التخطي إلى المحتوى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثالث للكاتبة نهال مصطفى الفصل الرابع عشر

الأزمات النفسية المفاجئة مرعبة، لا تُبيح لك حرية التصرف كما ينبغي، لا يمكنك أن تصرخ، تعترض، تضحك. على حين غُرة تتكبل وينعقد لسانك وتُشل حركتك، تتجمد بمكانك لدرجة أنك لا ترى ما ترى.

ضرب الدوار رأسها وانصب بمعدتها فاستندت على جذع الشجرة لتعيد الكرة. في تلك اللحظة التي توسط فيها شعاع الليزر منتصف ظهرها وبمهارة قاتل محترف يعرف من أين تُسلم الأرواح لملك الموت ؛ ضغط على زر بندقية القنص في نفس اللحظة التي تكورت فيها حياة بداخل حضنه لتتقيأ.

صوت مروع. مرعب، صوت رصاصة خرجت من سلاح أحدهم فجرت صرخات عدة من أجواف المارة. برعب طفلة بالغابة استمعت لصوت حيوان متفرس، صرخت متحامية بصدره متشبثة بملابسه.
أخترقت رصاصة العدو كتفه ولكن ذلك لا يحرك أنش بجسده كي يظل يحميها، كي تظل آمنه في سربه. اندست حوريته بين سياج صدره كي لا ترى العالم المخيف وراء حصنها المنيع.

لحظات مرت ببطء سنوات على قلبها المرتعد حتى شعرت بارتخاء قبضته عليها، وزمجرة أصوات الحشد الجمهوري من خلفهما. تراجعت ببطء مخيف، بطء مثقل بمخاوف الفقد، بطء يرفض مواجهة الحقائق. انسحبت يدها المرتجفة من وراء ظهرها وقبل أن تراها ارتفعت عينيها لعينيه المكدسة العِبرات وكانها تتوسل إليه أن ينفس أحساسها، أن يطمئن قلبها المرتعدة. بتلك الشفاه المرتعشة غمغمت باسمه وهي تفحص ملامحه المنكمشة من قسوة الوجع:
-عاصي.

خدعه جسده من شدة الخفقان في تلك اللحظة جعلته يضطر إلى الإتكاء على جذع الشجرة. احتد الألم عليه حتى شعور ببتر ذراعها، انعقد الجميع خلفهم فواجهت حينها الحقائق عندما رأت دمائه تكسو كفها. كانت الرصاصة بكتفه ولكن الآلم يُغرز بقلبها غرزة غرزة. اهتزت رأسها بالرفض، رفضًا قاطعًا أن يصيبه مكروهًا، رفضًا لبعده عنها، رفضًا لجميع الأحداث المروعة. تأوهة متحملًا الألم يتكأ على الشجرة، آمرًا: -كلميهم في القصر يجوا يأخدوكي.

تقطعت الكلمات في شِدقه وهو ينهزم أمام الألم: -مطلعيش من البيت يا حياة.
-لا، انا مستحيل أسيبك.
لم تجد نفسها إلا تضمه إليها وتتوسل صارخة: -ألحقوني. حد يلحقنا.
ثم أخذت تضرب الارض بقدميها من شدة عجزها، وتواسيه: -عاصي. لا، انتَ مش هتسيبني كده! عاصي لااا. ده مش اتفاقنا.
فتزلزل كيانها بصرخة مندلعة: -ساعدوني…

حدث عمره الزمني لا يتجاوز الثلاث دقائق ولكن صداه الألمي سيظل ملازمًا لعمر المرء كظله. جاء عدد من طاقم التمريض وهو يركض بالسرير المتنقل عندما أبلغ موظفي الأمن أدارة المشفى على الفور. حملوا عاصي منبطحًا على بطنه وهروله به لأعتاب المشفى.
خرت قواها الجسدية للحد الذي لم يتبقى منه شيئا حتى أنها عجزت على الإلحاق به. سير خطوة وتسقط الخطوة الثانية حتى تقدمت لها أحد السيدات بالمكان وساندها في الذهاب خلفه…

يلا عاصي.

أزاح تميم ستائر الغرفة المُطلة على البحر مباشرة متعمدًا إيقاظ تلك النائمة التي افسدت عليه ليلة الأمس إثر عنادها. فتح نافذة الغرفة فداعب هواء البحر البارد ملامحه المغبرة بزحام القاهرة. كان الموج يتلاطم هنا وهناك. طافت عينيه المنبهرة بروعة وجمال موقع البيت فأغرى الموج ذاكرته ف تذكر حدثًا قديمًا بينه وبين أمه: -تميم، الموج عالي بلاش تنزل البحر النهاردة. أنتوا داخلين على 3ث ومش عايزين أي أصابات تعطلكم.

توسلت إليه أمه كي يتوقف عن نزوله للبحر ولكنه أجابها بطيش مراهقين وهو يتمسك بيدي مراد: -متخافيش علينا، المفروض الموج هو ال يخاف مننا.
فتدخل مراد معبرًا عن تأييده لحديث صديقه: -متعة الحياة الحقيقية في موجها العالي.
ابتسمت مديحة وهي تتفقد تمسك الرفيقين ببعضهما ثم قالت بنبرة واعظة: -متعة الحياة ال بجد أنكم تواجهوا موجها وصعوباتها وأيديكم في أيدين بعض كده.

غريب أمر الذاكرة، يمكنها أن تسافر بك عبر الزمن للحظات تمنيت ولو لم تنته أبدًا، بنفس الشعور وبنفس اللهفة الماضية. تعلق في ذيل المستحيل، ذلك المستحيل الذي لا يمكن تكراره. وأيضًا تخدعك وتلهيك وتنسيك أكثر الأشخاص حبًا لقلبك، أناسٍ بات لقائهم يجتاح إلى الذهاب للعالم الآخر بدون عودة.
عاد إلى رشده إثر نداء صوت شمس المفعم بالنوم ؛ تتسائل: -هي الساعة بقيت كام دلوقتِ!

رد باختصار بعد ما أخذ نفسًا طويلًا كالعائد من سفره البعيد وقال: -لسه 9. كملي نوم.
لاحظت شحوب ملامحه، فرفعت الغطاء من فوقها وتحركت نحوه، مررت أناملها فوق ملامحه المتغيرة وسألته بلهفة:
-تميم، فيك حاجة.؟
دومًا ما ينقم المرء منا على تلك الصعوبات التي اغتالت براءته وأيامه الجميلة، أجبرتنا أن نكون أشخاصًا غير الذين نتمناهم. خلقت منا قناع مزيف لا يمكننا انتزاعه ؛ ولى وجهه للبحر وقال بترجي:.

-لو كانت أمي عايشة! ولو كان مراد فضل صاحبي طول السنين ال فاتت! ولو مكنتش ضيعت سنين عمري متكتف على كرسي عشان أنجو من شر عبلة. ولو فعلا طلعت عالية أختى ومن دمي وأحضنها براحتي زي ما كنت. ولو.
تأملت وجهه المليء بالدفء، تلك الملامح الحنونة التي تطمئن قلبها بأن كل شيء سيبقى على ما يُرام. فقاطعته ناصحة: -لو كانت مامتك عايشة كُنت مسيرك هتفقدها في يوم ما جاي وهتعيش نفس الوجع من جديد.

ولو مكنتش قضيت عمرك متكتف على كرسي عمرنا ما كنا هنتقابل. وكان ممكن حياتك وقلبك يعصوك وتغويك الدنيا زي ما غوت عاصي.
ثم استقر كفها فوق كتفه وأكملت مواسية: -ولو على عالية، في أختكم حتى ولو الشرع والقانون أنكر. بس مفيش سلطان ممكن يتحكم في هوى القلب والحب الأخوي الجميل ال بينكم.

ف بللت حلقها وأكملت لتختم حديثها: -كل حاجة بتحصل في حياتنا آكيد وراها حكمة. وآكيد هيجي الوقت ونعرفها. ده اسمه قدر المرء من قبل أن يولد، يعني سهم نفذ لطريقه ومفيش حد يقدر يوقفه. بس نقدر نهون صعوبته على بعض. ملناش حق نعترض، بس نقبله زي ما هو.
زفر مآسي سنوات عمره وقال باقتناع: -معاكِ حق.

قررت أن تلطف الأجواء المشحونة بعينيه قليلًا وقالت: -وبعدين أنتَ بتفكر في كل الحاجات اللي مضايقك. وناسي أن في ضيف جديد هينور حياتنا كمان كام شهر!
فعقدت حاجبيها ممازحة: -ممكن أعرف فين ابني من تفكيرك!
ابتسم رغم عنه وولى إليها مصدرًا ظهره للبحر وذكرياته التي لا تَرحم ؛ مسح على شعرها المنسدل ب كفيه ثم تربعت قبلته على جبينها وقال معترفًا:.

-أنتوا في قلبي وكل ما ليا يا شمس. أنت الحاجة الصح ال جات في الوقت الصح بالتمام.
ولكن طيف ليلة أمس حل كالضيف الثقيل برأسه، غمز بعينيه مداعبًا: -تعالى هنا! أنتِ ازاي ياهانم تستجري وتنامي قبلي ليلة إمبارح؟
-الله! مش أنت اللي صممت على مُعز! وبعدين اسم ابني هيكون بالاتفاق ما بينا.
تجاهل مبررها بإصرار: -ايوة بردو، ازاي تنامي قبلي وتسبيني كده دماغي تودي وتجيب!

-كُل ما تزعلني هسيبك وأنام، عشان تعمل حساب زعلي من هنا ورايح.
ثم انكمشت أعينها بنبرة تهديدية: -خد هنا، دماغك دي كانت بتودي وتجيب في أيه بالظبط؟ عشان شكلي هسيبك وأكمل نوم.
أقبل نحو شمسه بشغف متجمد يلتمس الدفء من نورها وقربها. كانت بين حضنه بغتة وبدون إذن مسبق توحد ضربات قلبهما، تمسكت أناملها بياقة منامته وقالت بهمس: -تميم بطل جنان، أحنا مش في بيتنا.

اقترب منها حد تولى أنفاس مهمة القبل بدلًا من شفتيه. شرعت يداه بالتنقل بحُرية فوق شمسه الدافئة دومًا وقال بنبرة مبطنة بالسخرية والهيام: -مرة نوران بره، مرة تقولي تميم أحنا مش في بيتنا. مرة لازم انزل المستشفى. وأنا فين من كل ده؟

تحولت يديها منكمشة فوق صدره لِعناق لطيف وكأنها رفعت يديها مستسلمة ومتنازلة عن جميع أسلحة منعه. سند جبهته فوق جبهتها فامتزجت الأنفاس وتوحدت الرؤية فكل منهما لا يرى إلا ملاذه بوجه الآخر. بادر ببسيل من القُبلات الخفيفة وكأنه يمهد لعاصفة عاتية. ذابت شمس في حضن قمرها مستسلمة، ومستمتعة بمذاق الحُب الشهي الذي يروي قلوبهما المتعطشة. كل منهما يعرف طريقه جيدًا في اسعاد قلب الأخر. فهو لا يميل إلا لكل ما هو حنون، كذكريات أمه والقهوة ويديها، فكان حضنها ملجأه الأمان دومًا. أما عنها فكان يغمرها بقسوته التي تستمد منها القوة لجسدها الهشم، فيتسلل لداخلها شعور الأمان كمن يعانق سورًا حديدياً، فجأة تتحول جميعُ الأشياء ناعمة على قلبك بجوار مَن تُحب. تراجع الجسدان بمهلٍ للوراء حتى لمست ساقيها ذلك التخت. جلست فوقه ببطء متبعًا جميع خطواتها بآهات ملتاعة تعكس تلك المشاعر المحترقة. افترق الجسدان المتخدران بسُكر حبهما لبرهة تمنحه الفرصة لتحرر من كل ما يعيق لقائهم، ولكن بعض المشاعر كُتب عليها ألا تَكتمل ؛ صوت مضطرب وخائف يبنعث من أمام باب غُرفته:.

-الحق يا تميم بيه.
كمن سكب دلو مثلج فوق جسده وهو يقول نادمًا وهو يتناول سترته: -أنا لو كنت عارف أن سيدة هنا مكنتش عملت حاجة. قومي ياشمس، قومي، حاسس أني متجوزك مع سيده.
بنيرانه فتح الباب وهو يعض على شفتيه: -هلحق أيه ياسيدة! دا انا عايز ال يلحقني منك.
بنبرتها المرتعدة أخبرته: -عاصي بيه اضرب بالنار قُدام المستشفى. الحق أخوك بيموت.
حاول استيعاب ما ترويه حتى تسائلة مذهولاً: -ازاي يعني؟ عاصي!

بالمشفى.
وخاصة بغُرفة عالية وهي تتناول وجبتها جبرًا إثر إلحاح مراد الذي هتف قائلًا: -عالية الأكل ده كله لازم يخلص. يلا.
تمنعت بإصرار ممزوج المزاح: -مراد ؛ بجد مفيش حد بيفطر فراخ مشوية. حرام عليك.
-أنتِ والدة ولازم تتغذي كويس. كملي دي بس.

تلاقت أعينهم المغمورة بأسمى أنواع الحب وألطفها. حيث غيرت محور الحديث متسائلة: -كان يجي لك نوم وأحنا بعيد عنك! طيب مش بيجي في بالك الحمل تابعني أد أيه ومحتاجة حضنك عشان يهون عليا الرحلة!
ثم أغرورقت عينيها بالعبرات: -قسيت عليا أوي يا مراد.

خربشت بأهدابها المبتلة من كثرة الدموع فوق قلبه. فهز رأسه متفهمًا: -عالية أنت كنت متراقب، وكمان عمري ما كنت هسامح نفسي لو جرالك حاجة ومعرفتش أحميكي. التهديدات كانت بتوصل لبيتنا. كان لازم أبعدك عني عشان اشتت تركيزهم. ومفيش غير عاصي اللي هيعرف يحميكي.

ثم مال إلى كفوفها ليغمرهما بقبلات إعتذاره وقال: -وعد مني مش هبعد عنك أبدًا، وهعوضك أنتِ وغالية عن كل الأيام ال كنت فيها بعيد. أنا ماليش غيركم دلوقتِ، سامحوني عشان نعرف نكمل.
ردت بنبرة حنونة يحاوطها الغفران: -أنا عمري ما عرفت أزعل منك. بس بفضفض، بسألك بس.

ابتلعت غصة أوجاعها وقالت مغيرة مجرى الحوار: -هما فين لحد دلوقتِ محدش جيه منهم، وكمان مامي لسه موصلتش! دي وحشتني أوي. تعرف كانت تيجي كام ساعة كل اسبوعين وتمشي مابلحقش أشبع منها.
هنا وصلت سوزان التي قطعت المسافات كي تكون مع ابنتها. فتحت الباب بدون استئذان وارتمت في حضنها وهي ترحب بسلامتها. غمر الشوق قلب الأم وابنتها ولكن جاء اتصال تميم لمراد ليخبره بحذر وهو يركض مغادرًا البيت برفقة يونس ورشيد:.

-مراد، عاصي اضرب بالنار عندك قدام المستشفى. بلاش عالية تاخد بالها، روحلهم وأنا جاي في الطريق.
وثبت مراد مفزوعًا وبدون أي مقدمات غادر الغرفة بعجل كل لا تلاحظ زوجته سبب تعكر ملامحه فينفضح سرهم…
ألقت شمس آخر أوامرها على مسامع اختها: -أنتِ وكريم خليكم هنا عشان البنات، البنات ميحسوش بحاجة يا نوران. وأنا هروح أقف مع حياه.
ثم نظرت لسيدة بعجلٍ: -يلا بينا يا سيدة…

جاء كريم راكضًا من أعلى وهو يقفل في أزرار قميصه ملهوفًا حتى وقف أمام نوران متسائلًا: -حصل أمتى الكلام ده؟ وعاصي أخباره أيه؟
هزت كتفيها بعجز عن جاوبها: -معرفش معرفش أيه حاجة يا كريم. أنا قلبي واجعني أوي وخايفة يحصله حاجة، دي حياة تروح فيها.
انتهى من قفل أزرار قميصه وقال بحماس: -أنا هروح لهم. متتحركيش من البيت.

تشبثت ف ذراعه قائلة بتوسل: -شمس قالت نقعد مع البنات. وأنا بجد خايفة، كريم متمشيش، متروحش مكان خليك هنا. خليك هنا معايا.
ثم تأرجحت عينيها بتوجس وهي تعاتب الظروف: -كريم، كل الكوارث ال بتحصل دي عشان بس قررنا نتخطب!
قرر أن يهون صعوبة الموقف عليها وهو يدنو منها مداعبًا تلك الخصلة المتدلية من شعرها وقال: -لو انطبقت السما على الأرض. بردو هنتجوز، الكوارث معاكِ تهون يا نوري.

ضربته برفقٍ على كتفه بضحكة متفجرة من جُب حزنها: -خف نحنحة، الراجل بيموت فالمستشفى.
عودة للمشفى.
أنتِ كالبحر وأنا المُبحر بِك وفيكِ والغريق
أهم جملة قيلت من قلبه عندما أخبرته يومًا بأنها تود العودة للكتابة من جديد، ولكنها طلبت مساعدته في أول جملة يمكنها أن تفتتح بها قصة جديدة، جملة تخصهم وتصفهم لأنها حتمًا ستكون عنهما.

يجلس أمام مقعد القيادة الخاص ب يخته حيث استند على عجلة القيادة بعد ما طافت عينيه بالماء والسماء ثم رست عند عينيها المصبوغة بلون البحر والسماء. وثبت من مكانه والهواء يطاير قميصه كما تفعل عيناها بقلبه، وأمعن نظر بتلك الأعين التي آسرته وقال:
– أنا المبحر بكِ وفيكِ والغريق.
أنت مزيج رسيلي وبحري.
فيكِ الفرات والأجاج.
وأن أحبك قبيلة من معشر الرجال.
فلن يحبوكِ إلا نقطة من بحري.

رمقته بانبهار يتقاذف من مُقلتيها: -أيه الجمال ده! أنتَ اتعلمت الشعر فين!
-من عينيكِ، ال لو شافهم أكبر شاعر؛ صدقيني هيفضل يكتب عنهم لحد ما يموت.

رست أناملها فوق وجهه المحترق من لهيب الشمس أم الحب ؛ أيهما أقرب. وقالت: -لما بمسك القلم واكتب بحس أني أقوى واحدة ف الدنيا، واحدة مفيش مخلوق ممكن يغلبها في الحوار. لكن وأنا واقفة قصادك كل الكلام بيهرب مني، ويتخلى عني. اللحظة دي بس عرفت إنه مش بيهرب، هو بيعجز قدام وصف حُبي ليك.

بصرخة وجع يضاهي ألف طلق ولادة وألفي حرق بالنار تكورت حياة الجالسة أرضًا أمام غرفة العمليات حول نفسها كالقرفصاء. بانتفاضة روح وانهيار قلب فكيف سيكون حال الجسد الذي يحوى جملة تلك المشاعر القاتلة.
لاحظ مراد حالة الانهيار التي تدق على أبواب تلك المسكينة فجثا على ركبتيه متفوهًا بهدوء: -حياة مش هينفع كده، أجمدي. عاصي هيبقى كويس.

لم تتكفل بالنظر إليه بل فضلت البقاء في ظلمتها، وبقاء وجهها مدفونًا بين ركبتيها، يأس مراد من حالتها ولكن تعلق ببريق الأمل عندما جاءت شمس بصحبة تميم وأخواتها.
جلست شمس بجوارها وضمتها إلى صدرها وأخذت تربت على كتفها بحنان زاخر. تدخل تميم متسائلًا بصخب: -أيه اللي حصل يا حياة ومين عمل كده!
تدخل مراد وسحبه بهدوء بعيدًا عنهم وقال: -اهدى مش وقته، نطمن بس على أخوك وكله هيتحل. أنا عارف مين ال عمل كده.

-مين يا مراد؟
عودة لشمس التي تحاول بشتى الطرق أن تواسي تلك المسكينة التي تتساقط قواها شيئا فشيئا. حاولت أن تخرجها عن صمتها:
-طيب حبيبتي اتكلمي، بلاش تسكتي، طلعي كل ال جواكي. السكوت ده غلط عليكِ.
رفعت وجهها الشاحب ببطء وهي تطالعها بضباب عينيها: -كنت بتحامى فيه من شدة الصوت يا شمس، معرفش أن الرصاصة في جسمه هو.
سيدة مواسية: -هيبقى زي الفل ياحبيبتي اهدي.

أمسكت بقلبها وهي تكمل سرد الحادث المروع وترى بقايا دمه بيدها: -كنت. كنت في حضنه من دقايق. ودلوقتِ بقيت ما بينا حيطان وفواصل وأوضة عمليات. شمس أنا مش هعرف أعيش من بعده، انا، أنا اصلا حاسة أن هيجرالي حاجة.
ضمتها شمس مرة آخرى وأخذت تربت على كتفها بحنو ؛ تهامست مقترحة: -طيب أيه رايك قومي معايا نتوضى ونصلي وندعي له، هو محتاج دعواتنا دلوقتِ. قومي معايا يلا.

كتائه في الضباب يبحث عن شعاع واحد للنور فلم، اتكأت على المقعد الحديدي المجاور لها ومستندة بكوعها على شمس وما انتصب طولها اختل اتزانها ف خرت ساقطة مغشيًا عليها ؛ صرحت شمس مستغيثة: -الحقيني يا سيدة، تميم تعالى بسرعة.
ركض الجميع ل تلك الفتاة المحبة التي غاب عنها وعيها لمجرد تخيلها لفكرة غياب طيف عشقها عن عالمها، نزع رشيد سترته السوداء وانحنى ليحمل أخته جاهرًا: -فين الدكتور ال هنا.

ركض يونس خلف أخته المُغيبة، هتفت شمس بخوف: -انا هروح اشوفها، خليك هنا مع عاصي…
مرت قرابة الساعة وأصعب ساعة على الجميع ؛ خرجت شمس من الغرفة التي حُجزت بها حياة في الطابق الأخر متجهة للطابق الخاص بالعمليات وهي تنزع الماسك الطبي عن وجهها متسائلة:
-مفيش أخبار عن عاصي!
أجابها مراد: -احتاجوا نقل دم والحمد لله عينته كانت متوفرة فالمستشفى. بس لسه الدكتور مخرجش.
ثم تدخل تميم متسائلًا: -حياة عاملة ايه!

أجابت بحزن وخيم: -للاسف طلعت حامل و ضغطها واطي جدًا وحالتها النفسية صعبة أوي، والدكتور رفض يديها أي مهدئات قبل استشارة طبيب مختص. والقلق والتوتر غلط على حملها. علقوا لها محاليل ودكتور النسا جوة معاها.
ثم ضرب الدوار رأس شمس من شدة الإرهاق فاستندت على زوجها بضعفٍ، تلقاها بلهفة وهو يساعدها ف الجلوس فوق المقعد: -حبيبتي ارتاحي. هنزل أجيبلك عصير.
-لا أنا تمام، شوية إرهاق بس، نطمن على عاصي بس.

في تلك الأثناء ؛ خرج الطبيب من غرفة العمليات، فأقبل الجميع نحوه بلهفة، فتفوه الطبيب قائلًا: -الحمد لله اتكتب له عمر جديد، الرصاص كانت على بُعد لا يذكر من العمود الفقري، بس ربنا ستر والعملية عدت على خير.
تدخل تميم متسائلًا بلهفة على أخيه: -يعني مفيش خطر على حياته يا دكتور! هيبقى كويس.
-إن شاء الله…
بغُرفة عالية.

تجلس سوزان حاملة حفيدتها بين يديها وتلاعبها، تراودها تلك المشاعر الممزوجة بين حملها لصغيرتها التي لم تراها بعد ذلك الحضن، وتلك الملاك الصغير الذي يحمل ملامح امه الرقيقة. أرفت عالية بقلق: -ماما هو مراد اختفى فين، ده له ساعتين مختفي.
ردت سوزان بصوت خفيض كي لا يزعج ملاكها النائم: -آكيد سابنا على راحتنا، دلوقتِ يجي.
تمتمت عالية بقلق: -ربنا يستر، قلبي مش مطمن. مامي حضرتك كُنت تعرفي ال بيعملوا مراد.؟

أطرقت سوزان بأسف: -كنت عارفة ياحبيبتي، وخبيت لمصلحتك، حياة البزنيس مطحنة مابترحمش، بنتحول فيها 180 درجة، لازم نتخلى عن اي عواطف ومشاعر عشان نكمل. أنا فاهمة عاصي ومراد عملوا كده ليه، وأن دا الصح. بكرة لما تنزلي سوق الشغل وتشوفي الديابة ال مستنياكِ هتعرفي هما عملوا كده ليه، مش قسوة منهم، بس خوف عليكِ.

فكرت طويلًا في حديث أمها وأدركت أن ما حدث كان بدافع خوفهم عليها. تجردت من أحزانها وقالت: -عارفة لما صحيت بالليل ومالقتش غيره معايا، حسيت أن فعلا ملناش غير بعض. مراد دنيته مع مامته وأهله مش أحسن حاجة، ف بلاش ازود عليه الحمل مش كدا.
ربتت الأم على ساق ابنتها وقالت بإعجاب: -عين العقل يا حبيبتي، هو ده الكلام الصح.
تأرجحت عيني عالية بحرج وقالت: -مامي، ممكن اسال سؤال، بس لو هيضايقك بلاش تجاوبي؟

-قولي يا قلبي.
بللت حلقها بتردد ثم سألتها: -حضرتك لسه بتحبي عاصي؟ أنا كل مرة بشوف نظراتك وطريقة كلامك عنه، حتى التسهيلات في شغله ال بتساعديه فيها طول الوقت، ده اسمه ايه!

اتسعت ابتسامة الخزى من وجهها وأخذت نفسًا طويلًا يعني أن الحديث لمس جزءًا عميقًا بروحها وقالت: -أنا حبيت عاصي، مش هنكر. فرق السن ما بينا مش كبير على فكرة متتخضيش، وحاولت كتير نتجوز، ويكون معايا راجل زيه يملا حياتي وننجح سوا، وعبلة كانت تتمادى في إقناعي بده. لكن لما رجعتِ لي ومليتي عليا حياتي، قلبي استغنى عن كل المشاعر مقابل وجودك.

مش هكذب وأقولك مش بحبه، بس اقتعنت أن عمره ما هيكون ليا، هو مع ال اختارها قلبه…
أشفقت عالية على حال أمها ووجع قلبها وقالت: -حبيبتي يا مامي، أنت تستاهلي أعظم راجل في الدنيا يحبك وتحبيه وأنا واثقة إنك هتتقابلوا قريب.
-أنا اكتفيت بيكم ياحبيبتي، وبغالية خلاص، هعيش معاها الباقي من عمري وأعيش لها كل المشاعر ال اتحرمت منها فيكي.
مساءً.
-عاصي اضرب بالنار، أنتوا ورا المصيبة دي؟

خرجت شيرين من غُرفتها بعد معرفتها من كمال مساعد عاصي الشخصي ب خبر إصابته ؛ قفلت مكالمتها معه فجأة وخرجت منفجرة بأبيها وعمها، هاتفة بآخر جُملة، وثبت سميرة من مجلسها واقتربت منها مندهشة:
-ازاي الكلام ده؟ لا طبعا أبوكي وعمك ملهمش دخل!
ثم نظرت لزوجها بأعين تتوسل له أن ينفي ما حدث: -مش كده يا شاهين.

تبادل كل. من شاهين وشاكر النظرات الحائرة التي تعكس جهلهم بما وقع على ابن أخيهم. لم تملهم شيرين الفرصة لتبرئة أنفسهم بل صاحت معاتبة:
-ليه تعملوا كدا! مفكرتوش في بناته هيبقوا من غير أب وأم، طيب مش بعتلكم كمال وسابلكم إدارة شركة الشرقية! أنتوا ازاي تعملوا كده في حد من لحمكم ازاي.

استند شاهين على عكازه ليواجه ابنته قائلًا: -كله إلا الدم يا بنتي، أنا وعمك مش قتاليين قتلى، وغير كده موت عاصي من حياته مش هيعود علينا بحاجة.
اقتربت منه بأعينها الدامية من أثر البكاء: -أومال مين؟ مين له مصلحة في موته غيركم!

تدخل شاكر ليحسم حلقة الاتهامات الدائرة حوله وحول أخيه: -انتِ فاكرة واحد زي عاصي ده ملهوش أعداء غيرنا، دا ألف واحد مستني موته النهاردة قبل بكرة. إحنا منعرفش حاجة عنه غير منك دلوقتِ.
فأكمل شاهين متبرئًا من دم ابن أخيه: -أنا عن نفسي صفحتي اتقفلت مع ابن اخويا وراجع البلد ادير ارضي. أخويا شاكر لو عايز يكمل في العداوة يكمل، يكمل بعيد عني.

اقتربت شيرين من أبيها مكررة سؤالها للمرة الأخيرة: -يعني يا بابا حضرتك بعيد عن ال حصل لعاصي مش كده! طيب لو كده فعلاً يبقى روح واطمن عليه وانهوا العداوة دي بقا. عشان خاطرنا يابابا، أنتَ ماخلفتش ولد نتسند عليه أنا وشهد، على الأقل يبقى لنا أولاد عم نلجألهم في أي وقت…
تدخل شاكر معترضًا: -ده جنان رسمي…
يبدو أن سميرة اقتنعت بحديث ابنتها، ثم أردفت قائلة: -بنتك عندها حق يا شاهين…
بالمشفى.

يسلني الليل ياا قمري
تغيب حبيبي عن نظري
يسلني فتفيض دموعي
في فطري ونسيم السحر.

تجلس فوق فراشها الطبي بمنتصف تلك الغرفة الكئيبة لم تكُف عن البكاء بعد، لكل منا نقاط ضعف مهما بلغت قوتنا. هناك نقطة نقف عندها نرى فيها كم خلق الانسان هشًا. هشًا جدًا. كان السبيل الوحيد لمواساتها صغارها المختبئون بجوفها من وحشة هذا العالم، بكفها المُعلق بإبرة المحلول الطبي، تجهش باكية لا حول ولا قوة لقلبها المنفطر عليه، سالت دموع عينيها وهي تتنتفض وتشكو همها لصغارها:.

-أنا مش قادرة اتخيل يعني أنا وأنتوا كُنا بنودعه إمبارح، أنا قلبي كان حاسس، حاسس أن في حاجة هتحصل له وهو كمان كان حاسس. يا ترى هو عامل أيه دلوقتِ. فعلًا كويس زي ما شمس بتقول، ولا بتصبرني.

صمتت لبرهة كي تعطي المجال لعينيها أن تخر دموع حزنها وأكملت بنفس النبرة الوهنة المنهارة: -محدش مهون عليا غيركم، أنا مش هقدر أخسر كل حاجة مرة واحدة. أنتوا أمانة عاصي عندي لازم أحافظ عليها. سامحني يا حبيبي مش عارفة أبقى جمبك، بس أنت آكيد حاسس بقلبي.

أعلم أن كل منا يسكنُ الآخر مهما حالَ بيننا كلَ شيء، ولكن اليوم أنا عارية تمامًا، متجردة من كل شيء، بتُ فريسة للخوف، ابحث عنك بأعين تائه شريد، كل شيء يرعبني حتى نسيم البحر غاز قاتل بدونك يخنقني. أين أنتَ؟ وأين حضنك الذي يحميني من هذا الشعور الحارق.؟ أين الطريق إليك!
‏دلني أرجوك. كأنك تدلُّ قمرًا تائهًا إلى مداره.

أو كطائر مُهاجر إِلى بلاده. دلني كعبد عاصٍ إلى إيمانه. دل قلبي الشريد وروحي الضائعة كضياع ليل طويل إلى شمس نهاره!
أدركت أن جميع الأشياء الجميلة، فجمالها الحقيقي وجودك. لا جمال بدونك ولا لروح روح في غيابك…
جاءت شمس حاملة بعض السندوتشات ل حياة كي تسترد قوتها، ببسمة لطيفة أردفت: -الله! اسيبك شوية أرجع ألقاكي بتعيطي بردو؟ أحنا مش اتفقنا عشان ولادك يا حبيبتي!

ودت بضعف: -مش قادرة يا شمس، طمنيني عاصي فاق ولا لسه، هتجنن وأشوفه، حتى أبص عليه من بعيد بس.
جلست شمس بجوارها، ومددت لها الخبر المحشو: -طيب عشان خاطري كلي ده، وأنا هشوف الدكتور وأخدك ونروح، بس كلي عشان صحتك والحمل، أنتوا محتاجين تغذية.
ردت بشهقة المستغيث: -اطمن عليه بس وأنا والله هاكل. بس اطمن عليه يا شمس…
بغُرفة عاصي.

بعد مرور أكثر من 12 ساعة على عمليته حرك عاصي جفون مغمغمًا بكلمات غير مفهومة. اقترب منه تميم بلهفة:
-عاصي أنتَ كويس. متقلقش العملية عدت على خير وأنتَ كويس. اطمن.
تنهد بصوت متهدج بالكلل: -حياة فين يا تميم.؟
هبط تميم لمستواه وربت على كفه ليطمئنه: -اطمن حياة زي الفل، ونزلت تتعشى مع شمس. شوية وهتلاقيها داخلة علينا.

ارتفعت عيناه المكسورة معترضًا حديث تميم: -تميم حياة فين؟ حياة جرالها حاجة؟ هي مستحيل تسيبني وتروح لمكان، مراتي فين يا تميم.
ربت تميم على كتفه: -طيب أهدى وهفهمك! حياة كويسة وشمس معاها، زي ما قولت لك شوية وهتلاقيها داخلة علينا.
تمتم بصوت متقطعم وهو يكرر سؤاله: -مراتي حامل، حياة والولاد حصلهم حاجة، قولي يا تميم!

-والله حياة والحمل كمان زي الفل، أنت بس روق كده وخلي بالك من نفسك عشان ترجع لنا في أسرع وقت يابطل.

في تلك اللحظة لم تستطع شمس منع حياة من المجيء إليه وكأن هناك اتصال روحي بقلوبهم، ظهرت شمس من الباب ثم تابعتها حياة المحملة بالحزن الوخيم، عند رؤيتها جفونه المتحركة دفعت شمس دون الالتفات لحمل الاثنان. تناسي الجميع ولم يبقى ألا هو مقصدها ووجهتها. اندفعت بكلها وبكل ما تحمله من مآسي نحوه. جلست على طرف تخته انهارت فوق كفه السليم متجنبة ناحية كتفه المُصاب، عدد لا نهائي من القُبلات كانت من نصيب كفه. قبلات ممزوجه بالحب والبكاء. غمغم بصوت خافت وهو يشعر بارتعاش جسدها: -حياة أهدي أنا كويس.

نظرت شمس لتميم بقلة حيلة: -مقدرتش أمنعها.
رفعت وجهها المحمرة إليه وهي تتفقده بأعين أعمي عاد له بصره للتو: -في حاجة بتوجعك. طمني عليك، أنا كنت هتجنن من الخوف. روحي كانت بتروح وراك.
واصلت سيل القُبلات المنهمر منها لكفه ثم عادت مرة آخرى تهذى: -بعد الشر عليك يا روح قلبي وعقلي وحياتي كلها. اتكلم معايا، قول لي كده حاسس بأيه. طمن قلبي يا نور عيني.

لكز تميم شمس واعظًا بهمس: -ياللي ما عمرك قولتِ لي يا نور عيني دي! ولا هو الواحد لازم يضرب برصاصة عشان يشوف الشحتفة دي.
لكزته بحذر: -بس بقا، ملناش دعوة.
مدت كفها المُعلق بها إبرة الكانولا لتتحسس درجة حرارته فلم يكفيها ذلك بل مالت بشدقيها وقبلت جبينه قبلة طويلة وبعدها تدلت على كل عين من عينيه وقبلتهما بتأنٍ. أوقفها قائلًا عندما لاحظ الضماد الطبي بكفها:
-أيه ال في أيدك ده! أنت كويسة؟

تدخلت شمس موضحة: -حياة ضغطها وطي بس من القلق عليك، والدكتور علق لها محاليل. مفيش حاجة تقلق.
تدخلت حياة مواصلة: -شوفتك بقيت كويسة والله. قولي لي أعمل لك. مرتاح، قاعد كويس.
لم تمهله فرصة للتعبير بل شردت بعيناه قائلة: -انا اتكتب لي عمر جديد بشوفتك، تعرف ولادك في بطني هما ال صبروني لولاهم كنت روحت فيها والله.
مال تميم على آذان شمس هامسًا: -هي حامل في كام واحد؟ سامع كلمة ولادك دي كتير!

تمتمت بحرص وبصوت خفيض: -حامل في تؤام، واسكت بقا. أقولك تعالى نطلع بره أنت مش هتسكت أصلا.
غمغم متعجبًا وفارحًا لأخيه: -ماشاء الله، ابقى فكريني نسمي بعد كده، يمكن تلضم معانا زيهم كده.
-وده وقته!
سمعه عاصي المتعب وقال بخفوت ممزوج بسُعال خفيف قاصدًا تميم: -نهدأ بقا عشان في عين ديناصور هو سبب رقدتي دي.

تدخل تميم مبررًا بضحك: -أبدًا والله، دانا بقولها نسمي ونصلي بس عشان متتحسدوش. أنا بردو أحسدك! دانا هبقى عم لأربع عيال مرة واحدة!
تمتم بضحك هدر مبطن بالالم: -خدي جوزك وأطلعوا يا شمس دا شكلو ناوي يرقدني هنا.
أردف تميم معترضًا: -ونخرج ليه! خلي ال جبل الجليد يتعلم. أوعدك مش هنعمل صوت.

نفذ صبرها من مزاحه المتكرر فبعدت عنه لتقترب من حياة النائمة على صدره: -حياة كفاية بقا، عاصي لسه جرحة مفتوح، قومي ارتاحي شوية.
ربت على كتفها: -حياتي.
ردت بلهفة وعفوية: – نور عيني.
-اسمعي كلام شمس.
قال جملته وهو يقبل أطراف أناملها ف تلاقت عيني تميم وشمس الضاحكة، رفضت بإصرار: -لا مستحيل أنا مش هتحرك من هنا وأسيبه. لا.

ثم توسلت له قائلة: -عشان خاطري خليني معاك. أنا مش هقدر أبعد. اطلب مني أي حاجة غير أني اسيبك.

بعد مرور خمسة عشر يوم
خرج عاصي من المشفى وقضى اسبوع كامل تحت رعاية حياة التي كانت ترعاه كطفل صغير ليست برجل يافع مثله. عاد تميم وأسرته إلى القاهرة ليباشر عمله من جديد. وأيضًا عادت عالية بعد ما اطمئنت على سلامة أخيها لبيت أمها التي اتفقت مع مراد أنهمها سيعيشان فيه بقية عمرهما. شرع كريم ونوران في إعداد حفل خطوبتهما بعد قبوله لجميع شروط شمس المتعسفة ورفضها التام للزواج إلا بعد عاميين.

أجرت هدير عمليتها الأخيرة ومازالت تحت وطأة العلاج الطبيعي بأكبر المستشفيات التي تولى مراد مصاريفها بالكامل…
في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس جاءت حياة حاملة صندوق الإسعافات الأولية وجلست أمامه على الأريكه المبطنة التي يجلس عليها متكئًا على مسندها. ربتت على ساقه بحنان:
-حبيبي نغير على الجرح!
رد عاصي بملل من تلك الأجواء: -بقيت كويس حياة، كفاية تعبتك. ارتاحي أنتِ.

شرعت في فك أزرار منامته السوداء متجاهلة مجاملاته الغير منطقية وقالت بحزم: -كل يوم هنتخانق على الغيار زي العيال الصغيرة وبردو كلامي أنا اللي بيمشي!
ثم وضعت سبابتها فوق ثغره متدللة: -أنتَ ما بتزهقش!
-أنا زهقت من حاجة واحدة بس، وهي قعدتي دي وكمان حاسس نفسي متكتف.
ف طوقت يمينه خصرها وأكمل بكلل وشوق يحركه بعفوية: -وضيفي عليهم كمان أن مراتي وحشتني أوي.

برقت له محذرة: -بلاش الحركات دي، كتفك أهم. وبعدين نشوف حوار مراتك وحشتك ده، عشان أنت كمان وحشتها أوي.
تأرجحت عينيه بلوم وهو يسحبها إليه لتقترب من أكثر فأكثر: -أيه مفيش أحساس خالص، معقولة مش حاسة بيا؟ ليه الجحود ده؟
جحظت عينيها بحزم: -عاصي وبعدين بقا؟
ثم غيرت مجرى الحديث قائلة بفرحة: -النهاردة بدأت في الشهر التالت. كده باقي 6 شهور بالظبط ونشوف ولادنا. بجد متحمسة أوي.

انتهت من فك أزرار سترته ثم شرعت في نزعها ببطء وحذر شديد، برزت أمامها تفاصيل جسده الرياضي فأحس بارتباكها وتعمدها بألا تناظره، كادت أن تنهض جواره ولكنه أبى، فأعترضت منزعجة: -عاصي! الجرح.
ضاقت ملامحه وقال: -وأنتِ لازم تقومي من حضني عشان تغيري، خليك كده وشوفي شغلك.
بد الاعتراض بملامحها ووثبت رافضة اقتراحه: -ازاي يعني؟ بطل بقا الحركات دي، قولتلك لا.

تأهبت في تضميد جرحه برقة الفراشه حتى أردفت فارحه: -الجرح لم كتير عن الأول.
ثم ختمت جملتها بقبلة طويلة جوار موضع ألمه فعلت بقلبه ما لم يفعله معادٍ، وأكملت مهمتها حتى فرغت تمامًا بوضع الشريط اللاصق فوقه. نزعت الجوارب الطبية وأثناء انشغالها بلملمة الادوات باغتها بشدة قويه لتتوسط ساقه المثنية فوق الأريكة والأخرى ممتدة بالأرض. شهقة معاتبة: -عاصي راعي إني حامل!
-وراعي أني على أخري!

أخذت يداه تتنقل بحرية تامة فوق ظهرها محاولًا ترويض قطته الشقية. غمغمت بإعتراض محب: -أنا خايفة عليك يا عاصي. نعدي الفترة دي على خير بس.
داعب أنفها بأنفه بلطف قائلًا: -بس أنا بقيت كويس على فكرة. وهثبت لك.
-لا يا عاصي، كتفك!
شرع في نثر عبير اشتياقه فوق ملامحها الأبية التي لانت تدريجيا وهو يتمتم: -سيبك من كتفي وركزي معايا.

بدأت أنفاسها في الصعود والهبوط متخدرة بسطو مشاعرهما التي طال صبرها. حاوطت كفوفها وجهه وهي تهوى شيئا فشيئا في بحر هواه الذي نصبه. ترنحت بجملة معارضة لمشاعرها الغارقة: -عاصي هتتعب والجرح عشان خاطري بلاش.
ثم فارقته فراق ليست بهين على قلبها المتوق له ومددت كفوفها قائلة بتوسل: -قوم ننام كفاية سهر، أحنا مطبقين من إمبارح.

عض على شفتيه السفلية ووثب قائمًا بمساعدة كفيها، إلى أن سنحت له الفرصة فجذبها لحضنه ليلتقى النجمان لقاءً حارًا لا مثيل له وكأن بقربها ردت الحياة بفؤاده، أخيرًا باتت ملاكه بين يديه ساعيًا لتبديل الكاف لذال.

مرت قرابة نصف ساعة من سحر القمر المحوط بقلبهما حتى استكانت حرائق قلبها القلقة عليه لأيام كثيرة. مررت أناملها على وجهه متنهدة أخيرًا بارتياح لأن حبيبها بجانبها، معبرة عن شعورها: -كُنت واحشني جدًا. ووحشني كل ليلة أنام في حضنك كده زي البنت الصغيرة المتشعبطة في حضن باباها.
-طيب وأيه لازمتها المقاوحة من الأول!
-خوف عليك بس. أنتَ تمام، كتفك فيه ألم أو اي حاجة! أنت كويس يعني؟

انفجر ضاحكًا لتذكره أمرًا ما ثار فضولها: -الله! بتضحك ليه.
-أصلي اتسألت السؤال ده للمرة التلاتين في نص ساعة بس.
ثم مال على مسامعها هامسًا بشيء ما ثار حمرة الخجل بوجهها لضربته برفق فوق صدره ليكف عن مزاحه: -بس بقا. عيب.
لم يكف عن الضحك بل أكمل قائلًا بسخرية يمتزج معها الدهاء: -يعني المفروض أنا اللي أسأل سؤال زي ده، الجواب عندك أنتِ يا هانم!

شعرت ببرودة الخجل تأكل بملامح وجهها ثم قالت بجزع يبطنه الضحك: -بطل بقا. أقولك، أنا هسيبك وأنام.
هز كتفها برفقٍ شديد وهو يسألها متعجبًا: -مش المفروض كبرنا على كسوف وخجل كل مرة ده! أنتِ بتتحولي ليه!
ظلت أناملها تتحرك بخفه وبحركات دائرية فوق صدره العاري وقالت بتوجس: -مش عارفة. بكون معاك واحدة مغيبة، مش أنا. وبعد ما يرجعي عقلي افضل أقول هو أيه اللي حصل!
-أنا مش عايز عقلك ده يعتب باب الأوضة دي. فاهمة.

رفعت رأسها مستنده فوق صدره على ذقنها وقالت: -لا مش فاهمة. فهمني!
-عايزك ب قلبك وبس.
أرسلت له قُبلة طائرة في الهواء وهمست له: -بحبك على فكرة.
ثم عادت لتستريح على سياج صدره مرة ثانية وسألته: -مسكوا ال عمل فيك كده ولا لسه.
رد باختصار: -هيتمسك هيروح فين يعني!
أردفت بنبرة لا تقبل الجدال: -طبعا مفيش خروج من الباب ده لحد ما يتمسك، فاهمني. وده أمر مني أنا وولادك.

عقد حاجبيه بدهاء غير مقتنع ولكنه أراد أن تمضي خلوتهم بسلام: -ال تقوليه أنتِ وولادي سيف على رقبتي.
-أيوة كده!
ثم أوصته قائلة: -عاصي بليز متتحركش ولو احتجت ميه صحيني أجيبلك. أنت تمام مش كده مش محتاج مني أي حاجة!
ابتسامة جميلة على محياه وهي بين يديه: -انا تمام أوي.
ثم تثاوبت بإرهاق: -أنا خلاص مش قادرة ولازم انام. صحيني هااه في أي وقت.

ربت على كتفها العاري بحنو مفرط ملبيًا لجميع طلباتها. ظلت بحضنه حوالي ساعة من هناء الحياة. كل منهما يأمن بالآخر. طالع ساعة هاتفه فوجدها السادسة صباحًا. سحب نفسه بحرص شديد كي لا تيقظ. وبخطوات متهملة دخل الحمام ليأخذ حمامه الدافئ ثم خرج بعدها بهدوء شديد وفتح خزانة ملابسه، ارتدى بذلته السوداء بحذر وتجنب رش عطره كي لا يفيق قلبها. أخذ هاتفه بهدوء ثم غادر الغرفة على الفور.

استقل سيارته السوداء من ماركة مرسيدس وما أن استراح في جلسته أخبر السائق قائلًا: -أطلع على المطار يا بني…
ثلاثة ساعات بالضبط ؛ كان عاصي جالسًا بالنيابة بعد تقديمه طلبًا ل رؤية عادل وعزمي. يجلس بشموخ واضعًا ساق الأخرى وبفظاظة قال ساخرًا:
-البدلة البيضا هتأكل منكم حتة.
أردف عادل بسخط: -عايز ايه يا عاصي؟ وجاي عشان تشمت مش كده! بس أحب أقولك إني مش مطول هنا، مسألة وقت بس وخارج.

ضرب على ساقه برفق ثم قال بهيبة: -بس أنا هنا عشان أعرفكم أن رصاصتكم فشلت في ال انتوا عايزينه!
ثم أطلق ضحكة ساخرة: -بقا يا أغبية لما تحبوا تخلصوا من واحد، تضربوه بالنار قدام مستشفى؟ حقيقي مشفق عليكم.

وفجأة تحول الدب الساخر لوحش كاسر وهو يركل الطاولة بقدمه ويزمجر مهددًا: -الرصاصة ال في كتفي دي، هحتسبها رد اعتبار، اللي عملته فيكم بردو مش سهل، لكن ورب العزة لو اتكررت ولا ألاعيبكم القذرة دي فكرت بس تطول حد أهل بيتي. ما هرحم حد منكم أنتوا وأهلكم. هحسركوا على عيالكم واحد واحد.

ثم مال ليزرع عينيه الحاحظة بوجه عزمي: -لازم تعرف أن مراتك وعيالك تحت أيدي، حركة غدر واحدة هتسمع خبرهم، ده غير حبايبي ال جوه السجن وكلهم يتمنوا يخدموا، وأنتَ أكتر واحد عارف عاصي دويدار ما بيهددش، بينفذ…

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *