رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل التاسع والسبعون
كان يشعر بأن هدوئها غريبًا، والآن أفصح له عما أخفته بجعبتها، عاد جمال يطرق الباب متحدثًا بصوتٍ حرص على انخفاضه:
صبا افتحي الباب ده وبلاش جنان، أنا مش نازل من لندن عشان نحل مشاكلنا هنا!
أتاه صوتها المتحدي:
اللي عندي قولته يا جمال، إنزل تحت عند ماما آشرقت وأوعى تفكر تعتب الشقة دي طول ما أنا فيها والا وقسمًا بالله لأخد ابني وأمشي ومتعرفلي طريق.
مال بجبينه يستند على الباب، وقال بارهاقٍ:.
وبعدين معاكِ يا بنت الناس، مصرة تقسي قلبك عليا، مشفعلكيش انتقامك مني طول الفترة اللي فاتت؟! يا صبا أنا عملت كل حاجه عشان تسامحيني وملجئتش لحجة إني مكنتش في وعيي، اتحملت نتيجة حقد نعمان الغرباوي ودفعت التمن غالي، سكت واتقبلت كل حاجة عشان كان جوايا احساس كبير بالذنب تجاهك، عاتبت نفسي على الأيام اللي فاتت ولقيت إني كنت ظالم أكتر ما كنت مظلوم.
واستطرد بحزنٍ جعل قامته تنحني:.
ودلوقتي خلاص استكفيت من البعد والهجر، عايز أكون جنبك وأعوضك وأعوض نفسي عن كل اللي شوفته، صبا أنا مش عايز أقلب في اللي فات وأفكرك بغلطاتك واللي أولها نظرتك لصاحب عمري، مش عايز أئنبك في مقارنة ما بين حياته المترفية وحياتي اللي قضيتها مكسور وأنا شايف أمي طالع عينها عشان تربيني أنا وأخواتي، كل راجل وله شخصيته وأنا ظروف حياتي اللي عملت مني الشخصية دي، أنا مش وحش أوي يا صبا.
ونصب عوده يتجه لدرج المبني الجانبي وهو يرفع صوته لمن تقف خلف الباب، يفضحها ظلها المنسدل من أسفله:
من أول ما اتجوزنا محدش علم بمشكلة حصلت بينا، نزولي لأمي تحت هيكشف إن في مشكلة بيني وبينك وأنا مش هقبل بده، خليكي في بيتك وأنا هفضل هنا لحد ما تحني وتفتحيلي بابك وقبله تفتحيلي قلبك من تاني!
رددت بتعصبٍ وعند:
مش هفتح يا جمال حتى لو قعدت عندك طول الليل.
وتركته وغادرت وبقايا ابتسامة ألم تتشكل على شفتيه، مهما مضت الدقائق كان يرى ظلها يدنو من الباب تتفحصه من العين السحرية، تتأكد من أنه مازال يجلس، ابتسامة مشاكسة تشكلت على فمه، أتظنه يتحدث عبثًا!
نزع جمال عنه جاكيته، ثم وضعه على الدرج من خلفه ومال برأسه يستند عليه، بينما عينيه لا تفارق السقف بشرودٍ.
مضت ساعة كاملة ومازال صامدًا، حتى فقدت كافة آمالها بأن ييأس ويهبط للأسفل، توجهت لغرفتها وهي تحاول أن تصطنع عدم مبالاتها به وبنومته الغير مريحة، بأجواء باردة ليلًا مثل ذلك الموسم الخريفي، ولكن قلبها الخائن لم يتقن دور القسوة.
اتجهت للباب تحرره وتطالعه بنظرة غائرة بالدموع، حينما وجدت النوم يغلبه لدرجة لم يشعر بها، إتجهت إليه تناديه بضجرٍ:
جمال!
لم يستمع إليها، فانحنت إليه وما كادت بهز جسده حتى صفنت بمعالمه التي لطالما عشقتها، شعره الأسود الذي طال عن طوله الطبيعي فزاد من وسامته، لم يكن ليتركه يومًا، ذقنه المتوسطه، عينيه المطبقة خلف رموشه الطويلة، كل شيء يجذبها إليه، أفاقت من عاطفتها تناديه ويدها تحرك ذراعه:
جمال فوق.
فتح مُقلتيه ببطءٍ، فوجدها قبالته، منحها ابتسامة وهو يهمس:
مهنتش عليكِ؟
تساقطت دموعها عن عينيها، وبألمٍ أجابته:.
مهنتش، بس أنا هنت قبل كده.
قربها إليه يحيط وجهها بيده، بينما يعيد خصلاتها خلف أذنيها:
مش صحيح، عمرك ما هنتي ولا هتهوني على قلبي، أنا بأحبك يا صبا.
ودنى إليها يقربها منه، ونبرته الرقيقة تستهدف حصونها:
بحبك ومش عايز في دنيتي غير رضاكِ، من أول ما عنيا لمحتك دفنت تفاصيلك جواها، وكأنها عارفة إنك هتخصيني وهتكوني ملكي.
بدت مندهشة من سماعها لحديثه، أيعقل أن يخرج عن صمته بعد تلك السنوات، مازال يضم وجهها إليه، أصابعه تزيح أي دمعة تتدفق عنها، ابتلع ريقه بتأثرٍ بقربها وسألها بقلبٍ يرتجف من سماع الاجابة:
أيه اللي بقى جواكِ ليا يا صبا، الحب ولا الكره؟
يطول بها الصمت ومُقلتيها غارقة بحدقتيه، فقربها يستند بجبينه على جبينها وهو يعيد سؤاله لها بتعب:
إتكلمي متسكتيش، لسه بتحبيني؟
اعتصرت عينيها بينما رأسها يهتز باجابتها المؤكدة بحبه، توسل لها بضعفٍ يجتازه:
انطقيها عشان خاطري.
تعالت شهقاتها المتآلمة، وبخفوتٍ ردت:
مقدرتش أكرهك، آآ، أنا بحبك أوي
اتسعت ابتسامته وهتف بحب وهو يضمها بقوةٍ:
يا روح قلبي!
تعلقت به بينما ينساق بها خلف عاطفته ونيران شوقه، فوجدها تستقبله بكل ترحاب، مضت دقائق اضافية بينهما، فاذا به يهمس بمرحٍ:.
لو الحاجة آشرقت قفشتنا على السلم هتطردنا في الشارع بتهمة فعل فاضح بالطريق العام.
تعالت ضحكاتها تباعًا وهي تؤكد له، بينما يضم كفها بين كفه، حتى عاونها على النهوض، وقبل أن تخطو خطوة واحدة، انحنى يحملها بين ذراعيه، فأحاطت رقبته تتطلع له بدهشة، لقد تغير كليًا عما كان عليه، أصبح أكثر تعبيرًا عما كبت داخله من مشاعر لها، بل أصبح أكثر جراءة!
ولج يغلق بابهما، وكأنه يتعهد لها بداية علاقة مميزة بينهما تغلق كل الآنين السابق لهما، وقد صدقت بحديثه ومنحته الثقة والاطمئنان، دافنة خلفها كل رغبة ثأر، بعد أن شعرت بأنه يحاول تعويضها عما حدث بينهما، بينما تقنع ذاتها بأنه لم يكن بوعيه.
ذراعيه القوية تلتف من حولها، ومازال يدور بها، كلمته المحببة لقلبها كلما نادته تغلغلت داخلها، أحاطت يديه وحاولت الاستدارة إليه لرؤيته، أدارها إليه ولم يفلتها، فأدمعت عينيها وهي تراه، بينما يقول بسعادةٍ:
وحشتيني يا بيبي.
وجذب الباقة المسنودة على الحقيبة، يقدمها إليها مضيفًا:
الورد للورد.
تحررت عن صمتها أخيرًا قائلة بغضب:
مش عايزة منك حاجه، نزلني وإبعد عني.
أحكم يديه من حولها، ومال يهمس لها:.
حبيب قلبي شكله زعلان مني وواخد على خاطره.
عُمران!
ناداه علي بحزمٍ، مضيفًا:
نزلها الناس بتتفرج علينا!
انحنى يتركها أرضًا واستدار لأخيه متلهفًا للقائه، فضمه وهو يصيح بشوقٍ:
دكتور علي!
ابتسم علي وضمه بحبٍ، فاتسعت عينيه دهشة حينما استمع لهمسه:
سكلك موزنتشهاش قبل ما تيجي زي ما نبهتك، عموما أنا موجود فتقدر تنسحب.
لكزه بضيقٍ وعدم تصديق:
أيه اللي بتقوله ده.
أبعده جانبًا وهو يخطف باقة من الزهور المتبقية، ويرنو تجاه فاطمة، رفعه إليها قائلًا في سرورٍ:
حمدلله على السلامة فاطيما هانم.
اندهشت من نبرته ولكنها التقطت الباقة منه، تجيبه على استحياء:
الله يسلمك يا عُمران.
وضع الباقة إليها وقال بفخرٍ اعتراه:.
حسام قالي على كل اللي، عملتيه طول الفترة اللي فاتت، حقيقي أبهرتيني يا فاطمة، وشكلي كده هحتاج تكوني مكاني في الشركة الفترة اللي، جاية عشان أحقق أمنيتي المركونة وأخد جولة حول العالم كام شهر.
لكمته مايا بباقة الزهور وهي تصرخ به:
هو انت لسه ناوي على السفر!
ضحك أحمد وأضاف شامتًا:
ناوي يغلبنا وراه في بلاد الله، إديله يا مايا، الوقح ده تمادى فيها ومحتاجله وقفة.
اختطف منها الباقة وضمها بين ذراعيه يهمس لها بتحذير:
حبيب قلبه صوته وإيده علوا على جوزه، ومحتاج إعادة تربية من أول وجديد!
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، فاستطرد بخبث:
انحرفتي يا مايا في الكام يوم اللي بعدتهم عنك!
هزت رأسها تنفي تهمته، بينما تتجه عينيها تستغيث بغوثها:
علي إلحقني!
سئم منه ومن تهديداته التي تلاحق أي فرد من العائلة كأنه بلطجي عالمي، إتجه إليه يبعد يده عنها وهو يصيح من بين اصطكاك أسنانه:
تسمح!
أبعد عمران يده عنها وقال ببسمة ماكرة:
هتطلع معانا الاوضة كمان ولا أيه؟
عُمران!
صوتها الرقيق انتشله من مشاكساته المعتادة، استدار، للخلف فوجدها تعود من مرحاض السيدات برفقة إحدى الخادمات المرافقات لها، وعلى ما يبدو بأن السفر أتعبها، ترك كل شيء وأسرع لها يهتف بسعادة:
فريدة هانم!
اندثت بين أحضانه تمنع دمعاتها بالهبوط، ريثما هرمونات حملها تجعلها سريعة البكاء تلك الايام، شعر برجفتها فأحاطها بقوةٍ وهو يتساءل بقلق:
ماما إنتِ كويسة؟
هزت رأسها بخفةٍ، وابتعدت تطالعه بحب، بينما تشير بعينيها على ما ترتديه:
أيه رأيك بالجيب؟
انخفض بصره تلقائيًا لتنورتها، فوجدها طويلة تصل لقدميها على غير عادتها، ارتسمت ابتسامة جذابة على شفتيه وقال:.
جميل بس الجاكت هو اللي ضيق حبتين، أكيد مضايق كمان البيبي، بس متقلقيش أنا عامل حساب مايا بملحفتين كبار ومزود واحدة احتياطي لحضرتك.
شددت بنبرتها الحازمة:
ولد!
هدر بخبث وهو يقنعها بما قال:
هنا الحاجات دي بتتحسد يا فريدة هانم، لازم تداري نفسك على قد ما تقدري، وبعدين فين اتفاقنا على الحجاب؟!
أجابته بحزنٍ:
وكان جزء من اتفاقنا إنك تساعدني بالشوبنج بلبس محجبات راقي، سبتني ونزلت مصر، من غير ما حتى تعرفني!
انحني يقبل يدها ورأسها بحنان:
آسف يا حبيبتي، عارف إني خليت بوعدي بس من دلوقتي أنا رهن اشاراتك، هنعمل شوبنج من اللاب للصبح، كل اللي، تحتاجه فريدة هانم أوامر وعليا التنفيذ!
ابتسمت وهي تعود لتحتضنه هامسة ببكاء انسدل منها رغمًا عنها:
البيت من غيرك جحيم يا عمران، عمرك ما بعدت عني بالشكل ده، لما كنت بتسافر في شغل كنت بترجع نفس اليوم على أول طيارة، المرادي سافرت ومهتمتش بيا ولا حتى بمايا.
ربت على ظهرها بحنان وقال بنبرة لمسها الحزن:
كنت محتاج للفترة دي، اللي عدى انتهى أوعدك عمري ما هبعد تاني.
ورفع الباقة إليها يغمز برماديته بمشاكسة:
مش هنلاحق على معجبينك هنا يا فريدة هانم، فأيه رأيك تأخدي الورد وأطلعلك الملحفة؟
حدجته بنظرة مغتاظة، وجذبت ما بيده تخبره بعنجهيةٍ وهي تعدل قبعتها السوداء ولاثام يدها الاسود:
هاخد الورد بس، وهخرج من هنا مع جوزي.
ووضعت معصمها بيد أحمد الذي اتسعت ابتسامته، وخرج بها يردد:
وجوزك مش مصدق إنه رجع بلده المرادي مجبور الخاطر ومعاه جوهرته اللي فقدها من سنين.
تابعها عمران وهما يخرجان للسيارة بنظرة متعصبة و، ورفع من صوته الساخر:
خف من النحنحة لتخبط في شباك العربية قبل ما تدخل من الباب يا أحمد باشا!
وجده يلتفت إليه يشير بلسانه ساخرًا منه، فجز عمران على أسنانه وهدر:
خلصنا من نعمان الغرباوي والدور عليك يا جوز الهانم!
وحينما استدار تفاجئ بعلي يرمقه بنظرة ساخطة، فرسم ابتسامة باهتة وقال:
أبو علوة ليك وحشة والله.
دفع احدى الحقائب التي يدفعها تجاهه وأمره بصرامة:
خرج الشنطة بالعربية.
هز رأسه في طاعه وأشار لما بيده:
هات شنطة كمان أخرجها.
ببسمة خييثة قال:
لا كفايا عليك الشنطة دي.
تعجب من نظرة الخبث التي لم تعهدها أعين أخيه، فرفع ذراع الحقيبة المتحكم بسحبها، فاذا بعلي يأمره مجددًا:
لا هينكسر، شيلها أفضل.
تعجب مما يقول، ورغم ذلك طبق ما قال، فتوسعت مقلتيه صدمة، وأسقطها عن يده يتساءل بدهشة:
دي تقيلة جدًا، فيها أيه دي يا علي؟
أجابه ببراءة مصطنعة:
شوية كتب نادرة، مستحيل هلاقيها هنا.
وارتدى نظارته السوداء، وأشار لزوجته وزوجة أخيه بالخروج للسيارة ثم لحق بهما يربت على كتف أخيه قائلًا:
فين عضلاتك اللي بتتفاخر فيها! لو فارقتك استخدم لسانك الوقح، طوله هيساعدك.
وتركه وغادر يكبت ضحكاته من احتقان وجه عمران الذي كاد أن يحمل الحقيبة ويدفعها فوق رأس علي، فحملها ومضى خلفه بتأففٍ ووعيد.
استقبلهم آدهم ببسمة لم تصل لقلبه المتألم، وأعين شمس الباكية تراقبه، كانت تود أن تعلم ما به ولكنه رفض الافصاح عن الامر، وحديثه لم يكن الا مبهمًا للغاية، على وعد أنه سيقص لها بالوقت المناسب.
وصل عدي وليل إلى ميلانو، وتم البدء بتنفيذ المخطط الثاني، على ان يتم تهريب الميكروفيلم بعد عشرة أيام ألى مصر لضمان تنفيذ عدي مخطط رحيم الثاني.
لم يكن الامر ينطبق على استعادة ما يخص مصر فقط، بل رد الصاع صاعين ليكونوا عبرة لمن يعتبر!
فور وصول السيارتين للكمبوند الخاص بأحمد الغرباوي، وفور صعود الجميع لغرفهم، خرجت فاطمة للشرفة تتطلع للمنظر الساحر من أمامها بسعادة، أحاطها علي وضمها إليه، يسألها بفضولٍ يفسر حالتها الواضحة:
مبسوطة؟
مالت تستند على صدره وهي تجيبه بفرحةٍ:
جدًا يا علي، الفترة اللي قضتها في مصر مقدرتش أنساها، ناسها طيبين بشكل مش طييعي، وبعدين مقابلتنا الاولى كانت هنا إنت ناسي ولا أيه؟
قبل أعلى رأسها وقال:.
عمري ما نسيت حاجه تخصك يا فطيمة.
استدارت إليه تقابله بنظرة عاشقة، وقالت:
بالرغم من الحالة الغريبة اللي كنت فيها الا أني كنت بحس بالاطمئنان من أول ما مسكت حالتي من الدكتورة يارا، بس كنت خايفة إنك تسافر وتسيبني.
ضمها بقوة وقال بعشق:
والحمد لله ربنا لم شملنا وبقيتي حرم دكتور علي الغرباوي!
تعلقت به وقالت على استحياء:
بحبك ومش عايزة حاجه من الدنيا غير قربك مني يا علي.
اسدلت شفتيه عن ابتسامة مشرقة:.
وأنا مش عايزك غير قريبة باستمرار يا روح قلب علي!
سحب ساعته الموضوعة على الكومود يتفحصها، ثم تطلع لمايا الغافلة بين ذراعيه، حملها عمران برفق ووضعها على الوسادة، ثم تسلل من جوارها يجذب قميصه، ومن ثم اتجه لاحدى الحقائب يجذب ملابسه، ولج لحمام غرفته يغتسل، وخرج يتسلل للخروج.
ما أن لمس مقبض الباب حتى وجدها تناديه:
على فين يا بشمهندس؟
ضم شفتيه معًا بغيظ، واستدار لمن فعلت اضاءة الغرفة، تربع يديه معًا وتقابله بنظرة حادة، اتجه إليها يجلس قبالتها وقال:.
الفجر قرب يأذن نازل أصليه بالمسجد يا حبيبي
دنت منها نظرة لساعة الحائط وقالت باستهانة:
لسه ساعة عن الفجر يا عُمران، ممكن تفهمني بتخبي عني أيه، أنا خلاص تعبت من التفكير!
أعاد خصلاتها المتمردة خلف أذنها، وانحنى يجذب مئزرها الشتوي، يعاونها على ارتدائه ويداثرها بحنانٍ هدأ من ثورتها رغمًا عنها، ثم جلس قبالتها يطالعها بنظرة غامضة، أنهاها بقوله الجاد:.
في أصعب الاوقات اللي مرت بيه علاقتنا مشكتيش فيا يا مايا، فأوعي عقلك يصورلك إني بعمل حاجة غلط وأنا بعيد عنك، أنا بطبعي مبحبش الخيانة، فتأكدي إن عيني عمرها ما تخونك بنظرة واحدة لغيرك، وإن قلبي عمره ما علت دقاته لست غيرك.
أسرعت تبرر له:
مقصدتش اللي في دماغك، بس نزولك مصر مرة واحدة، مدتك اللي، طالت عن يومين زي ما قولتلي، وفجأة قرارك بالاستقرار هنا، ودلوقتي بدل ما تفرح إننا اتجمعنا بتتسحب وعايز تخرج!
نهض يتجه للبراد الصغير، يحمل احدى زجاجات العصائر، يسكب منها بكوب زجاجي، وعاد لها يقدمه إليها:
اشربي واهدي يا مايا، شدة الاعصاب دي وحشة عشانك إنتي والبيبي.
هزت رأسها نافية بعناد:
مش عايزة أشرب حاجة، ولا عايزة أسمعك تاني، اخرج براحتك مش فارق معايا.
وولاته ظهرها وهي تعصف دموعها بوجع، لا تعلم ماذا أصاب زوجها بالتحديد، ترك ما بيده وتمدد خلفها يحيطها برفقٍ، يربت عليها رغم رفضها الصريح لبقائه جوارها، فدفعته وهي تهدر بعصبية:
روح مشوارك اللي بتتسحب عشانه وش الفجر.
سيطر عليها بقوته ومنعها عن دفعه، قائلًا باستنكار:
أنا ممانعتش أقولك أنا رايح فين وماشي بدري ليه، مايا أنا مش عايزك تزعلي من شيء مش مستاهل، زعلك ودموعك تهمني وميهونوش عليا حبيبتي.
وبلطف تابع:.
ممكن نتكلم شوية وبعدها لو ليكِ حق هعمل اللي يراضيكِ؟
استدارت إليه تتطلع له بحزنٍ، وجلست بمحلها كالطفلة المطيعه، منع ابتسامته من الابنلاج واستقام جوارها يسحب العصير مجددًا، قابلته بنظرة عناد وغضب، فقال ببرود يصطنعه:
البصة دي ترعب أي حد بس للأسف يا بيبي متأثرش مع عُمران الغرباوي!
ومرر يده على شعرها كأنه يروضها:.
حبيب قلب جوزه هيعقل كده ويسمع الكلام، عشان اللي بينا ميقلبش زعل بحق وحقيقي، أنا مراعي لكل حالاتك وتقلباتك وبحاول أهدى وأعقل فبلاش تستفزيني يا مايا!
سحبت الكوب منه ترتشفه على مضضٍ، ثم ناولته إياه دون أن تنتهي منه، زوى حاجبيه يتفرس بالكوب، فقالت باستياء:
اتكلم بقى يا عمران معتش قادرة أكمله!
طالعها بنظرة مشاكسة وقال:
بس أنا كلامي عهد!
زفرت بغضبٍ، فضحك وهو يلف الكوب يرتشف من محلها وهو يردد:.
هساعدك تنفذي أوامري!
ارتشف نصف الكوب ووضعه جواره فابتسمت رغمًا عنها، وما أن عاد إليها حتى تلبست رداء الغضب والاستياء مجددًا، طالعته باهتمام لسماع ما سيقول فوجدته يضمها مجددًا وهو يهتف في مرحٍ:
تعالي في حضني عشان تهدي خالص وتسمعيني بقلبك مش بدماغ الستات النكدية اللي مستحوذة عليكي الوقتي.
دفعته عنها وبعصبية صاحت:
هتتكلم ولا آ…
تطلع لإصبعها المسلط بوجهه، فسحبته وزفرت بيأس:.
قوم اخرج يا عمران مش عايزة أسمع منك حاجه.
تغاضى عما قالت، وردد بهدوء:
لما وصلت هنا كنت تايه ومهموم، اللي عمله جمال مكنش سهل عليا حتى لو حاولت أبين عكس ده، كنت فاكر إن مفيش دوا لوجعي، بس كل ده انتهى بمجرد وصولي حارة الشيخ مهران.
اعتدلت بجلستها تنصت إليه حينما شرع بالحديث، فتابع وهو يتطلع لها عساها تراقب الراحة التي تغمر رماديته فور الحديث عن مكانٍ ارتاح به:.
وبالاخص المسجد اللي الشيخ مهران مسؤول عنه، لما بصلي فيه بحس براحة وسكينة صعب أوصفهالك، كمبوند عمي بعيد عن الحارة مسافة نص ساعة سواقة، عشان كده أنا خارج بدري لاني مش عايز أصلي في أي مسجد وخلاص، عايز أروح المكان اللي برتاح فيه يا مايا، ومحبتش أضايقك وإنتي راجعه من سفر والارهاق باين عليكي.
وأضاف وهو يقترب منها:
لسه مش مصدقاني؟
هزت رأسها بنفي وقالت:
عمري ما شككت في كلامك عشان مصدقكش.
وببسمة مشرقة قالت:.
أي مكان هيريحك هحب إنك تكون موجود فيه، قوم عشان متتأخرش على الصلاة، وحاول ترجع بسرعه عشان هتقضي اليوم ده معانا هنا.
قبل أعلى رأسها واجابها بحب:
مش هتأخر بإذن الله.
وجذب الغطاء يعاونها على التمدد:
ارتاحي وحاولي ترجعي للنوم عما أرجع.
هزت رأسها في طاعة وضمت الغطاء إليها بابتسامة صغيرة، وتابعته وهو يرحل بحب، حتى غفت محلها مطمئنة.
وصلت سيارة عُمران لحارة الشيخ مهران، صفها وأتجه للمسجد مسرعًا، ابتهجت معالمه حينما وجد الشيخ مهران يجلس جانبًا يقرأ بمصحفه الشريف، مثلما اعتاد أن يراه قبل كل صلاة، دنى إليه يردد ليلفت انتباهه:
السلام عليكم.
انتهى من قراءته ورفع رأسه يتأمله ببسمة بشوشة:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لو فاتك صلاة الفجر معانا النهاردة كنت هزعل.
استند على يده ونهض يتجه به للسماعات الخارجية للمسجد:.
بما إنك وصلت بدري، فذكر الناس بصوتك اللي مش هيتنسى ده.
منحه ابتسامة ممتنة لما يحاول الشيخ زرعه فيه، فالتقط منه السماعه وبدأ يردد الابتهالات مثل ذلك اليوم الذي فاض حزنه على رفيقه، ولكنه اليوم أفضل حالًا.
توافد الكثيرون للمسجد قبل موعد الصلاة، فرحة بسماع صوت عُمران الذي بات محببًا إليهم، حتى يونس وآيوب توجهوا سريعًا للمسجد، وعلى بابه وقف إيثان يلتقط فيديو تفصيلي لعمران ولعدد الرجال الجالسون من خلفه، حتى اقامته للصلاة والمصلين، ونشره على صفحته الخاصة، فنالت استحسان عدد مهول من المشاهدات والمعجبين.
مرت الساعات وأتت الساعة المحددة لمغادرة آيوب لطائرته المتجهة إلى لندن، وبالرغم من ذهاب إيثان ويونس وعمران رفقته الا أن سدن أصرت كل الاصرار لاتباعه، فصعدت جواره بالخلف بسيارة عمران، ومن خلفه إيثان ويونس.
صف عُمران السيارة جوار المطار، وقال دون ان يستدير إليه:
هدخل الشنطة وهشوف يونس.
اشارة منه أن يبقى بالسيارة برفقة زوجته قليلًا ليودعها، فمحنه آيوب ابتسامة ممتنة، وتبقى برفقتها ينتظر مغادرته، وما ان غادر حتى قال بمشاكسة:
مكنش له لازمة إنك تيجي معايا يا سدن.
تطلعت إليه بدموع وقالت:
إنت ليه مش حجزتي ليا معاكي، أنت سايبني هنا ومش راجع تاني آيوب؟
مال بجلسته لها، يهتف باستنكار:.
أيه الهبل ده؟! أنا رايح تلات أيام امتحن وأرجع يا سدن، وبعدين إحنا مش سبق واتكلمنا في الموضوع ده كتير، وقولتلك أني مستحيل أبعد عنك!
فركت أصابعها بارتباكٍ وقالت:
أنا حاسس إنك اتورطت بيا آيوب.
ضحك حتى ادمعت عينيه وقال:
تبقى أحلى ورطة في حياتي.
وضم كفيها إليه بحب، أرغمها على رؤيته بعينيه:
سدن إنتِ مش حاسة بحبك جوايا؟ متقوليش إنك مش شايفة اللي الكل شايفه.
انهمرت دموعها على خديها، ورددت بحشرجة ذبحت حلقها:.
محتاجة أطمن.
ضمها إليه وقال بعشق:
أيه الضمانات اللي تطمنك وأنا مستعد ليها، لو سفرك معايا هيطمنك هنزل حالا أحجزلك تذكرة معايا.
ابتعدت عنه على استحياءٍ وقالت:
لا، كلميني كل يوم لحد ما ترجعي وأنا هطمن.
تعالت ضحكاته الرجولية وفاه بحنق:
ترجعي! أنا بسبب المؤنثات اللي عندك دي ههاجر بلا عودة يا أخ.
لكزته بقوة وبعنف قالت:
متقدربش تعمليها هقطعك بسكينة الملوخية بتاعتك حاج رقيا.
تمادت ضحكاته بعدم تصديق:.
اللهم صلي على النبي، الحاجه رقية أجادت التربية قولًا وفعلًا.
ابتسمت بخجلٍ، بينما مال يقبل أعلى رأسها وهو يهاتفها بحب:
خليكِ هنا لحد ما عمران يرجع يوصلك، متنزليش من العربية.
هزت رأسها في طاعة، فاستكمل يودعها:
استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
قالها وهبط على الفور حتى لا يرى دموعها، ولج للمطار فتفاجئ بوجود سيف وجمال برفقته يقبض على كفه كالشرطي القابض على المتهم، ويغفو على المقعد من خلفه، زفر سيف بتعصب وحركه بعنف:
بشمهندس!
انتفض جمال بنومته وقال يفرك عينيه:
آيوب وصل؟
اشار بضيق على من يراقبهما بتعجبٍ، وقال بنفور؛
ممكن تسبني بقى، ولا أشاورله من غير ما أسلم عليه؟
فك حصاره وهو يجيبه بابتسامة تعمد ان يستفزه بها:.
لا طبعًا يا سيفو سلم وودع وإحضن للصبح لكن تتنقل هنا ولا هنا من غيري هزعلك.
زفر بانفعال وتركه واتجه لآيوب الذي سأله باسترابة:
هو أنت عملت أيه بالظبط؟
زفر بسخطٍ وقال:
أنا مظلوم صدقني أخويا وصاحبه اللي أوڤر شوية، سقف المصنع وقع على رجالة يمان الكلب فرتكه هو وهما ذنبي ايه معرفش!
أحاطه بنظرة مشككة، فتابع سيف بعدم اهتمام:.
فكك خلينا في المهم، تخلص امتحانات وتجري على أول طيارة راجعه مصر، انا مش نازل عشان تروح إنت مش بنهرج هنا!
منحه ابتسامة جذابة وقال:
متقلقش همتحن على السريع وراجعلك نعيش مغامرات هنا بمصر وبالمرة تحكيلي حكاية سقف المصنع المهجور ده.
مرر يده على خصلات شعره متصنعًا عدم سماع الجزء الاخير من حديثه، فأعاد آيوب كلماته ضاحكًا:
مغامرات دكتور سيڤو حقنة ضد أدغال يمان وأعوانه!
دفعه سيف بغضب:.
ما خلاص يابن الشيخ مهران إنت هتغني!
تلاشاه ضاحكًا، وتوقف يمشط المكان بعينيه ولمعة الحزن تتشكل داخله، تعجب سيف لها، فسأله باهتمامٍ:
بتدور على حد؟
تمتم بارتباك:
لا، بشوف يونس وعمران كانوا هنا مع إيثان.
قالها وسحب هاتفه يتفحصه بأمل، خاب حينما لم يجد أي رسالة من آدهم، حرمه من وجوده وحتى رسالة منه!
بالخارج.
حمل عمران الحقيبة وكاد بالدخول خلف آيوب برفقة يونس، ولكنه توقف حينما أوقفه إيثان يناديه بعصبية، وغضب:
خواااااجة!
زفر عُمران بانزعاجٍ واستدار إليه، فوجده يهرول إليه وبيده الهاتف، وعلى ما يبدو بأن أحدهم أعلمه بما يحدث بحارة الشيخ مهران، فصاح غاضبًا:
إنت اديت مفتاح الجيم لمين؟ ده أنا هروح فيك في داهية، سرقة عيني عينك كده وبالنهار!
ضم منخاره بيده وهو يحاول استجماع كل هدوئه الهارب عنه، بينما هتف يونس بدهشة:
سرقة أيه دي يا إيثان!
اجابه ونظراته المتعصبة لم تترك عمران:
الواد مصطفى البقال بيكلمني وبيقول إن في تريلات داخلة الحاره وفيها عمال عاملين يرموا الاجهزة اللي في الجيم برة!
وتابع بمهاجمه صريحة:
الخواجة شكله استغل خروجنا من الحارة وبعت حد يسرق الاجهزه الخردة اللي مكنتش عجباه!
ضحك عمران رغمًا عنه، وقال ساخرًا:.
ايوه أنا طمعت في الخردة اللي عندك فبعت حرامية يستبدلوها بأجهزة بخمسة مليون دولار!
جحظت عينيه في صدمة، بينما ردد يونس بصدمة:
كام؟
أغلق إيثان فمه المفتوح وهدر بانفعال:
بقولك ايه يا حبيبي لو فاكر انك هتدبسني في المبلغ الخذعبلي ده تبقى بتحلم، ده أنا مصري وأعجبك أوووي.
وتابع وهو يضم يونس المندهش:
الفاتورة على يونس، اديله وصولات الأمانة بسرعة وأنا أضمنه برقبتي!
حدجه يونس بغضب، وهدر من بين اصطكاك أسنانه:.
عايز ترجعني السجن تاني يا حقير!
ازاح عُمران يد ايثان عن كتف يونس، وأحاط كتفه هو مرددًا بخبث:
هو إنت نسيت اتفقنا ولا أيه يا إيثو!
وزع نظراته المرتعبة بينه وبين يونس متسائلًا:
اتفاق أيه؟ أنا مش فاكر حاجة!
رد عليه عُمران بمكر:.
متقلقش أنا مبنساش حاجة، عمومًا اطمن أنا مش هدفعك حاجة بما إنك تركت ادارة الجيم ليا، فياريت تتابع اللي هيحصل بصمت، وتتفرج عليا وأنا بكسب التحدي بينا ووقتها هساومك على الجيم بشيء يهمني اخده من البداية.
قالها بنظرة غامضة جعلت إيثان يضم بطنه بشكل مضحك خاصة وهو يصيح:
مش هفرط في كليتي لو عملت أيه!
انفجر يونس ضاحكًا، بينما هدر عمران ساخطًا وهو يمنع ذاته من الضحك:.
اتنيل بكلاويك، إنت متنفعش حتى في قطع غيار البني آدمين.
وتابع بحزمٍ أقلق ايثان:
يونس خد بالك من الحيلة، مش عايزين نزعل السيدة الوالدة عليه!
وتركهما وولج للداخل، فسحب ايثان أنظاره عنه وهتف بتوتر:
روحني يا يونس الخواجة ده شكله خطير!
رد عليه يونس بسخرية:
يا راجل!
سكن الحزن عين آيوب، حينما طل عُمران بمفرده، بقى الجميع برفقته قرابة الأربعون دقيقة حتى حان موعد رحيله، فودعهم جميعًا وسحب كف عمران بعيدًا يسأله بتردد:
هو آدهم مجاش يا عُمران؟
تعجب من حالته الغريبة، وحزنه الغير مبرر، فقال يداعبه:
ما نجيب حارة الشيخ مهران كلها تودعك يا بشمهندس! دول تلات أيام وراجع مش رايح تحرر سينا بروح خالتك!
عبث بضيقٍ:
معنديش خالة أصلًا.
ضحك وهو يجيبه:.
عارف، الحاجة رقية مينفعش أهزر بيها بس ممكن أقولك يا حيلتها مش إنت الحيلة بردو؟
ضحك آيوب حتى أحمر، وجهه، وقال بصعوبة بالحديث:
لا، يونس ابنها الكبير من قبل ما أجي، ومش فارقالي لو قولت روح أمك لاني فعلا روحها وحياتها وهي بالنسبالي أكتر من كده.
ابتسم عُمران وقال وهو يربت على ظهره:
طيب يالا عشان طيارتك.
هز رأسه بتفهمٍ، وخطى للامام ثم عاد له يسأله بحرج:.
طيب قولي أخر مرة شوفت آدهم أمته؟ يعني إنت مشيت معاه امبارح وكده.
ازداد اندهشه من تعلق آيوب الغريب بآدهم رغم وجود سيف صديقه المقرب، فقال باستغراب:
هو في أيه يا آيوب؟
حك ذقنه بتوتر، وقال:
مفيش انا بس مستغرب إنه حتى مكلمنيش.
هز راسه بعدم اقتناع ورد عليه:
كان معايا امبارح وأنا بستقبل عيلتي من المطار، وصلنا الكمبوند وبعدها مشى ومشوفتوش من ساعتها.
حرك رأسه هو الاخر بابتسامة جاهد بها ليخفي حزنه، وسحب الحقيبة وهو يودعه:
سلام مؤقت.
ودعه عُمران وهو ينبهه:
خد بالك من نفسك وياررريت ترجع المرادي فااااضي، مالكش دعوة بالمشاكل لإنك وللاسف هتكون هناك لوحدك من غيرنا، وللأسف مرة تانية دكتور يوسف مالوش في العوق ده، لو تعرف حد حالته متعسرة ومالهاش حل إلجئ ليه غير كده يُفضل تكون مستقيم عشان تتوازى معاه!
ضحك وهو يؤكد له:
متقلقش عليا.
غادر آيوب الباب الرئيسي، الذي لم يسمح لأحدٌ أن يتخطاه من الاهالي سوى المسافرين الحاملين لجوازات السفر، ختم أوراقه وإتجه للمقاعد المعدنية ينتظر النداء الاخير لطائرته، وجل ما يشغل باله آدهم الذي تخلى عن وداعه وهو الذي لم يتركه بأي ظرف هام.
بدأ يلوم نفسه بأنه كما قال الطاووس الوقح لم يغادر لسنواتٍ ليأتي الجميع لتودعيه، ولكنه للحق سيشتاق إليه كثيرًا، ربما هو من الاشخاص القلة الذي سيفقدتهم للغاية، ومن بين شروده أتاه صوتًا محبب له يناديه:
آيوب!
استدار جواره فوجده يحركه بقلقٍ وهو يردد:
بقالي ساعة بناديك، سرحان في أيه إنت؟!
رفرف باهدابه يستوعب وجوده، وصاح بعدم تصديق وهو ينصب عوده:
آدهم!
اندهش من صياحه الغريب وكأنه يأتي من سفر اعوامًا للتو، استقام قبالته فاذا بالاخر يحتضنه بقوة وهو يردد بفرحة:
كنت هزعل أوي لو مشيت من غير، ما أشوفك.
ربت عليه بحنان يينما عينيه يملأها الوجع، آيوب يحمل معزة تخصه وحده وهو يشعر بذلك، يخشى أن يبتعد عنه وتنزاح مكانته فور كشف الحقيقة.
ابتعد عنه آيوب يطالعه بصدمة، لحقت سؤاله:
بس إنت دخلت هنا ازاي! مش مسموح لحد يدخل هنا؟
ابتسم وهو يجيبه بغرور:
وأنا مش اي حد!
وجلس يضع قدمًا فوق الاخرى بتعالي مصطنع:
إنت ناسي آني ظابط من الجهاز ولا أيه!
جلس جواره يشير له بسعادة، ختمها بقوله:
مش ناسي إنك ظابط مهم وتستاهل اللي وصلتله لانك من أنضف الناس اللي قابلتها، المهم بالنسبالي إنك افتكرت معاد طيارتي وجيت.
تعمق بالتطلع إليه وقال بغموض:
مقدرش أنسى حاجة تخصك يا آيوب.
وسحب نفسًا مطولًا وهو يخبره:.
المهم مش عايزك تخاف من حاجه، ركز في امتحاناتك ومتفكرش في اللي حصل، محدش يقدر من أهل عم مراتك يأذيك بره، في حوليك اللي هيأمنك، متقلقش منهم دول تبعي، صب كل تركيزك على امتحاناتك وبس، مفهوم ولا لا يا بشمهندس؟
ابتسم وهو يحيه:
عُلم وينفذ يا حضرة الظابط.
عدل من جاكيته وهو ينهض قبالته:
النداء الاخير يا بشمهندس.
زم شفتيه وسأله بسخط:
إنت ليه بطلت تقولي يابن الشيخ مهران، كانت حلوة منك.
تلاشت ابتسامة آدهم تدريجيًا، وبصعوبة سيطر على نفسه وهو يخبره بحزمٍ:
طيارتك هتفوتك يا آيوب، ووقتها الشيخ مهران هيعرفك الحلو من الوحش.
ارتدى حقيبته واحتضنه للمرة الاخيرة، وقال متعجلًا وهو يهرول:
لم انزل باليوم التالت عايز ألقيك هنا قبل ما أخرج للشباب، والا هزعل يا حضرة الظابط.
هز رأسه وقال بابتسامة جذابة:
هتلاقيني في انتظار جنابك يا باشا.
وصلت ضحكاته لمسمع آدهم، ورأه يلوح له فأشار بيده وما أن تأكد من رحيله حتى عاد لمقعده مهمومًا، لثاني مرة يتساءل عن اعتكافه عن نسبه للقب ابيه المحبب لقلبه، العاصفة القادمة ستحيل حياة آيوب جحيمًا وياليته يملك خيار ايقافها، فمن الذي سيجازف على تحمل ذنب كبير أن يظل منسوب لشخصٍ غير أبيه، حتى وان اختار البقاء برفقة الشيخ مهران عليهم ان يعدلوا ما فعله مصطفى من خطيئة والخيار الاول والاخير إليه.
يعلم بأن القادم ليس سهلًا بالمرة، فتنهد بهمومه المؤلمة وردد:
يا ررب!
صنع علي كوب قهوته، وخرج للحديقة برفقة احدى كتبه، فوجد عمه يركض بالحديقة، وما ان رآه حتى اتجه إليه يقول مبتسمًا:
صباحك سعادة يا دكتور.
رد عليه وابتسامته الجذابة ترسم على وجهه:
صباح الجمال أحمد باشا، أيه سر اللياقة دي على الصبح بتحاول توقع فريدة هانم للمرة التانية ولا أيه؟!
سحب مقعد يقابل مقعد طاولته، وهتف ضاحكًا:.
ده أنا نفسي طلع عما نجحت أوقعها، أفكر أوقعها تاني! لا لياقتي ولا سني عاد يسمح، يا علي يا ابني فريدة هانم دماغها حجر صوان، بعد عشرتي الطويلة ليها أحب أكدلك إنها أصعب وأشرس نساء الأرض!
انفجر علي ضاحكًا فشاركه أحمد الضحك وقال:
أنا يوم جوازي صليت ركعتين شكر لله إنها أخيرًا وبعد السنين دي كلها رضت عليا، وبيني وبينك خايف تجبلي بنت عنيدة زيها، عشان كده قررت إنك الانسب فينا كلنا اللي تربي الطفل اللي هيجي.
مازحه قائلًا:
عمران حاجز قبلك.
هدر مضجرًا:
هو الوقح ده عايز اللي يربيله ده يربي قبيلة بكبيرها، ده شغل عماله في قصر الغرباوي من غير إذني ونهايتها قاعدين في الكمبوند!
تعالت ضحكاتهما الرجولية، حتى تساءل أحمد بجدية:
مقولتليش ناوي على أيه؟
لفظ زفيرًا بطيئًا وقال:
ناوي أفتح فرع تاني من المركز هنا، حابب أستقر بمصر الفترة دي، لإن دي رغبة فاطيما ورغباتها بالنسبالي أوامر مجابة.
ابتسم وهو يربت على يده الممدودة:.
ربنا يهنيكم ويخليكم لبعض، تأكد إنك لو احتاجت أي مساعدة أنا موجود.
أكد له باحترام:
واثق من ده يا عمي.
أبعد مقعده وجذب المنشفة يجفف عرقه:
هخليهم يحضروا الفطار، عما أطلع أخد شاور.
هز علي رأسه بتفهم، وعاد يقرأ كتابه بتركيزٍ، حتى داعب أنفه رائحة الزهور المميزة التي كان يبتاعها لفاطيما طوال فترة بقائها بالمشفى، وما كاد بالاستدارة حتى وجدها تقدم له.
كالفاتنة هي بفستانها الزهري وحجابها المنسدل برقة، تقف قبالته وتقدم له الباقة التي صنعتها من الحديقة بيدها، نهض يراقبها باستغراب:
فاطمة إنتِ صحيتي أمته؟
قدمت له الزهور وقالت:
من بعدك على طول، ممكن بقى تتفضل الورد.
حملها منها وقال بحب:
أكيد، بس مين اللي يقدم ورد لمين؟
جلس على المقعد المقابل له تجيبه:
كتير قدمتلي، فتسمحلي أقدملك انا النهاردة يا دكتور علي.
جلس قبالتها يهتف بعاطفة:.
روح قلب دكتور علي تقدمله كل اللي هي عايزاه، وبما إنك نزلتي في الجو الجميل ده تسمحيلي أجدد ذاكرتي بشغلي المهمل وندردش مع بعض شوية.
زفرت بملل:
يووه يا علي إنت مبتزهقش تعيش دور الدكتور النفسي ده.
استند على الطاولة بذراعه يجيبه بهيام:
معاكِ لا، بحب أسمعك يا فاطيما، صعب أعيش معاكِ يومك كله، فالدردشة دي بتخليني كأني كنت معاكي في كل لحظة وكل وقت، ها نبدأ؟
هزت رأسها بابتسامة عاشقة، تعلم بأنه يجيد استخدام كلماته بعناية، ليعاونها بعلاجه الخفي لتخطي كل العقبات، لا تنكر بأنها تلاحظ تقدمه الملحوظ بعلاجها بالفترة الاخيرة، خاصة بعد أن تحملت عمل عمران كاملًا، وبدأت تنوب عنه ببعض الاجتماعات، لقد باتت أكثر ثقة من ذي قبل وثقتها الكاملة أنه وراء كل ذلك!
انفتح باب الكرفان المغلق، وولج منه للداخل، خطف نعمان نظرة جانبية للقادم، فحملت كل الحقد والكره المُقيت له، بينما يطالعه الآخر بشموخٍ وقال:
مش هتقوم تسلم ولا رجلك مبقتش شايلة وزنك يا خال، واضح كده إن الرجالة متوصية بأكلك حبتين!
نهض نعمان قبالته يهدر بحقد:
جاي ليه يابن فريدة؟!
رفع عُمران ساقه يستند بها على المقعد وهدر بسخرية:.
يعني هتفرح أوي لو نديتك بابن أنعام! فبلاش أقلل احترام جدتي وهي تحت التراب بتتحاسب عقبال ما يحاسبوك بما يرضي الله عن كل اللي فات ووقتها مش هيلاقوا حسنة واحدة تشفعلك يا نعمان!
استدار يقابله بكره لمس نبرته المقيتة:
لو عايز تعمل حسنه في حياتك تغور من وشي ومتورنيش خلقتك تاني، طول عمري عارف إنك عيل حويط ومش سهل، شايف نفسك ورافع رأسك فوق، ومهما حاولت أكسر رقبتك مبتتكسرش.
تحرر عُمران عن بروده هادرًا بعنفوان:
وتكسرني ليه وبأي حق تملكه! إنت متلكش الحق عليا ولا على أي حد يخصني، وكرهك وحقدك الدنيء ليا ده لاني الوحيد اللي فاهمك وكشفك على وشك الحقيقي، مقدرتش تتلون عليا زي ما عملتها مع فريدة هانم وكل اللي حواليك.
صاح بعصبية بالغة:
لسه عايز أيه مش خدت كل اللي حيلتي وفضحتني إنت وصاحبك، ونهايتها حابسني زي الكلب، اتفضل اقتلني واخلص.
ارتسمت بسمة صغيرة على شفتيه ونصب عوده قبالته يهتف:
مهو ده اللي كان لازم يحصل من وقت ما وقعت هيلينا في طريقك عشان تقشطك يا خال.
جحظت عينيه بصدمة بينما تابع عمران باستمتاع لرؤيته مصدومًا لتلك الدرجة:
هو انت متعرفش إن هيلينا مقلب من مقالبي زي مقالب كتيرة عملتها انت فيا!
وأضاف وهو يواجهه بشراسةٍ:.
أما بالنسبة للفضيحة اللي بتتكلم عنها فأنا ولكرم أخلاقي منعتها من الانتشار لان للاسف هتمس عيلة الغرباوي وده مستحيل هسيبه يحصل، فاطمن مكنش فضيحه من الاساس عشان تنتشر، البرنامج اللي اتفتح بمكتبك ده متفبرك، هو والكام فيديو اللي اتنشروا، أنا وهمتكم انه اتنشر مش عشانك، عشان اهدي النار اللي شعلتها جوه جمال، حتى وجودك هنا النهاردة كان لنفس السبب، جمال مكنش هيهدى غير بموتك ولإنه يهمني أكتر، منك كان لازم أحافظ على مستقبله وحياته.
ودث يده بجيب جاكينه يخرج منها عدة أوراق، لطمها بوجه نعمان وهو يستطرد بحدة:
اتفضل العقود اللي وقعتها لهيلينا، أملاكك متسحبتش منك كل ده قرصة ودن مني عشان أعلمك إنك يوم ما تفكر، تعاديني تاني هتكون بموتك يا نعمان.
طالع الورقة الموضوعة أرضًا بصدمة، وخاصة حينما قال عمران:
رجالتي مشت والباب مفتوح، تقدر تخرج وتشوف حياتك بس المرادي بعيد عننا نهائي والا بضغطة زر واحدة حياتك هتتشقلب تاني.
تحرر عن حالة جموده وصدمته متسائلًا:
ليه؟ ليه عملت كل ده وانا مقدمتلكش شيء واحد يشفعلي.
رمقه بنظرة حادة، وقال:
مهما عملت فأنت للاسف أخو فريدة هانم، اللي أنا بعمله مجرد رد فعل للي إنت بدأت فيه ومش عايز تنهيه بس أقسم بالله لو رجعت لعمايلك الرخيصة يا نعمان مهيخلصني فيك رقبتك سامع!
انهمرت دمعة من عينيه التي تتطلع له بصدمة، وهز رأسه بخفوت، بينما مازال يتطلع له، وبصعوبة يجاهد ليخرج كلمة منه أثارت فضول عُمران ليسمع ما يود قوله ويتردد بنطقه، حتى قال:
هو إنت ينفع تسامحني على اللي عملته فيك؟
ضحك بصوتٍ مسموع، وقال بقسوة:
أهي دي الحاجة الوحيدة اللي مش هتقدر تأخدها مني يا نعمان، لو دي الحاجة الوحيدة اللي هتسمحلك تدخل الجنه مستحيل هنولهالك.
وأضاف بوجعٍ يكبحه عنه:.
أنا باللي بعمله دلوقتي ده بوكل الاقوى مني ومنك عليك، رفعت قضيتك لرب الكون هو اللي هيخلص حقي وحقوق الناس منك، كان بإيدي أذيك وأعمل الأكتر من كده بس هفرق انا عنك أيه وقتها؟
وتابع وهو يمضي للخروج:
اخرج وكمل في معاصيك لحد ما يجي الوقت اللي تلفظك الأرض ومتقبلش بيك.
غادر وترك نعمان يقشعر من شدة كلماته، بينما يشعر عُمران ولاول مرة بالارتياح، صعد سيارته ومضى ابتسامته تزداد راحة، ومن ثم رفع هاتفه على رقم الشيخ مهران يخبره بسعادة:
عملت اللي حضرتك نصحتني بيه وحقيقي حاسس بارتياح غريب.
أتاه صوته الذي رسم له ابتسامته البشوشة:
خير ما فعلت يابني، تعالى أنا في المسجد هستناك.
أغلق الهاتف وغير مسار طريقه لحارة الشيخ مهران.
وضع آدهم الاطباق على المائدة، وخرج يسكب الطعام الذي أعده خصيصًا لوالده، فاذا بجرس الباب يدق، اتجه ليرى الطارق فإذا به يرى أخر من يتوقع زيارته، فهتف بدهشة:
باشا!
أتته ابتسامة ماكرة وصوتًا خبيثًا يتردد:
جيت بنفسي أتأكد إنك جاهز للمهمة يا حضرة الظابط!
منحه آدهم ابتسامة ممتنة وقال:
جاهز وكلي شرف إني من اختيار الاسطورة للمهمة دي!
ازدادت بسمة رحيم وعينيه تعج بغموض سيشكل بالقادم، ليخلد إسم عمر الرشيدي بتاريخ الاستخبارات المصرية، القادم ليس هين، كن مستعدًا له.
التعليقات