يمكننا الوصول إليه.
لا أستطيع التوقف عن كره أوليفيا ووالدتها وحتى والدة كريس.
أكرههم. أكن لهم حقد دفين من الصعب التخلص منه!

كنت أعود من المدرسة وبدلاً من الذهاب إلى المنزل أسرع إلى منزل ماكس للقاء كريس ورين، كنت أشاركهم اللعب، أتسلط عليهما تارة وأضحك معهما تارة أخرى، أستمتع بإحراج رين وبغضب كريس. ليت هذه الأيام تعود مجدداً.
ولكن. كلمات رين منذ الأمس لا يزال صداها يتردد في رأسي.
لم يعد كريس ذلك الطفل القوي، ولم يعد رين الطفل الذي عهدته مرحاً وحيوياً. ومع ذلك لا زلت كما أنا.
جينيفر هي جينيفر وحسب.

ولكنه محق. كريس بات شخص آخر، اقترف الكثير من الأخطاء التي يدفع ثمنها، تهوره مع تلك المرأة التي كانت تحوم حوله في الجامعة، أظن اسمها كان كلارا، حملها بجيمي وتورطه آنذاك. صمته على جنون باتريشيا وقد ظن أن هذا سينجده أو يحميه منها.
لن أنسى دهشتي بخبر إنتحارها. وكيف؟ أمام عينيه عن عمد.

حسناً أنا شاكرة لها لإيقاف مهزلة الجنون ورحيلها بعيداً، ولكن الغريب أن كل ما حدث ولا يزال يحدث بسببها هي في المقام الأول!
وكأن لا شيء تغير، وكأنها لا تزال موجودة! هذه المرأة. كانت وستظل كابوس موحش حتى الإستيقاظ لن ينجد أحد منها.
ولكنني لا زلت أفكر في بعض الأشياء التي أراها مبهمة إلى حد كبير. وعلى رأسها ما فعله كريس برين!

في تلك الفترة كانا مقربان كثيراً، علاقتهما وطيدة، كانا كالأخوين. بل توأم! ولكننا نسمع فجأة عن اختفاء رين. ومن السبب؟!
كريس.
ظل يلتزم الصمت عن مكان تواجده كلما سأله أحد ما، بل أنه ظل زميتاً لا يحدث أي شخص ومنغلق على نفسه يتصرف بغرابة وبهدوء غريب اقرب إلى الكآبة.
ما الذي حدث حقاً!
كريس ليس بهذا السوء. كريس ليس شخص سيء! لن يقدم على فعلة كهذه دون سبب مقنع!

لماذا قد يضطر إلى حبس رين في المخزن والتستر على الأمر؟
وها هي النتيجة ذا. الإثنان يتصرفان كشخصين غريبان، رين يهاب الظلام ولا يستطيع مجرد الوقوف في مكان معتم.
كنت حبيسة الأفكار حتى عندما عدت إلى الحي بغية العودة إلى المنزل، سأرتاح لبعض الوقت قبل أن ينتهي شارلي من زيارة جيمي وأذهب لأخذه من المشفى.

مررت بجانب منزل ماكس الذي يبعد عن منزلنا ما يقارب الثلاث أو الأربع دقائق، صحيح ان منزله الأخير في هذا الحي ولكن منزلنا في المنعطف الأيمن حيث يوجد طريق يؤدي إلى الشارع العام بسرعة.
عبرت البوابة بسيارتي وقد أوقفتها عند المدخل لأترجل منها وصعدت الدرجات القليلة قبل أن أدخل المنزل، مشيت في الردهة ليصدر كعب حذائي صوتاً تردد صداه.

صعدت الدرج لأتجه إلى غرفتي وقد سحبت قدماي وفي كل خطوة أفكر في مئة موضوع وموضوع!
بدءً من موضوع رين ومشاعري تجاهه، وصولاً إلى ذهاب شارلوت إلى كريس وقلقي بشأنهما.
فتحت باب غرفتي ودفعته بقدمي وانا ادخل ليُغلق، اتجهت فوراً إلى السرير لألقي بجسدي عليه بطريقة عرضية.
نظرت إلى هاتفي وأنا أستلقي على ظهري، اتصلت بشارلوت.
ولكنها لم تجب.

لذا أرسلت إليها رسالة لعلها تجيب ولم يكن محتواها سوى ألا زلت تتحدثين معه؟ هل هو بخير؟ إلى ماذا توصلتما تحديداً!
أنا بحاجة إلى الإسترخاء قليلاً، وها هي خطتي ذا.
العناية بالبشرة، الإستحمام بماء ساخن، الجلوس قليلاً ريثما ينتهي شارلي من زيارته، وإن تكاسلت للذهاب وأخذه فربما سأطلب من السائق الخاص بالمنزل أن يذهب لجلبه أو حتى ستيف الذي سأرغمه على الذهاب وأخذه وإن اعترض.

وضعت هاتفي على المنضدة واتجهت إلى حمام غرفتي حيث أضع في زاويته خزانة ذات تصميم خشبي بداخلها الكثير من أقنعة الوجه والخلطات الطبيعية ذات الجودة الفائقة والثمن الباهظ، أخذت أحدها والذي لم يكن سوى قناع فاكهة الأفوكادو، وقفت أمام المرآة في الحمام لأرفع شعري بالمشبك، أمسكت بالفرشاة لأضع القناع على وجهي، حسناً سيكون على أن أنتظر قرابة النصف ساعة تقريباً قبل غسله والإستحمام.

ماذا أفعل في هذه الأثناء؟ هذا ما كنت أفكر فيه عندما تعالى رنين هاتفي!
ركضت نحوه بل وقفزت لأختصر المسافة وأسرعت أجيب بإنفعال بسرعة: شارلوت! هل كل شيء على ما يرام! هل كريس بخير؟ هل أتي لأخذكما؟ أخبريني أنكِ أقنعته بالعودة!
حصلتم على عنوانه إذاً.
هاه!
طرفت بعيني وابعدت الهاتف عن أذني أنظر إلى الشاشة لأستوعب الأمر وأقول بدهشة: ر. رين!
اخرجي. أنا أقف أمام المنزل.
ماذا!

عقدت حاجباي بحيرة ليضيف بحزم وتحذير: أسرعي وإلا دخلت بنفسي.
أغلق الهاتف في وجهي فبقيت كالتمثال لا أتحرك أو أطرف.
ساد الهدوء المكان حتى استقمت في وقفتي وازدردت ريقي بصعوبة!
لماذا تبدو نبرته حازمة! يا الهي.
ما خطبه؟!
لحظة!
لا تخبروني أنه اكتشف أمر مراقبتي له!
اللعنة! حتى وإن علم بذلك فكيف حدث هذا أصلاً؟ لقد كنت حريصة على عدم ترك أي دليل خلفي وتنظيف أثر خطواتي جيداً!

شعور قوي ينتابني بأنه هنا لأجل هذا الموضوع حقاً.
عضيت على شفتي بتوتر ولم أجد سوى الحل الأمثل، لست جاهزة حقاً ولم أقم بالتأهب بتحضير أعذار أو كذبة نبيهة لذا على تفادي رؤيته.
وهذا ما دفعني لأتصل به، انتظرت لثواني وما أن فتح الخط حتى قلت بنبرة محتارة مزيفة: لماذا أغلقت في وجهي، أردت أن أخبرك أنني لست في المنزل.!
أضفت أبتسم بلا شعور لأجعل صوتي طبيعياً: هل هناك مكان لنلتقي فيه؟

سمعته يتنهد ثم لم يعلق! طال انتظاري حتى قال: أرى سيارتك أمامي. انزلي بسرعة يوجد ما نتحدث بشأنه!
ولكنني خرجت بسيارة أمي، أنا أتسوق حالياً لذا سأعاود الإتصال بك عندما أنتهي.
أغلقت في وجهه فوراً ولم أنتظر كلمة واحدة منه، بل وأغلقت هاتفي تماماً والقيته على السرير واتجهت إلى النافذة لأنظر إليه ولكنني استوعبت فوراً أن نافذة غرفتي للأسف مطلة على الحديقة الخلفية.

حسنا أنا واثقة مما أشعر به، رين على علم بمراقبتي له وقد يغضبه هذا حتماً. لا أملك رداً مقنعاً الآن لذا على تأجيل الأمر لوقت مناسب.
تحركت لأجلس على السرير ألوي شفتي بتفكير.
أنا واثقة أنني لم أرتكب خطأً يقوده ليكتشف الأمر، كيف إذاً!
هل تراه يريد التحدث معي في أمر آخر مثلاً؟ وإن كان هذا صحيح. ما الذي سيتحدث عنه أصلاً!

زفرت بلا حيلة وبشيء من التوتر ولكنني أدركت كيفية تخفيف هذا التوتر، إذ عدت إلى الحمام مجدداً وفتحت الخزانة الخشبية مرة أخرى باحثة بعيناي عن أحد مستحضرات العناية بالشعر، وعلى وجه التحديد أقنعة الشعر، العناية والأناقة. كلاهما يحسنان مزاجي، يشعرانني بالراحة، يبعدان التوتر والقلق تماماً!

تنهدت واقفة من جديد أمام المرآة وبدأت بوضع المستحضر على شعري الأسود ثم عاودت أرفعه بمشبك مناسب، لمست بأناملي القناع على وجهي بدافع الفضول فقط بلمسة سريعة خفيفة لأقيم قوامه قبل أن اخرج من الحمام.
اتجهت إلى الخزانة لأخرج ملابساً مريحة أجهزها قبل أن أستحم ولكنني سرعان ما انتفضت في مكاني بذعر للباب الذي فُتح على حين غرة.!

اتسعت عيناي أنظر إلى الخادمة التي تلهث بصعوبة وأشارت إلى من اقتحم الغرفة لتقول بتعب محاولة التقاط أنفاسها: حاولت إيقافه. ولكنه رفض الإستماع إلي! هل أبلغ الشرطة؟!
طرفت بعيني بتوتر بالغ في حين رمقها هو بإنزعاج، بدى سيلقي عليها تهديداً وما شابه فأشرت لها بعيناي أن تخرج فترددت كثيراً قبل أن تفعل!

أغلق الباب خلفها وتقدم نحوي بحزم فابتسمت ببلاهة وقلت بمرح أرفع الملابس في يدي: آ. آه! ما رأيك بالملابس التي اشتريتها قبل لحظات؟
ضاقت زرقتيه وقد وقف في منتصف الغرفة: لم أعلم أن منزلكم يضم عدداً من الأسواق للتبضع.
ضحكت أخفي توتري: ا. اليس كذلك!؟
وهل تتسوقين بهذا القناع على وجهك وكتلة العقاقير فوق رأسك!

اتسعت عيناي وقد شهقت مستوعبة الأمر لألتفت وأعطيه ظهري فوراً! سحقا لا بد وأن مظهري مريع! لا يجب أن يراني بهذا المظهر المفزع. كان على النظر إلى شاشة الهاتف قبل أن أجيب.
ماذا أفعل الآن؟!
نظرت إليه بطرف عيني وبنصف استدارة فوجدته لا يزال يرمقني بترقب.
لماذا يبدو غاضباً! يوجد هالة غريبة تحيط به. عيناه تحدقان إلى بنفاذ صبر واضح!
لا يمكن. هل اكتشف أمري حقاً؟!

ابتعلت ريقي مرتين على التوالي قبل أن أستدير نحوه بهدوء.
اقترب بخطى واسعة حازمة فانتفضت في مكاني ليلتصق ظهري بخزانة الملابس خلفي مشيرة إليه بحزم وحذر: ماذا؟! هل. هل ستقبلني مرة أخرى؟ أنا لست متأهبة بعد! كما أن مشاعري قد جُرحت بسببك ولم يلتئم هذا الجرح بعد. حسناً أنا لا أمانع ولكنها ستكون قبلتنا الثانية. أو الثالثة إن صح التعبير مما يعني أننا سنكون مضطران إلى المواعدة الرسمية كما تعلم و.

ولكنني تفاجأت به يقترب دون توقف ويضرب الخزانة بجانب رأسي بيمناه بحزم: أتيت لقول هذا وحسب. توقفي عن تصرفاتك الطفولية حالاً.
ماذا! ما الذي فعلته الآن أيضاً؟!
ضاقت عينيه وظل ينظر إلى بتمعن فأشحت بناظري بعيداً متمتمة على مضض بصوت خافت: توقف عن التحديق إلى بهذه الطريقة أنت تعاملني بقسوة يا رين.
حسناً دعيني أقولها بوضوح لأغادر.

أبعد يده من جانب رأسي ووضعها في جيبه عاقداً حاجبيه بإستنكار يجوبه غيض: أولاً قومي بتعزية نفسك فلديكِ الحظ الأسوأ على الإطلاق.
هاه!
أحكمت إمساك الملابس التي لا تزال بين يداي وضممتها إلى متسائلة بحذر: ما الذي تشير إليه؟ وُلدت في هذه العائلة الطموحة وحققت نجاحات ساحقة دائماً، أنا الأفضل في مجالي ولدي مقومات الأنوثة الأجمل، أي من كل هذا يجعلني ذات حظ سيء؟!

رسم ابتسامة ساخرة على ثغره وقد نفى برأسه بتهكم: لا يفترض أن يجتمع الغرور بالحظ السيء، حسناً ما الذي أشير إليه؟ إليكِ الخبر التعيس. تم سرقة بطاقتي الإئتمانية ما أن خرجت من المشفى بعد وصولك مباشرة.
قالها وترقب ردة فعلي فلويت شفتي أطرف ببطء للحظة قبل أن أشهق بدهشة وعدم تصديق: وما شأني أنا! لا تخبرني الآن انك تشك في أنني من سرقتها!
يا للسخف.

أمسك بالملابس بين يداي والقى بها بعيداً ليزمجر بإنزعاج: اتجهت إلى المصرف فوراً لإيقاف البطاقة قبل أن يتم صرف المال عن طريقها بأي طريقة كانت، وعندما طالبت بعملية كشف الحساب أولاً احزري ماذا؟!
أضاف بإستخفاف لاذع: علمت أن شخص ما قد قام بكشف الحساب قبلي.
اللعنة!
هل كان على من سرق بطاقته أن يفعل هذا اليوم؟! اليوم من بين كل الأيام؟! لماذا هذا الحظ التعيس!
غير معقول. سحقاً لهذه الصدفة البائسة!

ذهبت إلى المصرف وقد كدت أحلق فرحاً لوجود المدير الذي تربطني فيه علاقة قديمة سطحية، طلبت منه ان يكشف عن حساب رين لأعلم ما يتم صرفه عن طريق البطاقة ولكنني لم أتخيل أن يتم سرقتها اليوم أيضاً! هذا حقاً كثير. ما الذي يمكنني قوله الآن؟! بالطبع لا شيء! هل السارق شخص يكرهني؟ هل هذا الوغد أحد أعدائي؟! إنه التفسير الوحيد وإلا لما قصد سرقة رين من بين كل سكان العالم وتحديداً اليوم!

اجفلت وقد حلقت الأفكار بعيداً عندما زفر بنفاذ صبر: أنا أنصت! هاتِ ما بجعبتك.
أغمضت عيناي أهرب من نظراته وقد وجدت نفسي أقول عاقدة حاجباي بأسى: ذهبت إلى المصرف بالفعل.
إذاً؟
أردت أن أستفسر عن شيء ما فقط.
ألا وهو؟
ما إن كنت تشتري أشياء نسائية لأتأكد من أمر مواعدتك كما كنت تدعي في الأمس.
ثم؟
ثم شعرت بالسعادة لأنك لم تشتري أمور مماثلة.
قلتها بشفتين تقوستا ونظرت بعيداً.

إنه غاضب بالفعل. لقد فشلت خطتي في محاولة التقرب إليه!
ولكن. أي شخص سيكون منزعجاً كذلك عندما يتم انتهاك خصوصيته، ربما بالغت ولكنني.

تنهدت بعمق ولم أجد ما أفكر به أو حتى أنطقه أمامه فوقفت ولا أزال على حالي، شعرت بنظراته تكاد تخترقني فهمست دون شعور بضيق: إياك وأن تفكر بأنني مجرد مطاردة مجنونة، الأمر فقط. أن الوقت تأخر كثيراً حتى اكتشفت أنني أحببتك منذ زمن، لذا أتصرف بشيء من التهور والحُمق رغبة في تدارك الأمر.

أردفت أرسم ابتسامة مترددة: أعلم أنني مخطئة. ولكنني أريدك ان تتوقف عن التفكير بتلك الطريقة أيضاً، لا تحاول إنكار رغبتك في إبعادي عن والدتك و أوليفيا.
ها نحن ذا نعود إلى هذا الهراء مجدداً.
لماذا لست صريحاً معي كما أفعل أنا؟!
رفع يده يمررها في شعره يتجنب النظر إلى ثم نفي بلا اكتراث: أياً يكن، أردت التأكد بنفسي من فعلتك تلك، كما أنني أريد أن أستوعب ما قلته تواً. هل وجدت شارلوت مكان ذلك الجبان!

قالها وقد ظهرت تقطيبة صغيرة بين حاجبيه أدركت في قرارة نفسي أنها تنم عن الإهتمام، ومع أنني تضايقت لتجاهله أمري إلا أنني أومأت: نعم، ذهبت للقائه ولا زلت أنتظر منها اتصالاً، ولكنها أخبرتني أنها تتحدث معه، ومع ذلك لا يمكنني منع نفسي من القلق.
نظر إلى الأرض بتفكير ثم وضع يده على جنبه متمتماً بإستنكار: ليس وكأنها ستعود برفقته، إن ظننتما هذا فكلتاكما ساذجتان.

ثم ارتخت ملامحه قليلاً وبدى شارد الذهن للحظات! حتى أنني حدقت إليه بتأمل إلى أن همس بفكر ساهٍ: على الأقل هو بخير ولم يتصرف بحماقة.
شهقت بدهشة فعقد حاجبيه بإستنكار!
أشرت إليه بعدم تصديق وقلت بصوت عالي: لقد قلتها!
ظل ينظر إلى بطريقته تلك حتى بدى وكأنه استوعب الأمر واسرع يلتفت مبعداً وجهه وقد رفع يده يمررها على عنقه مزمجراً: فليكن.
لقد اعترفت بإهتمامك به دون أي مراوغة! كان على التأهب وتسجيل ما تقوله.

أخذ الإنزعاج مجراه على ملامحه وهو يرمقني بطرف عينه: توقفي عن هذا.
ابتسمت مقتربة بسعادة: لا تقلق سأنقل كلماتك الصادقة إلى كريس حتى ي.
جربي فعل هذا فقط.
كانت نبرته قد احتدت بتحذير فأجفلت للحظة قبل أن أحاول كبح ابتسامة خبيثة من شق طريقها نحو ثغري، من الصعب حقاً تصديق ما تفوه به! بل وأنه لم ينكره الآن. يوجد تفاعل جيد من قِبل رين مع هذه الأحداث.

رأيته يتنهد وينظر للغرفة من حوله بهدوء، وقفت في مكاني أترقب حتى همس: لقد تغيرت الغرفة كلياً.
أخفضت نظري لمهية قبل أن أميء مبتسمة: كنت أغير فيها الكثير في كل مرة أعود فيها من العمل إلى هنا.
أعقبت أخفي ضيق حاول التغلب علي: ربما أرغب في حذف بعض الأشياء الغير ضرورية من ذاكرتي.
بلا شك، فالكثير في غرفتي القديمة يذكرني بباتريشيا. بأوليفيا وفيكتوريا.
بمثلث التعاسة، مثلث الشر في عالمي.

حيث دفعني الخوف من باتريشيا الى اكمال دراستي خارج المدينة والعمل بعيداً، تاركة خلفي الكثير.
لم أشعر بملامحي التي ارتخت كثيراً وتحديقه إلى بهدوء حتى اسرعت أبتسم أنظر من حولي: ولكنها الآن تناسبني كثيراً، أنظر. لن تجد أفضل من هذا التصميم!
أومأ مسايراً بلا اكتراث فأزعجني ذلك واقتضبت الوي شفتي.
حينها فقط شهقت وصفقت بيدي متذكرة: مهلاً!
أردفت أرمقه بخبث: سأريك أمراً.

تحركت فوراً أمامه نحو الخزانة الموجودة في زاوية الغرفة والتي ضمت عددا كبيراً من الكتب والصور والصناديق الصغيرة والمتفاوتة في أحجامها.
جثيت على الأرض أبحث في أحد الأدراج حتى اتسعت ابتسامتي الشيطانية وأغمضت عيناي بثقة: لا زلت أحتفظ بهذه الصورة.
وقفت بشموخ ورفعتها أمامه فتقدم يضيق عينيه بتركيز حتى بدأ الإنزعاج يأخذ مجراه على ملامحه وزفر بغيض: سُحقاً ظننت أنني تخلصت من هذه الصورة.

قالها وقد تناولها مني ينظر إليها بتمعن وشيء من عدم التصديق.
وكذلك بشيء من الشرود وقد شعرت بأن ابتسامة هادئة بدأت تتحرك نحو ثغره ببطء.

هذه الصورة كانت تجمعني برين وكريس، أنا وكريس نبتسم فيها، حيث كنت أقف في المنتصف وأرسم ابتسامة مرحة واسعة في حين اكتفى كريس بإظهار الثقة و الراحة على وجهه ومع ذلك يوجد كدمة زرقاء على جبينه نتجت عن شجار سخيف مع رين لا أذكر سببه حتى، أما رين فلقد كان الوحيد ذو الوجه المتورد وهو يكتم بكاؤه في الصورة وعلى عينه كدمة خفيفة، . تشاجرا على أمر لا يُذكر ولكن جوزيف وكلوديا قاما بمصالحتهما في اللحظة نفسها ومع ذلك لم نمانع تجاهل كل هذا والتقاط الصورة في حديقة منزل ماكس.

آه أظنني كنت السبب في ذلك الشجار عندما كسرت أحد الأقراص لألعاب الفيديو الخاصة بكريس وانتزعت نفسي من الموضوع قائلة أن رين من فعل ذلك حتى لا يغضب كريس علي!
شعرت بثقل على صدري نتيجة لتذكر تلك اللحظات السعيدة ورفعت عيناي أنظر إليه، أتأمله بينما لا يزال يمسك بالصورة ويحملق فيها بإنهماك.

إلى زرقتيه بدرجتهما الفاتحة واللتان كانتا تشعان مرحاً وحيوية ذات يوم، وإلى ثغره الذي كان يتفوه بكلمات لطيفة ومحفزة للجميع بلا حصر.
ازدردت ريقي وبالكاد فعلت حتى أخرجت نفسي من هالة محملة بالسواد القاتم كادت تسيطر على للحظة، اقتربت وانتزعت الصورة بقوة وقلت بثقة: ما تعليقك حضرة السيد الفاضل؟
أغمض عينيه لثواني ثم تمتم: لا تعليق.
هذا تعليق غير مقبول.

ولكنني تفاجأت به ينتزع الصورة مجدداً وقال بهدوء: حان وقت استعادتها.
اتسعت عيناي بدهشة: عفواً؟
أردفت بإنزعاج: من قال بأنني سأضحي بأي شيء من حاجياتي بكل بساطة؟
اقتربت بغية أخذها منه ولكنه رفع يده فزمجرت بغيض: توقف عن هذا يا رين، إياك وفعل أي شيء بهذه الصورة إنها لي! احتفظت بها لوقت طويل ولا أريد أن يمسها أي سوء. لا تفعل أي شيء أخرق!
وإن فعلت؟!
من فضلك لا! اعدها إلي.

حاولت بكل جهدي اخذها منه ولكنه ظل يرفعها ينظر إليها بملامح لا مبالية وهادئة، عندما شعرت بذهنه يتشتت قفزت لأخذها وقد نجحت بالفعل ولكنه ظل يحاول أخذها وأنا أضحك لأستدير وأعطيه ظهري مبعدة يده التي تحاول انتزاع الصورة مني.
لم أشعر بنفسي وأنا أضحك بل وبدى في نظري غير منزعج!
بطريقة ما.
وكأنه على وشك ان يضحك. أو على الأقل يبتسم!
التفت نحوه أنظر إليه بمكر: ماذا؟ تمنع نفسك من الضحك؟ تكبح رغبة التبسم لي؟

ومع أنني قلتها بثقة وبكل أريحية ولكن.
اللعنة!
لم أنتبه لكعب حذائي العالي الذي خلعته ووضعته على الأرض وقد تعثرت به، دفعت صدره بالخطأ وقد أمسك بمرفقي ليوقفني وأتوازن ولكن كان هذا متأخر جداً فلقد وقعت ووقع فوقي وارتطم جبينه بجبيني بقوة ليدوي صوتاً أشبه بالإنفجار!
أغمضت عيناي متأوهة بشدة وأنا أصرخ وقد دمعت عيناي رغماً عني وكذلك جز على أسنانه يعقد حاجبيه ويتأوه بخفوت.
يا الهي.
أشعر بالدوار!
بصداع لا يوصف!

رأسي وكأنه قد انشطر إلى نصفين! أي جمجمة هذه تحديداً؟!
كنت أنظر إلى الفراغ بلا وجهة محددة غير قادرة على النظر جيداً وقلت بألم: رأسي. اتصل بالطوارئ أكاد أفقد وعيي.
اللعنة!
قالها بإنزعاج مصحوب بتأوهاته وبدى يحاول أن يعتدل قليلاً وحينها فقط نظر إلى بصعوبة.
طرفت ببطء وبالكاد فعلت إثر الألم الذي أشعر به. ولكنني وللحظة، وبالرغم من هذا الألم المميت وجدت نفسي أتظاهر بأنني فاقدة للوعي بملامح منهكة.

كنت أنتظر الوقت الذي سينادي فيه بإسمي بقلق ويبدأ بمحاولة إيقاظي ليحملني بين يديه ويساعدني ملتمسة في صوته الخوف والجزع، ولكن أمالي تحطمت لنبرته المغتاظة: هل أنتِ حمقاء؟
لا أمل.
فتحت عيناي وهذه المرة بصعوبة فحركة جفناي تشعرني أنها تستهلك من قوة ثبات جمجتي التي أشعر بتحطمها!

وعندما نظرت إليه استوعبت المسافة الصغيرة بيننا، و انحناؤه فوقي مستنداً على يمناه والأخرى يمررها على جبينه حتى همس بصوت أجش: أسمع صريراً مزعجاً في رأسي. ثم أنظري! لقد التصق القناع السخيف هذا على جبيني!
فغرت فاهي قليلاً وقد نسيت الألم كما لو وضعت عليه مخدر!
كل ما أفعله هو التحديق إليه، لم أسمع تذمره أو أي صوت أخر عدى خفقات قلبي الجنونية.
وصوت الستائر التي ارتفعت نتيجة الهواء القوي القادم من الخارج.

رفعت يدي أضعها على صدري محاولة تهدئة نفسي، بدى وكأنه استنكر صمتي فنظر إلى بتقطيبة صغيرة بين حاجبيه لثواني قبل أن يستوعب المسافة هو الآخر.
لا أدري حقاً كم دام تبادل النظرات هذا!
ولكنني فقدت القدرة على أي شيء يمكنني فعله عدى الحملقة فيه! صدقاً. ربما لو صح التعبير فسأقول بأنني أتعرض لتنويم مغناطيسي جعلني لا أستطيع فعل أي شيء عدى التحديق إليه. وكأنها الوظيفة الوحيدة القادرة عليها!

تسارعت خفقات قلبي أكثر فأكثر عندما نظر في عيناي مباشرة يطرف ببطء وقد انزلق نظره إلى ثغري.
ازدردت ريقي بصعوبة ومع ذلك.
أغمضت عيناي بإستسلام تام.
وكأنني أرفع الراية البيضاء أمامه وأطلب منه أن يخطو خطوة واحدة تجاهي تشعرني بأنني أرى أملاً في التقدم معه بدلاً من القاء مشاعري هذه خلف ظهري!
أنا.
أشعر بحرارة أنفاسه، أعتقد أن وجهه قريب جداً.
س. سيقبلني؟!

كان هذا ما اعتقدته حتى وجدته يبتعد فجأة ويعتدل ليجلس ممرراً يده على جبينه بألم ثم وقف. أسرعت بدوري أعتدل لأجلس ورتبت مظهري متحاشية النظر إليه بفعل التوتر الذي أشعر به، ولكن سرعان ما انقضى الأمر بوقوفي وقد عدت لموضوعنا السابق بمكر: يا الها من ردة فعل عدائية، إن كنت قلقاً بشأن الصورة فدعني أخبرك أنني أحتفظ بعشرات الصور السخيفة لك وأراهن أنك ستفعل الكثير لمجرد التخلص منها.

رمقني بطرف عينه قبل أن يبحث بنظره عن شيء، لم يكن سوى علبة المناديل التي اتجه إليها ومسح من على جبينه أثر قناعي!
لويت شفتي بإمتعاض لتجاهله إياي فتنهدت متكتفة ولم أقل شيئاً آخر.
ولكنني أجفلت في مكاني لصوت الطرقات على باب غرفتي وتلاها صوت مستنكر: جينيفر؟ هل كل شيء على ما يرام؟! من الذي اقتحم الغرفة؟ اخبرتني الخادمة بذلك!
أ. أمي!

ضغطت على البنزين الذي حركني لأركض تجاه رين وأمسكت بيده أجره خلفي بسرعة البرق مقابل حيرته الشديدة، فتحت باب خزانة الفساتين ودفعته بقوة إلى الداخل! أغلقت الباب بعنف ونظرت إلى الغرفة لاهثة بحذر متأكدة من خلو أي شيء يدل على تواجده ثم قلت بصوت عالي: تفضلي.

فتحت الباب وقد أدخلت رأسها أولاً لتنظر بعينيها البنية الفاتحة إلى الغرفة بحذر: لا يوجد أي مقتحم هنا؟ يمكنني إخبار الطوارئ يا جينيفر ولكن لا تدخليني بينما يهددك بعدم التحدث ثم توقعينني في ورطة!
قلبت عيناي بملل وانا أجلس على السرير: هل تخشين على حياتك أكثر من ابنتك التي لن يعوضك أي شيء عنها!

تنهدت بدورها ودخلت بشك وهي تتفحص النظر إلى المكان، عقدت حاجبيها تتفحص كل ما تقع عينيها عليه في حين انشغالي بإخفاء الإرتباك الذي أشعر به، من الطبيعي أن أخفيه في خزانتي فهو على أي حال يعترض على فكرة المواعدة. وإن علمت أمي بالأمر فلن يمر بسهولة، هي تعرف رين جيداً فلقد كان كثير المجيء إلى هنا، كان يمضي وقته معها ريثما أعود من المدرسة، لن تمانع الأمر ولكن الأسوأ أنني سأورط رين معي وحسب. فأمي ستنشر الخبر أسرع مما أفعل في مجال وظيفتي أنا. وإن علمت فيكتوريا بالأمر فأنا واثقة بأنه سيغضب وإن لم يكن كل هذا حقيقة أصلاً.

ليس وكأنني سأجبره على مواعدتي. ولكنني لا أمانع مواصلة البوح بمشاعري! لا أرى في هذا أي خطأ أو إهانة لي. أحب رين ولا مشكلة لدي في إخباره بذلك!

انتفضت لصوتها المستنكر وهي تعيد خصلات شعرها الأسود خلف أذنها بحزم وتقف على اهبة لشيء ما: جينيفر. أخبريني بالحقيقة! هل فعل لكِ أي شيء، الخادمة أخبرتني وبكل وضوح أن رجل ما قد رفض التوقف أو الإستئذان ودخل إلى هنا فوراً، كانت تبدو قلقة بالفعل. لا يمكنكِ إنكار الأمر فأنفي يشتم رائحة عطر رجالي.!

طرفت بعيني بحيرة: من قال أنني سأنكر الأمر؟ دخل بالفعل أحد الحمقى المطاردين، تعلمين كم أعاني من ملاحقاتهم الدائمة لي!
أردفت بأسى: ولكن لا داعي للقلق، لقد غادر فوراً بعد أن تبادلنا بعض أطراف الحديث المختصرة، إنه مجرد مزعج يحوم حولي في كل مكان.
اتسعت عينيها واقتربت لتجلس بجانبي على السرير بتوتر: ولكن. جميع المتربصين المهوسين بكِ من المدينة التي تعملين فيها!

أضافت بخوف ممسكة بيدي: لا تخبريني أنه لحق بكِ إلى هنا.
أومأت بلا حيلة: صحيح.
يا الهي هذا كثير حقاً! علينا التصرف بهذا الشأن.
لا تقلقي على يا أمي، يمكنني التصرف بهذا الشأن، تخلصت من الكثيرون واللذين كانوا أفظع منه!
زمت شفتيها بقلق: ولكن أن يتمادى ويأتي إلى المنزل!
وضعت يدي على كتفها بثقة: ما خطبكِ يا امرأة! تعلمين جيداً ما يمكنني فعله.

غيرت الموضوع أتظاهر بالتعب: رأسي يؤلمني، أظنني بحاجة إلى إزالة هذا القناع والإستحمام بسرعة.
بدت أمي تنظر إلى الفراغ بشرود وقلق حتى شهقت فجأة وقالت بدهشة: أين شارلي! لا تخبريني أنكِ عدت بدونه؟!
طرفت ببراءة: وإذاً؟
أين تركتِ شقيقك المسكين!
في المشفى مع جيمي.
تنفست الصعداء مميلة برأسها: آه هكذا إذاً، ذلك المسكين الصغير هل تحسن حاله؟

أومأت مبتسمة بلطف: إنه يتحسن بالفعل، سيجري العملية لإستعادة بصره قريباً وسيزيل الجبيرة بعد فترة لا بأس بها لذا لا داعي للقلق.
أشفق عليه حقاً. اعتدت على مجيئه والجلوس معه ومع شارلي، أفتقده كثيراً. ولكن. إن كان شارلي سيتأخر فربما سأكون مضطرة إلى الذهاب وحدي دونه.

إنها تتحدث عن الحفلات الرسمية التي تذهب إليها وتضم عددا من بعض ذوي المناصب المهمة، والجميع يلقي اللوم على ظناً منهم أنني من تسببت في نضوج شارلي الأحمق ولكن السبب يعود إلى إعتماد أمي عليه في مرافقتها إلى الحفلات ومنع الرجال من الإحتكاك بها بأي حرف طالما أن أبي كثير السفر والإنشغال بالعمل. حسنا ربما أنا ملامة أيضا ولكنني لا أزال فخورة به!

بالمناسبة لم أكن أتظاهر للتو بالتعب! فرأسي لا زال يؤلمني كثيراً بسبب ذلك التصادم المميت، على الذهاب إلى المشفى وإجراء بعض الأشعة لعل جمجمتي قد تأثرت!
كما أن القناع بدأ يجف على وجهي وعلى غسله.
نظرت إلى أمي التي تمتمت مفكرة: كنت أفكر في هذا منذ وقت طويل، هل عليكِ الإستمرار في العمل في مدينة بعيدة؟
ارتخت ملامحي ببلاهة: هل سألجأ إلى إزاحة المقر الذي أعمله فيه إلى هنا مثلاً؟
أنا جادة!

أضافت وهي تعانق ذراعي بقوة وتتذمر: أنا لا أراك سوى في أيام راحتك والإجازات الرسمية، هذا ظلم لم أعد أصبر على فراقك أكثر!
ظلت متشبثة بذراعي وتتذمر لدقائق لا أدري كم طالت! وهذا هو الجانب الذي ورثته منها تحديداً، فأنا أعلم جيداً أنني لا أتوقف عن التقاط أذرع البشر من حولي ومعانقتها في كل وقت! ولكن. هذا بعيد عن قدرتي في السيطرة عليه.

كنت أسايرها للحظات أفكر فيها برين الذي سيغضب على لإطالة انتظاره في الخزانة. هذا إن لم أجده مختنقاً في الداخل.
كانت آخر جملة أقولها وأنا أدفع كتفا أمي مبتسمة وانا اقودها للباب: آه نعم سنخرج للتبضع وشراء المزيد من مستحضرات التجميل ولكنني بحاجة إلى الإستحمام الآن أعدكِ أنني لن أتأخر.
أومأت بلا حيلة وهي تتجه للباب: ولكننا سنعاود التحدث بشأن عملك بعيداً يا جينيفر.
حسناً فليكن.

ما ان خرجت حتى بدأت تفكر متمتمة وهي تنظر من حولها إلى الممر: ربما على وضع حراس هنا لحمايتك. سيكون هذا آمنا أكثر حتى لا يتمادى رجال آخرون ويتربصون بكِ ويلاحقوك إلى المنزل.
تركتها تفكر وقد أغلقت الباب بالمفتاح، ركضت فوراً إلى الخزانة لأفتحها.
ولكنني تسمرت في مكاني بدهشة أنظر إلى وجهه المتعرق وعينيه اللتان يغمضهما بقوة!
ك. كيف نسيت! أجبرته على الإنتظار في خزانة معتمة كهذه!
اللعنة.

أسرعت أمسك بذراعه أسحبه بقوة فتحرك ولا يزال يغمض عينيه يلهث بصعوبة، جثى على الأرض وبدى وجهه متورداً قليلاً فجلست أمامه بقلق: رين! هل أنت بخير؟ يا الهي لقد نسيت الأمر حقاً. م. ماذا أفعل؟
ولكنه ظل يلهث بطريقته تلك وعقد حاجبيه وهو ينحني ليريح جبينه على الأرض لثواني، مررت يدي على ظهره بخوف وقلق وحاولت إجباره على الإعتدال في جلسته وعندما نجحت بدأ يفتح عينيه ببطء وكأنه يتأكد من كونه في مكان غير مظلم.

ازدردت ريقي بصعوبة وتساءلت بخوف: ما الذي يمكنني فعله!؟ هل نذهب إلى المشفى؟ هل أنت قادر على التحرك! أجبني على الأقل.
رفع يده يمسح العرق الطفيف على وجهه وأبعد ناظريه هامساً بصوت أجش: أنا بخير.
اعتدل بنفسه مبعداً يدي ليريح ظهره على الخزانة واحنى ساقه اليسرى ليغمض عينيه قليلاً فاقتربت لأجلس أمامه مباشرة أمسح ما تبقى من عرق وأرفع شعره بيدي المرتجفة لتنتابني الغصة متسائلة: كيف تشعر!

ولكنه لم يجب، ظل يحاول ان يتمالك نفسه لفترة لا أدري كم دامت، لحظات حتى انتظمت أنفاسه ونظر إلى بصمت، يا الهي أنا حقاً أشعر بتأنيب الضمير. ما كان على دفعه إلى الخزانة كيف نسيت عقدته تلك!

لقد انتظرت لحظات أخرى حتى شعرت بالراحة والطمأنينة لعودته إلى طبيعته وقد وقف يرتب مظهره وبدى على ملامحه شيء من الإنزعاج، ولكنني تفاجأت به يرمقني بطرف عينه بإقتضاب: لماذا فعلتِ هذا، جعلتني أبدو كعشيق سري أتى للقائك دون معرفة أحد.
عقدت حاجباي أنظر إليه بتردد، أظنه. أصبح أفضل حالاً!
ذلك التورد قد اختفى أخيراً.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *