رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثالث عشر
قيل بأن الألم هو أعظم مُعلم ومهذب للنفس البشرية، لكنه قد يترك بقلوبنا أعمق الدروس وأغور الجروح التي يمكن أن تظل تنزف عمرًا بأكمله. خرج كُل من عاصي وتميم ومعهما شمس وراء مراد الذي حمل زوجته وركض بها لأقرب مشفى بمساعدة أحد رجال عاصي. تبقى كريم ونوران بحديقة البيت القريب من البحر الذي يتلاطم أمواجه فتغيري قلوبهم بالحب.
جلست حياة بجوار جيهان المقوسة فوق أحد المقاعد والتي شُلت حركتها إثر مواجهتها لمصائب العُمر، باتت كمن يقف أمام المرآة متجردًا من ثوب الستر. اقتربت منها حياة وكادت أن تربت على ظهرها ولكنها تراجعت إثر ذلك المشهد المهين الذي اتفقن فيه نسوة المحلاوي، وسددن الضربات القاسية لبطنها من قبل. بتلقائية لمست جوفها الذي ذكرها بالألم وقالت بهدوء: -المفروض تفرحي، لسه عندك فرصة ترجعي فيها لربنا عشان يسامحك على كل اللي فات.
ثم بللت حلقها بتوجسٍ: -أنا كمان مسمحاكي على فكرة، وبجد اتمنى هدير ترجع تمشي تاني وتشوف حياتها مع حد يقدرها بجد.
فهزت كتفيها بقلة حيلة: -أنا مش عارفة ممكن أساعدك أزاي. بس حقيقي اتمنى مضيعيش الفرصة من أيدك ومتخسريش ولادك أكتر من كده.
بالحديقة…
-طيب أنت هتفضل ساكت كده لحد أمتى؟ كريم بجد كلنا عارفين أن الموضوع صدمة بالنسبة لك، ودي مامتك، بس هنعمل أيه، اللي حصل حصل. زعلك مش هيغير حاجة.
جلست نوران بالمقعد المجاور له ثم أردفت قائلة جملتها الأخيرة كي تهون عليه مرارة وقسوة تلك الكارثة التي حلت على رأس كريم وأول اختبار فعلي يواجههم معًا. الحقيقة هي أن الصدمة تضخم غالبية الشعور، تصاعد العاطفة، وتفاقم التعب، وتكبر من حجم الألم، وهذا ما عانى منه بصدمته في أمه، الشخص الذي من المفترض ألا يؤذيه أبدًا. رد بنبرة مبطنة بالآسى: -أنا حتى مش قادر أسألها هي عملت كده ليه!
أرتدت ثوب الحكمة لأول مرة وقالت: – كل أفعال المرء مبررة سواء كانت خير أو شر. تعرف يعني أيه؟ يعني وقت ما هو عملوا كدا كان ليهم دافع عامي عقولهم عن التفكير للحظة هل ده صح ولا غلط. الإنسان عبيد حاجته، فادية الله يرحمها كانت تقول لنا كده…
كادت أن يعارضها معبرًا عن مشاعره المضطربة، ف لم تسمح له قائلة بإصرارٍ وهي تضع أناملها على فمه: -كريم. أحنا لسه هنشوف ياما في الدنيا دي، مش مع أول صدمة هنقف عندها كأنها نهاية الدنيا. ااه دي مامتك ومحدش هيلومك، بس هل زعلك هيرجع ال فات!
لا بأس بإعادة تقييم بعض العلاقات، بتلك النظرات التي تبدلت من مُقلتيه لهذه المجنونة والتي تبنى أمرها مهما كانت العواقب، إلا إنه بالفعل اختار الشخص الصحيح الذي يشاركه الضحك والشجار، ويهون عليه حِدة أسهم المصائب. أحست بالقليل من التوتر إثر نظراته الإعجاب. فأدركت أمر سبابتها الراسية على شِدقه ف سرعان ما اهتزت متراجعة وسألته: -بتبص لي كده لي!
ما قبل سؤالها بدقائق قليلة كانت حياة تقف عن بُعد تراقبهم وتراقب تلك النظرات المتبادلة بين الاثنين والتي لا تخلو من صاعق العشق الواضح للأعمى. تحمحمت بخفوت وبابتسامة خفيفة ثم قالت:
-أيه يا حلوين! مش هنقوم نروح لعالية؟
وثبت نوران بحماس: -وأنا بقول كده، متحمسة أوي أشوف البيبي.
شجعتها حياة مردفة: -طيب يالا بينا.
ثم نظرت لكريم وقالت ب إحراج: -مامتك مصممة تمشي، بتقول عندها طيارة بكرة. ممكن تكلمها.
ثم أخذت نفسًا طويلًا وأخرجت به زفير الماضي: -دي مامتك يا كريم، حاول تنسى، محدش هيقدر يغير الماضي ده قدر ومكتوب، خليك جمبها على الأقل. هي موجوعة بجد.
هتفت نوران مؤكدة كلام حياة: -بقوله كده من الصبح، وزي ما شايفة. البية ودن من طين والتانية من عجين!
ثم ضربت برفق على كتفه كي توصل لحياة رسالة ما: -متخيلة إني هعيش مع البوزالممدود ده باقي عمري!
ناظرتها حياة بتلك النظرات الفضولية: -مش فاهمة؟
ردت نوران بخفة روح تنفي علمها بطلب حياة السابق و قالت: -أنتِ متعرفيش أن كريم اتقدملي، وشمس وتميم وافقوا. ازاي متعرفيش بجد؟
ثم شهقت مفتعلة الدهشة: -وعاصي كمان ميعرفش؟
تقبلت حياة الأمر على الرحب والسعة وقالت بفرحة: -ألف مبروك ليكم، أيه يا عم كريم حد يبقى معاه القمر دي ويكشر كده. المهم حددوا ميعاد الخطوبة عشان نعملها هنا بعيد عن زحمة القاهرة.
هبت نوران متمسكة باقتراحها: -عين العقل والله يا بنتي، لسه كنت بقوله كده.
نهض كريم مختصرًا حبال تحاورهم الممتد: -طيب هروح أقف مع مراد، عشان مايبقاش لوحده.
حياة بتلقائية: -هجيب مفتاح عربيتي ونروح كلنا، دقيقة بس.
انصرفت حياة من جوارهم ثم تدخلت نوران هامسة بلطفٍ ربما يُلهيه عن أحزانه ولو قليلاً: -أيه رأيك فيا وانا بقولها خطوبتنا وكريم اتقدملي وكلنا موافقين. عجبتك!
عض كريم على شفته السُفلية: -أنتِ مصيبة حياتي. أمشي أمشي لما أشوف أخرتها معاكي أيه!
بالمشفى…
يقف عاصي وتميم بالخارج لا يستمعون إلا أصوات صرخات عالية التي تعاني من آلام الوضع وعناء الطلق الطبيعي مع تلك الإبر التي تزيد من حدة الألم الذي سحب روحها مع تلك الصرخات المندلعة من رحمها، صرخ عاصي بتوتر شديد خيم ذكريات الماضي على عقله متسائلًا وهو يضرب الحائط:.
-هما بيعذبوها ليه كل ده؟ أنا مش فاهم؟ ما يولدوها وبخلصوا.
خرجت شمس من الغرفة وهي تزيل الماسك الطبي وترمقهم بأعينيها العسلين، فاندفع تميم نحوها: -شمس هي هتفضل تعبانة كده لأمتى؟
ربتت شمس على كتفه قائلة: -حبيبي ده الطبيعي، وكمان لأن جالها الطلق الدكتور مش هينفع معاها Cesarean delivery. الدكتور مديها حقن عشان تسهل الولادة. هتبقى بخير متقلقش.
ثم ربتت على كفه وقالت: -طمن عاصي، أنا هدخل أقف مع مراد جوه.
جاءت حياة بصحبة نوران وكريم. أقبلوا عليهم بلهفة: -عالية عاملة أيه؟
قرأت حياة ملامح زوجها المرتبكة التي تعاني من هاجس الفقد. من شبح ذلك المشهد العصيب. تجاهلت الجميع وسؤالها عن عالية ودنت منه ممسكة بكفه المثلجة الذي أخذت تدلكهما بحرارة كي تدفأ حتى تفوهت باضطراب: -حبيبي، تعالى معايا ممكن. يلا ياعاصي.
أعظم ما قيل ف وصف الحب، هناك شخصان مليئان بالأضرار والخسائر يَترُكان العالم جانبًا و يُحاولان ترميم بعضهما البعض بُهدوء و لُطف. أجبرته أن يسير معها مرغمًا ولم تفلت يده أبدًا حتى وصل الثنائي إلى أعتاب المشفى التي يفصلها عن البحر سور حديدي. اتجهت إلى أحد المقاعد العامة بصمت حتى تلاقت أعينهم، أعينه المدججة بلعنة الماضي، وعينيها المُمطرة بغيث الحنية.
بدون أي مقدمات عانقته عانقًا حارًا وهي تمسح على رأسه تارة وعلى ظهره طورًا. حضنها كان لقلبه كمكان آمن يهرب إليه بإستمرار كي يرتاح من أسفار هذا العُمر التي تُلاحقه. عندما تضيق الحياة على قلب المرء منا فلا يريد سوى أن يضع رأسه في حجر دافئ قرب شخص يخبره دائما أن الأمور على أحسن ما يرام أن تسد يد القبل أُذن قلبه عن صوت رصاص الهموم أن تنسيه طراوة الحب ضراوة الآلام، ماذا يأمل الإنسان سوى أن يستريح في حضن من يحب حين يفر مِن حزن مرعب.
كأنها تريد أن تخبره بطريقة أكثر لُطفًا وحبًا: -ها أنا هُنا بجانبك حينَ يكون العالمُ قاسياً سأطوي يديَّ لحمايتك، انا سلامُكَ حينَ تشتعل حروب ذاتكَ ياحبيب عُمري.
بثت وميض الكلمات الهادئة بمسامعه وهو مازال بين يديها الأمنه، لتقول ب هدوء: -حبيبي أنا حاسة بيك، أهدى عشان خاطري، أول مرة قلبك يتنفض كده في حضني. أنا جمبك ومعاك، متقلقش عالية هتبقى كويسة، عاصي عاصي. بص لي.
فارقت حضنه بصعوبة لتخاطب عينيه الجاحظة، مررت كفوفها فوق ملامحه وقالت: -حبيبي لازم تتخطى أزمة مها. مها اتوفت عشان في حد دبر لده. مش بسبب الولادة. كل الستات بتمر بالحالة دي طبيعي، وأنا يوم هكون منهم، مش عايزة أقلق عليك وأشيل همك. عالية هتبقى كويسة، وساعة وهتشيل بنتها بين أيدك وهتبقى أحن خالو في الدنيا دي. ممكن تهدى عشان خاطري. أهدى.
مسحت على ملامحه بكفوفها وأكملت: -أول مرة أشوفك كده، لا متهزرش أنا مستقوية بيك. بص أعمل زيي، خد نفس طويل وخرجه من بؤك بهدوء. جرب، صدقني هتهدى…
امتزجت به مرة آخرى وصار عطره عطرها، تلك المرة ضمها بقوة وباح عن وجعه: -نفس الشعور يا حياة، نفس العجز. نفس كل المشاعر اللي بكرهها حاسسها. كأن كل ده كان إمبارح.
جذبته كي يجلس على المقعد الخشبي. وأخذت تربت على كافة أجزاء جسده بلهفة أم تحوط على صغارها من برودة الذكريات المؤلمة. وقالت بنبرة حنونة: -يا روح قلبي كل ده ماضي. خلاص ماضي وراح، ممكن تهدا وتنساه.
ثم أغرورقت عينيها بالعبرات وقالت: -أنتَ كده قلقتني، أنا هدخل ازاي عمليات وأسيبك بالحالة دي. عاصي مش عايزة أشيل همك من دلوقتي. عشاني فك كده، مفيش حاجة كله هيبقى تمام ياحبيبي والله.
ثم اندست بحضنه وضمت كفه: -أي رأيك أعزمك على قهوة ونقعد قُدام البحر نشربها سوا. رد عليا بقا متسبنيش هتجنن كده.
ثم رفعت جفونها مع ابتسامة ساحرة: -هجيب قهوة وفشار وبطاطا سخنة! موافق.
كادت أن تنهض ولكنه أمسك بها مشيرًا بعينه كي تجلس، مع همسة خفيفة منه: -ارتاحي.
ثم أشار لصاحب الكُشك المجاور لهم الذي أقبل مُلبا وقال: -أومرني يا بيه، معاك مسعود.
سبقت حياة مردفة وقالت بشغفٍ: -شامة ريحة قهوة جامدة جدًا، ممكن تجيب لنا اتنين.
-تحت أمرك يا هانم…
كاد أن ينصرف ولكنها أوقفته متبعة شهوة وحمها: -استنى يا مسعود رايح على فين. عربية البطاطا والدرة ال هناك دي تبعك!
-دي تبع أخويا، بس أومري.
ردت بحماس واشتهاء: -هاتلنا بطاطا سخنة كتير. و درة مشوية كتير بردو، وشيبسي بالخل والملح. كيس جامبو. وزيه كمان بطعم الفراخ عشان بحبه.
حدجها عاصي بنظرة غامضة تعني تسأله هل ستأكلين كل هذا تجاهلت نظرته وأكملت: -بعد كل ده بقا تجيب لنا كونو أيسكريم بالشكولا نختم بيهم. ووو
تدخل عاصي حاسمًا: -روح هات القهوة والبطاطا أنتَ يا مسعود.
ثم انتقلت عينيه لعندها بعتبِ: -هتاكلي كل ده! وياريت حاجات مفيدة، حياة مش عايز عك ابوس دماغك دي!
أسبلت عينيها بنظرات طفولية قاصدة تشتيت مخاوفه وانشغاله بها ؛ وقالت بمهارة: -عاصي، أنا حامل. يعني أكل اللي عايزاه. وبعدين كنا هناكل سوا. أحنا تلاتة في واحد!
رد بضيق: -كلي حاجات مفيدة، لكن شيبسي وايس كريم ومش عارف أيه! أيه الطلبات الغريبة دي؟ وبعدين أنا مضمنش جودة الحاجات اللي هنا، بكرة أجيب لك ال عايزاه.
زاغت عينيها بعيدًا متجاهلة صياحه حتى رست على عربة الكبدة الواقفة بعيدًا عنهم وقالت باشتهاء: -الله! عاصي قوم هات لي كبدة وحواوشي.
نفذ صبره من دلالها وطلباتها الزائدة قال متأففًا: -قومي روحي يا حياة أنتِ أيه جابك.
تشبثت بذراعه الذي ضمته إلى صدره وقالت بدلالٍ مبالغ: -الله! أنت نسيت إني حامل، والمفروض آكل أي حاجة نفسي تروح عليها، ده اسمه وحم يعني مش بمزاجي.
-تمام، اتوحمي على حاجات عليها القيمة، اخرتها عربية كبدة يا حياة!
هزت كتفيها ببراءة كي تخلي مسئوليتها: -ولادك وطلباتهم، بتزعق لي أنا ليه. ولا انا الحيطة المايلة بتاعتكم! مش كده!
دومًا ما تفوز أحاديثها بالحب والدلال، لديها موهبة جبارة في جعل الأفئدة تنسى همومها كأنها لم تكن. شعرت ببدء نجاح مخططها وهو تشتيته عن الماضي وعن أكر عالية، استسلم لرغباتها قائلًا: -وبيتوحموا على أيه كمان، أما نشوف أخرتهم.؟
مالت برأسها على كتفه وتملأ أصابعها فراغات كفه وقالت بهيام: -حاجات كتير. لو قولتهم هتنفذهم!
هز رأسه مدركًا أن جولة التمرد الانثوي الخاصة بها بدأت للتو، زفر بدون صوت وقال بضيق: -قولي على طول ياحياة.
بعد رأسها عنه لتثني ركبتيها وتتكور تحت أبطه وتقول بنبرة طفولية:
-دي مش طلباتي، لازم تعرف أن دي طلبات ولادك مش أنا خالص.
لامست وجهه كي يطل عليها، يطل على نور قلبه وقالت: -عايزين يشوفوا ابتسامة باباهم، مش بيحبوا الوش المكشر ده.
شبح ابتسامة خفيفة بدا على محياه وهو يقول: -والله أنتِ مالكيش حل! شايفة أن ده وقته يعني!
-شوفت أديك رفضت أول طلب ليهم.
ثم أشاحت ببصرها نحو مسعود المقبل عليهم وأكملت: -أومال لو عرفت باقي طلباتهم،؟
أخذ عاصي القهوة والبطاطا الساخنة من يدي مسعود وشكره، ووضع في يده بعض النقود الورقية التي لا تقارن بثمن القهوة قائلًا: -والباقي عشانك يا مسعود.
نظر لقيمة الفئات الورقة بيده وقال: -بس ده كتير يا بيه والله! ربنا يكرمك ويخليك لك الهانم.
ما فرغ من حواره الروتيني والمعتاد مع مسعود والكثير من الرجال العاملين الذين لا ينسى حقهم، عاد إليها فوجدتها تلتهم قطع البطاطا الصفراء بشراهة. غمغم قلقًا: -طيب على مهلك أقوم أجيب لك تاني؟
اكتفت بإصدار إيماءة خافتة وهي تأكل البطاطا كالأطفال، أخذ يراقبها بعيون معجبة حتى ضرب كف على الأخر مع ضحكة خفيفة وقال: -أنا ربنا يصبرني.
سقطت أعينها على ابتسامته الهادئة وهو يرتشف القهوة، فبادلته ببسمة انتصار وقالت: -تعرف أن ضحكتك دي عندي أحلى حاجة في الدنيا!
سألها مداعبًا: -أحلى من البطاطا؟
رمقت البطاطا بشك ثم قالت بجدية مفتعلة: -تعرف أن ضحكتك دي احلى تاني حاجة في الدنيا بعد كوز البطاطا ده…
لم يتمالك نفسه إلا وهو ينفجر بضحكة عالية وصلت لمسامع قلبها قبل آذانها، تضاعفت سعادتها لفرحة لا توصف، فلم تنسى يومًا اعترافه بأن الهموم تهرب من فوق عاتقه عندما يكون برفقتها. لمعت عينيها بضياء العشق الذي وقعت فيه من جديد، صافحت ضحكاته قلبها، فتبعثر منها كامل رشدها وإدراكها لتقول بشرودٍ: -بحبك…
-ايه؟
ثم مسحت على وجهها بخجل وبررت: -أنت عشان ترضى ولادك، تزلزل قلبي! أنا مش أد الضحكة دي ياعم أنتَ! لا ارجع كشر تاني كده لحد ما نرجع بيتنا.
سحبها لحضنه، فمالت برأسها على صدره وبعد ما قبل رأسها قال: -كملي طيب. أي طلبات البهوات دول كمان.؟
ثم لحق نفسه: -غير الكبدة عشان دي مستحيل.
مجرد حضن منه يملأها بشعور لذيذ، أحساس بمذاق الونس والحنين وكأن الطمأنينة تحلق فوق ظلها والأمان كعصفور على أكتافها المُتعبة. رفعت عيونها المدججة بالحب لعنده وقالت بتمنى: -عايزين يبقوا بحضنك طول العُمر، متتصورش وأنا ساندة عليك أنا حاسه بايه.؟
رغم بخبث: -هما بردو؟ تعالى هنا ؛ أنتٍ ليكي فترة كده شقية بزيادة، أيه الحوار؟
شعور احتوائك لمن تحب، و الحاضن لِفرحته ودقات قلبه وحُزنه وحبه، كمن يقدم ميثاقًا بأنّك رُكنه الآمن من ضجيج العالم. كادت تجيبه بوجهها المحمر ولكن قطعهم أحد حراسه لينقذها من دهائه قائلًا: -عاصي بيه، آسف بس قعدتك هنا والمدام مش صح، أحنا مش عارفين نأمنك والمكان مفتوح من كل النواحي.
هز رأسه متفهمًا: -عندك حق يا بكر. يلا ياحياة.
هنا جاءهم اتصال هاتفي من شمس تبلغهم بخبر ولادة عالية، فاستقبلته حياة بفرحة كبيرة ألقت بها بين يديه صارخة: -عالية والبيبي بخير. يالا نشوفهم.
همس بمسامعها قائلًا وهو ينهض ليسير بمحاذاتها: -على فكرة، كل مرة بتبهريني أزاي قادرة تشتتي همومي بذكائك.
ثم أمسك بكفها بقوة مسرعًا الخُطا: -مش بحبك من فراغ…
عودة ليلا عاصي.
بعض الأخطاء لا تُغفر حتى ولو عض صاحبها على قلبه ندمًا ودمًا، لأنها بسهولة لا يمكن لها أن تُصلح شيء، لا يمكن أن ترمم شروخ الماضي. لا يمكن أن تعيد الحياة للحياة بعد ما سُلبت منها ؛ حملت جيهان حقيبتها الجلدية وهي تتعكز على أثاث الغُرفة متأهبة للرحيل، للعودة لتلك الفتاة التي ربتها على سُم الأنانية والطمع، واستباح كل ما تريد حتى ولو كان بطُرقٍ غير مشروعة. تلك الفتاة المحتجزة بالمشفى متهيئة لعمليتها الجديدة.
جلست على طرف التخت للمرة الأخيرة وبأيدي منتفضة مسكت جوالها لتكتب رسالة نصية أخيرة لابنها التي أشبعته قسوة، كادت أناملها ان تتنقل فوق الحروف ولكن ثمة شعور تعجز عن وصفه الكلمات.
غيرت رأيها وحذفت كل ما كُتب ثم ضغطت على زر التسجيل الصوتي: -مراد حبيبي أنا راجعة لأختك، كان نفسي أشوف بنتك وأحضنها، عارفة أن وجودي هيعكر عليكم فرحتكم عشان كده همشي. هستناك تبعتلي صورتها.
ثم سالت دموعها وأكملت بحرقة: -احكي لها عني كُل خير حتى ولو بالكذب، قولها إني بحبها حتى من قبل ما أشوفها. هتوحشوني كلكم. قولهم يسامحوني وأنت كمان سامحني.
فرغت من تسجيل الصوت لابنها وقامت بارساله، ثم انتقلت لمحادثة كريم وقالت: -أنا عارفة إنك مش طايق تبص في وشي. وأنا مش هلومك، حبيت أقول لك أنا موافقة تتجوز من البنت اللي بتحبها، ولو عايزني احضر فرحك هستنى دعوتي. هتوحشني يا حبيبي ربنا يسعدك. وسامحني أنتَ كمان عشان بعدتك عن البنت ال بتحبها.
انتهت من رسالتها التي عادت لمصر من أجلها، ألقت الهاتف بحقيبتها بفتور وحملت حقيبتها وغادرت تلك الغُرفة تاركة عالمهم اللذين دفعوا فيه سنوات العمر كي يناولوا قسطًا من السلام والحب.
الحياة ستكون جميلة أن لم يُخلق الصراع والأذى، كان الجميع سيعيش بسلامٍ لو تمتع كل منا بسلامه النفسي وتقبل شعور الهزيمة بنفسٍ راضية، ولكن كيف؟ كيف وبناء الأرض جاء كعقوبة لبني آدم لعصيانه!
بنيت الأرض كمنفى، كساحة قتالية لا تُرحم؟
كيف نبحث عن السلام وأول قصة في تاريخ البشرية كانت هي قتل الأخ لأخيه! عن أي سلام تأمل قلوبنا الحمقاء!
عودة للمشفى…
-طيب يا جماعة أنا شايف أن قعدتنا هنا ملهاش لازمة، ولا أيه؟ نسيب عالية ترتاح.
هتف كريم بجملته الأخيرة والجميع ملتف حول عاليه شبه مغيبة عنهم إثر المخدر. طبع عاصي قُبلة طويلة على جبين أخته النائمة ثم اقتربت منه حياة وربتت على كتفه: -قلت لك هتبقى زي الفل.
ثم نظرت لجميعهم وقالت: -طيب أيه أنتوا ناويين تباتوا هنا، كفاية مراد معاها، نمشي ونرجع لهم الصبح.
أيدتها شمس قائلة: -معاكي حق، بس مراد يرجع، أخد البنوتة هو وتميم للدكتور.
أخذت تهذي عالية بكلماتٍ غير مفهومة جعلت عاصي يجثو على ركبته كي يمكنه سماعها قائلًا بلهفة: -عايزة أيه يا حبيبتي، أنا جمبك.
أخذت تهذي بدون وعي: -فين ماما؟ مراد، أنا. خليه يطلقني.
تدخلت شمس موضحة: -عاصي هي مش في وعيها، ده تأثير البنج. والأحسن نسيبها ترتاح وخلوا مراد بس معاها، يمكن يحاول يصلح اللي حصل.
تفهم حديث شمس مرحبًا ثم قال: -تمام، يالا يا كريم أنتَ ونوران عشان نروح البيت. وأنتِ يا شمس السواق مستنيكم تحت، تعالى مع تميم.
فأكملت حياة: -أنا مجهزة أوضتكم وكل حاجة تمام، أعملوا حسابكم هتقعدوا معانا كام يوم.
فُتح الباب فطل منه تميم ومراد بدون صغيرته، فتلهفت نوران متسائلة: -هي فين؟
رد تميم: -في الحضانة بس عشان البنت اتولدت قبل معادها.
اخترق مراد صفوفهم وجثا بجوار عاليا وأخذ يمسح على رأسها بعد ما غطى ذلك الجزء المكشوف من شعرها، أخذ يهمس ببلابل العشق وهو يقبل أناملها: -يالا فوقي بقا، فوقي عشان تشوفي بنتنا، عايز أقولها أنها زي القمر، كلها أنتِ.
ربت تميم على كتفه: -حمدلله ع سلامتهم يا مراد.
فأكمل عاصي بنبرة جازمة: -شيلها في عينك لحد الصبح، ولو زعلتها وغلاوة عالية ما هطلعك من الغردقة على رجلك، عايز أجي ألاقيك مصالح مراتك ومخليها مغيرة فكرة الطلاق دي، عشان لو رجعت لقيتها مصرة على رأيها هنفذه. فاهم.
لكزته حياة بخفة، وهمست: -بالراحة عليه مش كده!
ثم رفعت صوتها: -يالا بينا أحنا.
أمسك كريم يد نوران وخرج الثنائي أول واحد كي يستفرد بها مُلقيًا قائمة مطالبه: -اسمعيني، هنروح عند عاصي، تباتي مع بناته، مفيش حاجة اسمها أوضة لوحدك، ومتنزليش الصبح غير لما أكلمك وأقولك انزلي.
فاض صبرها من تحكماته: -من يوم ما خطبتني وأنت بقيت خنيق موت، ايه يا كريم! فين كيمو الروش بتاع زمان!
داعبت أنفاسه ملامح وجهها وقال: -لما يتقفل علينا باب واحد هتشوفيه. أما دلوقتِ تسمعي كلامي لحد ما نمشي من هنا.
خرج عاصي وحياة خلفهم، فتمتمت حياة له بفضول: -عرفت أن كريم خطب نوران!
عقد حاجبه مشدوهًا: -ده أمتى ده! أنا سمعت حاجة زي كدا قبل ما يسافر، هو جد جديد!
ضمت ذراعه وهما يغادران المشفى وقالت: -هى قالت لي النهاردة، وكنت فاكرة اعتذر من شمس عشان موضوع يونس، بس مالقتش الوقت المناسب. المهم طمني عليك دلوقتِ. أحسن!
علي أعتاب المشفى أعطاه أحد رجاله مفتاح السيارة المصفوفة، ثم همس لها وطوى همومه عنها: -أنتِ جمبي لازم أكون أحسن.
ثم جهر مناديًا على كريم: -كريم، هتركب معايا!
تدخلت حياة قائلة كي تتيح لهم الفرصة للعشاق الجدد أن يبقى معًا، ثم قالت مقترحة: -كريم أنتَ معاك مفتاح عربيتي، ارجعوا أنت ونوران سوا، وأنا وعاصي هنتحرك قدامكم…
اقترحت نوران قائلة: -طيب نستنى تميم وشمس ناخدهم معانا.
-ماشي يا نوران.
جزت حياة على فكيها وسحبت عاصي ليصعدا السيارة: -البنت دي غبية أوي؟
ما أن جلست بالمقعد الأمامي بجواره، وهي تعقد الحزام أكملت: -تبان ذكية وفاهمة كل حاجة، وهي بتغرق في شبر ميه…
كاد أن يدور سيارته ولكنه تراجع متذكرًا أمرًا هامًا وقال ب حسم: -انزلي…
الساعة الثالثة فجرًا.
بغُرفة الضيوف الخاصة بتميم وشمس، تتمدد في منتصف فراشها وهي تدلك بنطنها المنتفخة برقة كي تستريح من مشقة اليوم. فرغ تميم من أداء الصلوات المتراكمة عليه، وما طوى سجادة الصلاة تحرك لعندها متوليًا المهمة بدلًا منها. أعطت له أنبوبة الدهان الطبي واسترخت تمامًا وهي تتنفس بارتياح، همس قائلًا وهي يحرك يده بحركات دائرية: -لازم الطفل يحس بوجود وحب أبوه كمان.
أخذت أنفاسها تهبط وتصعد بهدوء تام، منتشية بإحساس الحنان المنبثعة نحو صغيرهما: -مكملناش كلامنا، أنا عايز اسميه اسم جديد، وفخم.
اعتدلت بهدوء ثم قالت: -زي أيه؟
-معز. معز تميم دويدار.
انقعدت ملامحها باعتراض: -لا طبعًا. مفيش الكلام ده، ومحدش هيسمي ابني غيري!
-وانا مش أبوه وليا حق اسميه؟ ولا أنا ضيف شرف معاكم هنا.
عاندته بإصرار: -لما تبقى تحمل وتتعب وتطلع عينك، ابقى سميه انت. مش هسمي ابني معز انا!
ساد الصمت لبرهة أحست ب خطأها وانفعالها، فبررت معتذرة: -سوري، نسيت أننا مش في بيتنا، ممكن نأجل الكلام في الموضوع ده لما نروح!
رد بحزم: -الموضوع منتهى، هو معز خلاص. ومش عايز كلمة زيادة يا شمس.
رفعت حاجبها متعرضة: -والله، تصدق أنا غلطانة، طول الطريق قاعدة بفكر ازاي استغل الجو الحلو ونسهر سوا وننبسط، لكن الظاهر أنك مش وش نعمة.
ثم شدت الوسادة وقفلت نور الأباجورة وقالت بجدية: -نام يا تميم.
لوهلة تراجع عن عناده نادمًا: -ايه نام يا تميم دي؟ قومي يا شمس وقوليلي كنت ناوية على ايه.
-قولت نام يا تميم!
حاول استعطافها واستلطاف الأجواء بينهما وقال: -طيب بلاش معز مش لازم، وقومي متضربيش أم الليلة دي، أنا غلطان ياستي…
بغُرفة عاصي.
يسود الظلام الغرفة إلا أشعة ضياء القمر المنصبة بغرفتهم، أبت ان تقفل الشبابيك والنوافذ تلك الليلة وفضلت أن تنام على عطره وضوء القمر. اعتدلت في نومتها لتجعل وجهه مقصد رؤيتها، فتلاقت أعينهم التي فر منها النوم لأسباب كثيرة، اندست بين ذراعيه وسألته: -منمتش يبقى بتفكر في حاجة. أيه مطير النوم من عينك.
-عيونك الحلوة دي.
من أجمل سمات الحب لأي قلبين أنهما يقاسمان كُل شيء، كُل شيء حرفيًّا لن يفعل أحدهم شيئًا بمُفرده، يتشاركان البيت والأريكة والطعام ولحظات الحب والأرق وكافة التفاصيل، الاثنان أمان بعضهم البعض، يهرب الخوف تمامًا من بينهما، وحينما ترهقهم الحياة، يختبئان بين أذرُع بعضهما طالبين الراحة فقط. في كنف الحُب تُشيع جنازة الحزن والقلق لأنك ستكون برفقة مَن يبث السعادة في كُل أرجاء روحك، جذبها لعنده لتكون أقرب وأقرب وبعد تقبيله لكفها قال:.
-اليوم مكنش سهل النهاردة خالص. بحاول انسى وأنام ومش عارف.
-حبيبي أحنا مش اتفقنا، جيهان وصلحت جزء من أخطائها وسافرت، وعالية قامت بالسلامة. وأنت نايم في حضن الست اللي بتحبها وهي بتموت فيك، وكل ال بتحبهم معاك في البيت، أيه ممكن يزعلك تاني؟
تسللتت كفوف تحت ملابسها الخفيفة ليتحسس نبض صغاره وقال: -بفكر في دول. وأزاي ممكن احميكم من المعركة اللي مستنية توقع عاصي دويدار بره. حياة ؛ أنا أعدائي في السوق كتير، وخايف تحصلي حاجة ااا…
سدت ثغره بأناملها كي لا يكمل جملته المتشائمة، وقالت: -أنتَ وعدتني أنك هتكون بخير عشان ولادنا، دول 4 ولاد مش هعرف أربيهم لوحدي. أنا مش هسمح لك تروح مني لأي سبب. انا روحي دي تروح معاك فيها.
قبل وجنتها بلطفٍ ثم قال مغيرًا مجرى الحديث: -المهم أن الدكتور طمني عليكِ وبس.
-صممت بردو أننا ننزل ونكشف، شوفت صورتهم كانت حلوة ازاي في السونار. عاصي تتوقع هيكونوا ولاد ولا بنات. ولا الاتنين! أنتَ عايز ايه!
-صدقيني مش بفكر غير في سلامتك.
ثم رفع تلك الحمالة المتدلية عن كتفها وقال: -المهم منمتيش ليه؟
-بصراحة، جعانة أوي، وسيدة عاملة شوية جمبري ومكرونة وهم، تيجي ننزل ناكل!
عقد حاجبيه متسائلًا: -الساعة دي!
تحمست أكثر ونهضت بخفة من حصار حضنه وشدته بإصرارٍ: -عاصي أنا حامل، وأكل في أي وقت. افكرك تاني، أنا تلاتة في واحد!
طاوعها ووثبت معها وهو يتناول سترته القطنية ليرتديها وقال: -البسي حاجة متنسيش أحنا مش لوحدنا هنا.
أومأت بطاعة ثم عادت له متسائلة: -عاصي، أنتَ والدكتور كنتوا بتتوشوشوا في أيه؟
غمز بطرف عينه: -كلام رجالة بقا، مالكيش دعوة انتِ.
رمقته بعناد: -هاكل وأقررك. دلوقتي جعانة مش هقدر اجادل معاك.
بالمشفى…
-بنتي فين؟ حياة، عاصي، آه.
بصوت وهن تمتمت عالية بجُملتها بعد ما فاقت من نومها وتعبها. نهض مراد على عجل وفتح النور بلهفة:
-أنتِ صحيتي؟
تأوهت في فراشها محاولة الاعتدال وهي تلهث من عناء رحلتها ؛ رحلة وهن على وهن. استعانت بكفه كي تعتدل من نومتها: -بنتي فين، عايزة أشوفها. مش المفروض أرضعها، هما خدوها فين.
ربت على كتفها بحنان: -بنتنا زي القمر، أهدي وهعمل لك كل ال عايزاه.
سحبت كفها من كفه الخشن الذي ذكرها بقسوة غيابه وقالت بضيق: -عايزة أشوف بنتي.
-حاضر. هجيبهالك حالًا.
لم يكاد يتحرك من مكانه فأتت الممرضة حاملة الصغيرة بين راحتي يديها بعد ما طرقت الباب وقالت: -لازم ترضع من الأم.
ارتجف قلبها الذي اغتسل بالثلج، لم تجد سواه لتطلب مساعدته. وضع الوسادة خلف ظهرها ثم أخذ الصغيرة من يدي الممرضة فقالت: -أنا بره لو احتجتوا أيه حاجة.
اقترب منها كي يضع الفتاة بيدها برقة تنافس رقة النسيم وهو يدندن بخوف: -على مهلك، خلي بالك.
حاولت مرات كثيرة أن تعدل وضعية يدها وتحمل صغيرتها بحكمة. ساعدها في ضبط رأس الطفلة. تبادل الثنائي النظرات الحائرة التي قطعها مراد قائلًا: -يالا يا حبيبتي رضعيها.
أحست بهيبة الارتباك والعجز وقالت بقلق: -أزاي؟ انا مش عارفة.
مال إليها ووضع كفه فوق ظهرها لتستريح في جلستها وقال وهو لا يعلم أي شيء ولكن فطرة الأبوة كانت تقوده: -يالا وأنا هساعدك.
عانت كثيرًا من الكيس الطبي الذي ترتديه حتى تدخل هو الآخر وحل الأمر. فك عنها ذلك الرداء وشرعت في عملها وغريزة الأمومة تتدفق من قلبها. لامست تلك الجائعة حليب أمها بلهفة وهي تصارع كي تنال منه قدر المستطاع. أغرورقت عيني عالية بالعبرات والضحك متناسية كل شيء وقالت بصوت متعطش للسعادة:.
-مراد، الله دي بترضع. شايف!
لم يتمالك نفسه وزمام حبه فانحني ليُقبل الاثنين، قبلة كانت من نصيب وجنتها والأخرى كانت من نصيب ذلك الجزء الذي يمد الصغيرة بالحياة والحب، أحمرت وجنتيها بخجل انفجر من بين ملامحها الفارحة، تلاقت أعينهم المتعطشة للحب حتى ختمه قائلًا: -وحشتيني أوي. كل حاجة فيكي وحشتني. عالية عشان خاطري تعالى ننسى ال فات.
ثم داعب وجه صغيرته وقال: -عايز غالية بنتنا تتربي في حضننا، أنا مبقاش ليا حد غيركم بعد النهاردة!
تمتمت باندهاش: -غالية، أنتَ هتسميها غالية يا مراد.
-أنا بالفعل كتبتها غالية وبكرة هسجلها؟ عشان يبقى عندي بنتين عالية وغالية. غالية مراد المحلاوي.
اتسعت ابتسامتها متقبلة الاسم على الرحب والسعة: -جميل غالية، عجبني.
طبع قُبلة اعتذار أخيرة بداخل راحت يدها وقال: -اتفقنا. مفيش زعل تاني وهنفتح صفحة جديد.؟
منذ أول لقاء بيننا أدركت أن هناك قصة جديدة يسطرها القدر على جدار قلوبنا، أن وجودك معي سيشكل فارقًا عظيماً في حياتي شعرت بأنني معك سأكون أقرب للكمال وبأنك وبطريقة ما ستخلق أثراً عظيماً في قلبي. بللت حلقها معترفة ببكاء:
-وأنا كمان ماليش غيرك. بس…
اندفع قائلًا وهو يتلقى عِبراتها على ابهامه: -أشش من أولها نكد وزعل والبنت بترضع كده! لا بقولك أيه أنا مش عايز بنتي تطلع نكدية الغي العياط ده من حياتك خالص. سيبك من الكلام وتعالى نتفرج على غالية.
غير مكانه من أمامها ليبقى بجوارها، وبالأخص لتبقى جار قلبه الذي عاد له النبض مرة أخرى بوجودها، حوط كتفيها فتلقائياً استندت برأسها على كتفه وقالت: -أنتَ كمان وحشتني أوي…
عودة للقصر.
انتهت حياة من وضع الطعام ب الميكروي ثم اقتربت منه الجالس على أحد المقاعد الخاصة بالطاولة التي تتوسط ساحة المطبخ. تدلت كفوفها الرقيقة من فوق كتفه ب هدوء، ساندة ذقنها على كتفه وقالت بهمس:
-أنت كويس!
ترك الهاتف من يده إثر لسمات تلك القطة الشقية التي لا يقاوم قربها رجل يافع مثله وقال: -معاكِ أهو. أنتِ اللي مش مبطلة حركة وده مضايقني، ممكن تريحي نفسك؟
بقبلات دافئة متوزعة بجدار عنقه تعلن فيها اعتراف قلبها بإنه امسك بيد الرجلَ المناسب، الرجل الذي تستحقه. ثم قالت بخفوت:
-أنتَ ليه ماقولتش أن فريال حاولت تقرب منك.
هز رأسه متفهمًا: -لو قُلت لك كان هيحصل أيه؟ أنا هقولك، هتنكر وتقلب الترابيزة عليا وأخسر أخوكي والشك يدخل ما بينا. وبالتالي علاقتنا هتتهز ف هنحقق لها ال عايزاه.
ثم شد كفها لمستوى ثغره ليقبله وأكمل: -أنا عارف الأشكال دي، دي حلها تتساب لحد ما تفضح نفسها بنفسها، وأهو ال عملت حسابه حصل.
لفت ذراعيها حول عنقه وقالت: -على فكرة هي مشيت، راحت عند خالتها وقالت مش هترجع تاني. واعتذرت عن كُل حاجة. وكانت كاتبه في كلامها أنها فعلًا جاية تنتقم مني فيك. بس أنت صديتها.
ثم ضمته إليه وقالت بامتنان: -عاصي، شكرًا ليك. شكرًا ليك لأن للحظة دي مفيش واحدة عرفت تنتصر عليا، شكرًا لأنك مدتش واحدة الفرصة تهيني وتقلل مني…
دار بمقعده الجلدي لتتبدل الأدوار، وبدلًا من احتوائها لكتفيه، باتت كلها بداخله جسده، وتحت حصاره، رفع جفونه لعندها وقال بنظرة تُقر باكتفائه بها:
-أعمل أيه في قلبي؟ اكتفى بيكِ وقفل عليكِ بضبة ومفتاح.
مالت بكُل جسدها لعنده وقالت: -تعرف أن مفيش أجمل منك بعيني. ولا حد أسعد مِني وأنا معاك.
ثم اندفعت بكل مشاعرها لتزرع زهورًا وليست قُبلًا على كافة ملامحه، كانت قبلاتها هادئة، بتأن تعرف أين ستذهب، وما ستفعل بقلبه؟ كادت أن تفجر عشقها الأكبر بملاذ قلبها ولكن جرس الفرن الكهربي قطع عليهم تلك اللحظة الهنية. ابتعدت عنه بدلالٍ وبعتبٍ مفتعل:
-عاصي، بطل بقا الحركات دي. عندنا ضيوف في البيت، أحنا مش لوحدنا!
-ده أنا بردو؟
ثم فرت كالأرنب العنيد من حضنه لتُخرج الأكل، رصت الجمبري بالأطباق، ثم فتحت الثلاجة فوجدت قطع الحلوى المغرية وسألته: -تاكل جاتوه معايا؟
لازال يقاوم رغبته فيها، تلك الهشية التي تنفتح وتقفل لرؤيتها فقط، تحمحم مستجمعًا شتاته وقال ساخرًا: -هاتي اللي عندك ياحياة خلينا ناكل وننام، عشان شكلك مش ناوية تجيبها لبر…
رصت الأطباق أمامه بفرحة لا توصف، ثم جلست وشرعت في التهام الطعام بشراهة وكأنها في سباق مع أحد. رفع حاجبه متعجبًا ثم تناول شوكته وشرع في تناول وجبته ببطء. لم يمض وقت طويل حتى انتهت من طبقها كاملًا وواصلت فقرة الحلويات. وما فرغت من تناول قطع الكيك، أمسكت مرة أخرى بشوكتها لتشارك عاصي في طبقه، وقالت:
-شوية جمبري وهم!
-أنتِ شهر كمان بالحال ده، مش هعرف أشيلك تاني!
عقدت حاجبيها مندهشة: -ده ليه بقا! ياحبيبي افهم أحنا تلاتة. قدامك دي تلاتة فالأكل بتاعي وبتاعهم. وبعدين تعالى هنا هو أنا تخنت؟
القى نظرة فاحصة عليها وقال بإعجاب: -بصراحة، أنتِ احلويتي أكتر وو. بعدين أقول لك.
لملمت الأطباق سريعًا مفتعلة الزعل: -بعد أيه! وسع كده، وبعدين حتى لو تخنت كله فدا ولادي حبايبي.
اتجهت ناحية الحوض ووضعت الأطباق بداخله وغسلت يدها بفتور فباغتها بحضن طويلٍ من الخلف، وهو يعتذر عما قاله: -متقلقيش معاكي ل100 كيلو زيادة. فكُلي براحتك. أنا كده كده بحبك.
ثم أزاح شعرها عن ظهرها ليتأمل الحوت المرسوم فوق كتفها وقال: -أنا كل ما أشوف الحوت ده ببقا عايز أكلك وأكله.
تململت بدلالٍ: -عاصي بطل بقا، وابعد عشان بجد قفلتني.
لمس حوتها المرسوم بشدقه الهائم لثوانٍ فشعرت أنّ نجومًا صغيرة هبطت من السّماء وتحلّقت حول أثر لمساته، لمس عنقها لثوانٍ معدودة. فصار وجهها قمرًا منيرًا. نسيت صنبور الماء مفتوحًا وهي تذوب معه كعود من الريحان يتمايل على لحن الهوى. أفرط بمداعبتها وهو يخبرها بأنفاسه المحترقة: -أنتِ أزاي قادرة تكون أم وأخت وبنت وصاحبة وزوجة وعشيقة سرية بقابلها كل ليلة. أزاي قادرة تكوني كل دول في شخص واحد.
كادت أن تجيبه ولكن من فرط المشاعر التي تسربت لروحها فقدت القدرة على النطق. اعتصرت معصم يده كي يتوقف بث اللمسات الحنونة لجوفها، ثم دارت بصعوبة بين قبضة يده والتفت ذراعيها حول عنقه وهي تلهث من جملة المشاعر العذبة التي تروي فؤادها:.
-عاصي. أنتَ حبي اللي عشت أرسمه في خيالي سنين طويلة، أنا هنا عشان أكملك. اسد فراغات قلبك، انضفه من فضلات الماضي. أنا حبيتك بقلب كل الستات اللي أنتَ شايفهم فيا. أنا مستعدة أكون أي حاجة تسعدك.
ثم طوقته بوهن وأكملت وشوشة لقلبه: -أنت الحُب ال عمري ما هندم عليه أبداً، أنت بالنسبة لي أعظم حاجة دخلت قلبي.
ثورة صاخبة من العشق اندلعت في كيان الحبيبان اللذان يكملان بعضهما البعض، آهات مكتومة وصوتًا واحدًا ينبعث وترين مختلفين، تلك اليتيمة التي وجدت فيه حنان الأم وأمان الأب وشقاوة الأخوة، ليغمدها بجسده كأنه متعمدًا ترميم شروخ روحه بحب تلك الفتاة التي تذوق معها كيف سيكون حنان الأم، وخوف الأخت. واحتواء الزوجة. ضمها معصمه ورفعها عن الأرض قليلًا كي تجلس على سطح الطاولة. في تلك اللحظة سمع صوت صخب بالخارج، فعاد له رشده وشدها من كفها وقفل صنبور الماء قائلًا بحذر: -في صوت بره. ظبطي نفسك.
عقدت حزام منامتها الطويلة حول خصرها وشربت كوب من الماء ظنًا منها بانطفاء نار الحب بكيانها. سحبها برفق للخارج بعد ما أشار لها أن تحتفظ بهدوئها، تمددت أنظاره للخارج كي يفحص المكان، فوجدها قطة دخلت من النافذة المفتوحة وتعبث بالمنزل، نظر لها بضحكٍ:
-القطة دي انقذتنا.
ثم سحبها عنوة خلفه: -تعالي تعالي، أنا نسيت إنك حامل أصلًا. كنتِ هتودينا في داهية.
توقفت على أعتاب السلم لتأخذ نفسًا عميقاً ويهدأ روعها قليلًا، ثم أشاحت بنظرها معلنة عجزها: -عاصي بجد مش قادرة اتحرك. أعصابي كلها بايظة.
انحنى قليلًا وحملها بين يديه محذرًا: -طيب متعمليش صوت.
بحذرٍ شديد عاد الثنائي لغرفتهما، ركل الباب خلفه ووضعها برفق بمنتصف فراشهما كاد أن يفارقها ولكنها تمسك بملابسه قائلة:
-بتبعد عينك عني ليه! مش مجبر على فكرة.
تمتم ضاحكًا: -حياتي أنتِ هرمونات الحمل دي مبوظة الدنيا معاكِ. أنا خايف عليكِ. لحد ما نعدي الشهر التالت بس.
-مش الدكتور طمنك!
-طمنني…
ثم تململت في نومتها بهدوء وهي تضمه إليها ببطء وكأن هناك علة بروحها لا يداويها غيره: -وقالك أيه كمان؟
غاب عن وعيه ذائبًا بسحر عينيها وهو يتأقلم على امتلاكها وامتزاج أرواحهم بلغات العشق التي لا يفهمها سواهم: -هو مين!
طمأنينة القلوب الحَقيقة هي تلك الروح التي تمتزج بروحي فتداوي كافة الأوجاع وتجدد خلايا الحب من جديد، فهو موطني الذي يقبلني ويتقبلني رغم كُل شيء، ويعود إلى وأعودُ إليهِ مهما حدث، نحن الاثنان داء ودواء بعضنا لأخر العمر…
صباحًا
فتح عينيه إثر لمساتها الحنونة التي تغلف القلب بالسعادة والحياة، آخيرًا أشرقت شمسها برؤية عينيه اللاتي استقبلتهما بابتسامة:
-صباح الخير يا حبيبي.
أردف بصوته النائم: -لسه ما نمتيش لحد دلوقتِ يا حياة؟
-لا نمت شوية، ومعرفش ليه حسيت بإنك واحشني وعايزة أشبع من ملامحك، فصحيت. ومعرفتش أنام تاني.
رفع رأسه النائمة ليستند على الوسادة وقال معاتبًا: -وبعدين فيكي! مش هتبطلي دلع!
ثم نظر لها بلهفة بعد تذكره لطيف تفاصيل الفجر بينهم ووضع يده فوق بطنها: -أنتِ كويسة!
سئمت من خوفه المتكرر عليها، حيث أجابت بمزاح: -كويسة جدًا كمان. وبعدين أيه بطلي دلع دي! اعتبرها تعويض عن الليالي اللي كنت تباتها في الشغل وناسيني خالص.
رد بعفوية: -عشان كنت غبي.
-لا ماتقولش كده، أنت أعظم راجل في الدنيا. قوم يلا عشان نروح لعالية نطمن عليها ونجيبهم.
رفع الغطاء من فوقه وقال: -حاضر يا ستي.
هرول إلى الحمام، ونهضت هي بحماس لتختار له بدلته. ثم وضعت ملابسه القطنية على معصمها وعادت لعنده. وضعت تلك الملابس في مكانها المعتاد ثم دخلت ذلك الصندوق الزجاجي وأخذت منه تلك الفرشاة لتساعده، فأردف متعجبًا: -ده أيه الرضا ده كله!
عبرت عن مشاعرها بحيرة: -مش عارفة. بس أحساس جوايا مش عايز يفارقك للحظة، ممكن نروح نجيب عالية وترجع متروحش الشغل النهاردة. خليك قاعد معايا.
دار لوجهها وشدها تحت الماء معه وقال: -أنا جمبك أهو، هروح فين؟
-لا خليك جمبي على طول.
-ومش هتزهقي؟
-عمري ما أزهق منك.
مرت قرابة الساعة ؛ فكانا عاصي وحياته بالسيارة في طريقهم للمشفي، طول الطريق متشبثه بكفه كأم تخشى أن تفقد صغيرها وسط الزحمة. بين كل كلمة والأخرى تأخذ نفسًا طويلًا تطرد فيه شبح المخاوف التي تحيط بقلبها ولم تفهمها. كل فترة والثانية تتقابل أعينهم وسرعان ما تنفصل عن بعضها. عند بوابة المشفى طلبت منه أن يصف سيارته جنبًا وهبطت راكضة من جواره تتقيأ. هبط خلفها بلهفة وضمها تحت شجرة بالطريق:.
-طيب مفيش أي حل للترجيع بتاع كل صبح ده! بالراحة طيب.
جفف ثغرها بالمناديل الورقية، فأجابته بصوت متعب: -طبيعي يا حبيبي متقلقش.
من الخلف هناك شعاع ليزر مصوبًا لمنتصف ظهر حياة، وفي تلك اللحظة التي ضمها إليه كي تهدأ من صوت أنفاسها المتصاعدة. خرجت تلك الرصاصة العدائية عن مخبأها لترسو بمنتصف جسد أحدهما…
التعليقات