رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن والعشرون والأخير
الزمان: بعد مرور عامين.
جلس ألبرت في الحديقة منزله الخلفية الخاصة بمنزله بعد أن أخرج علبة الدخان من جيب بنطاله خلسةً ثم راح يشعل السيجارة بسرعة ليسحب أول نفس منها بنهم، . نفث الدخان من فمه بارتياح وقد شعر بإحساس لا يوصف وهو يدخن سيجارة بعد انقطاع أيام عن التدخين. شعر بحركة أحدهم حوله فأسرع برمي السيجارة وإطفائها بحذائه. اقترب ليوناردو عندئذ وجلس على الكرسي الذي يقابله فزفر ألبرت أنفاسه التي حبسها بارتياح ثم نظر نحو ليوناردو بانزعاج ليقول معاتبًا:.
«لقد أرعبتني، متى ستتعلم أن تصدر بعض الضجيج قبل أن أراك أمام وجهي؟»
ابتسم ليوناردو ثم راح يطالع ذقن ألبرت التي برزت قليلًا ثم قال ساخرًا:
– منذ متى لم تحلق ذقنك؟ أمنذ أن أقلعت عن التدخين؟
– نعم، وسأحلقها اليوم، أتعلم ماذا؟ سأخرج علبة الدخان أمامك وأدخن سيجارة ولن أخشى شيئًا.
قال ألبرت وهو يخرج علبة سجائره ويلتقط سيجارة ويشعلها بسرعة.
«أنا أعرف أنك لا تهتم لأمري ولا تخشاني، ولكن أنيا أعرف جيدًا من تخشى أن يعرف أنك تدخن الآن. ».
امتعضت تعابير وجه ألبرت وبدا عليه الذعر والخوف ليقول بكلمات غير واضحة والسيجارة ما زالت بين شفتيه: «سأدخن سيجارة واحدة فقط، واصنع لي معروفًا ولا تخبرها. ».
انفجر ليوناردو يضحك وهو يستمع إلى ألبرت الذي نظر إليه نظرات ترجٍي يطلب منه بها أن لا يفصح عن ما رأى.
«لا أعرف ما الذي جعلني أتزوج بعد كل تلك السنوات التي قضيتها حرًّا دون أن أجد من ينغص على حياتي السعيدة». قال ألبرت بأسلوب درامي مضحك فجعل ليوناردو ينظر نحوه باستنكار رافعًا كلا حاجبيه بسخرية.
«ماذا؟ حياتك السعيدة؟». رفع إبهامه في وجه ألبرت ثم قال مبتسمًا: «انتبه إلى كلامك جيدًا وعن من تتحدث».
شاركه ألبرت الابتسام ثم قال:
«حسنًا حسنًا، نسيت». صمت قليلًا ثم أتبع بعد فترة: «أخبرني، ما الأخبار؟ هل وصلوا إلى قرار بخصوص الحكم؟».
استند ليوناردو على ظهر كرسيه وهو يقول:.
«لقد اجتمع الناس وقرروا برغبة من الغالبية العظمى بتعيين شخص مسؤول عن كل منطقة لتنظيم الأمور، ولكن حتى مع تعيينه مسؤولًا فهذا لا يعطيه حق اتخاذ القرارات، بل سيختارون مجموعات من الشعب لمناقشة القرارات المهمة واتخاذها بالإجماع من الغالبية. »
أومأ ألبرت وهو يستمع إلى ليوناردو برضاى ثم تنهد وهو يقول:.
«من كان يظن أن الحال سيصبح هكذا بغضون عامين؟ إنه أمرٌ غير متوقع. ما زلت أذكر غروب شمس ذلك اليوم العصيب. »
«ومن يستطيع نسيانه؟». قال ليوناردو بنبرة هادئة وهو يحدق بنباتات الحديقة بشرود.
لقد أضافت تلك الذكرى شيئًا من الكآبة على الأجواء، فقد أراد الجميع دومًا نسيان الماضي إلا أنهم لم يفلحوا بنسيانه في جميع الأوقات.
«كان كابوس الحرب يلاحق الجميع، وما إن استقرت الأوضاع قليلًا بعد عزل فيكتوريا حتى داهمنا هجوم من جوزيف وجنوده، وهذا ما سبب بعضد التفكك لدى الضباط والحراس. لا أعرف حقًّا ما نوع عقل ذلك الرجل! هل ظن نفسه بقوة فيكتوريا؟».
ابتسم ليوناردو ساخرًا ثم قال: «أو ربما ظن أن الساحة قد أصبحت خالية وأنه بجنونه باستطاعته تحقيق ما لم تحققه فيكتوريا. ».
بعد مرور عدة شهور على استقرار الحال في كوكب جليزا داهمهم هجوم جوزيف وقد شتت كيان جميع السكان الذين كانوا يعتقدون أن السلام سيحل أخيرًا، ولكن كانت مقاومة جنود جوزيف أضعف مما تخيلوا واستطاعوا التخلص من جوزيف بسهولة وضمه إلى الحكام الذين استُبعِدوا نهائيًا. يذكر تمامًا حالة الرعب التي حلت على السكان وأعادت إليهم كابوس الاستعباد من جديد، كانت فترةً عصيبة لا تختلف كثيرًا عن الفترة التي اقتحمت فيها فيكتوريا كوكب الأرض.
حل الصمت بينهما فبقيت أصوات زقزقة العصافير تحتل الأجواء حتى قطع ألبرت ذلك الصمت وقال:
«لم أسألك منذ مدة، هل سمعت أخبارًا من جنيفر عن مستجدات علاج فيكتوريا في مصحة الأمراض العقلية والنفسية؟»
تنهد ليوناردو محاولًا التخفيف من مكنون صدره نتيجة تذكره عدة أمور كان يتناساها ثم أجاب:.
«لو كان لدي أخبار لأخبرتك، لم أعد أسألها عن والدتها بعد أن لاحظت أن الأمر يسبب لها الحزن ويصيبها بالاكتئاب. لقد طلب مني وليم بكل ود ألا أسألها من جديد ولم أعد أفعل». صمت قليلًا ثم أردف: «آخر ما سمعته هو أنها ما زالت تخضع لجلسات العلاج وقد أخبرني وليم سرًّا أنها لم تكن بحالة جيدة آخر مرة زارتها جنيفر، لم يستوعب عقلها حتى الآن أنها لم تعد الملكة ذات النفوذ وصرخت في وجه ابنتها بجنون».
«لا أظنها ستتعالج أبدًا». قال ألبرت ساخرًا وما لبثت أن ظهرت على وجهه ابتسامة: «لا أعرف ما الذي يجعل جنيفر تتعاطف معها حتى يومنا هذا، لقد كادت تدمر حياتنا بل ودمرت حياة الكثيرين و، ».
قاطعه ليوناردو بشيء من الانزعاج ثم نظر نحوه وهو يقول: «ولكنها والدتها في النهاية يا ألبرت. ».
نظر ألبرت نحوه باستنكار ثم قال: «لا تكن عاطفيًا ليو، هذه ليست أمًّا بل شيطانة تمشي على الأرض، لقد دبرت كل المكائد لتجعل ابنتها تعيسة مدة عقدين من حياتها، بل وما زالت تعيش مع ما خُلّف من هذا الحزن حتى يومنا هذا، وتقول لي والدتها؟ ومن حقها أن تبقى حزينة من أجلها؟ ومن يقول هذا؟ أنت يا ليو! أنسيت أنك واحدٌ من أولئك المتضررين؟ أنسيت فيوليت وما عانيته حقًّا؟».
بتر ليوناردو جملة ألبرت مرة ثانية بعد أن لاحظ انفعاله أكثر وبعد أن بدأ التحدث عن فيوليت وهو ما لم يرد أن يسمعه كثيرًا:.
«لا أريد الدخول في التفاصيل، لسنا نحاكمها الآن وأنا لا أبرئها من جرائمها وأفعالها التي تضرر منها الكثيرون بل وتعذبوا بسببها أيضًا، ولكن ألبرت، أتنكر كلام الطبيب النفسي عنها؟ ألم تسمع ما قاله حول كونها تعاني من مرض نفسي منذ الطفولة؟ كيف بإمكاننا أن نحاسب شخصًا يعاني من مرض نفسي دفعه لأن يكون على هذا الشكل من الوحشية؟ إن كان يجب علينا محاكمة أحد فعلينا محاكمة والديها اللذين زرعا في عقلها الأفكار المجنونة التي ظلت تحملها سنوات، والتي جعلتها تعاني من مرض نفسي منذ الطفولة. ».
كان أسلوب ليوناردو المنفعل سببًا لجعل ألبرت يبتسم ساخرًا وهو يقول:.
«لا أصدق أنك أصبحت تتكلم كالمثقفين والأطباء الذين حولوا القضية بأثرها إلى حكام يعانون من أمراض نفسية! حتى جوزيف اتضح أنه يعاني من مرض نفسي، بل ومصاب بالجنون ويُعالج الآن في المصحة نفسها. يا للسخرية! بدل أن نحاكمهم على شناعة جرائهم نعالجهم بل ونتعاطف معهم أيضًا! هل أنت مقتنع بما تقول عزيزي ليو؟ إجرام جوزيف الذي جعلك تعيش في عذاب يصنف على أنه مرض يجب معالجته. الوحيدون الذين كانوا سليمين عقليًا وجسديًا هم مسؤولو كوكب الأرض، ولو كان غير ذلك لجننت أنا أيضًا».
«لقد مر كل شيء ولا فائدة من نبش الماضي». قال ليوناردو باستسلام وقد خلفت تلك الجملة بعض الآلام في قلبه، إلا أنها الحقيقة التي حاول إقناع نفسه بها طوال العامين الماضيين.
«لا أفهمك ولا أفهم ماذا يدور في عقلك». قال ألبرت وهو يخرج سيجارة من علبة السجائر وما إن أشعلها ووضعها في فمه حتى سمع صوتًا يناديه من بعيد.
ارتعد ألبرت وسارع بإخراج السيجارة من بين شفتيه ثم رماها وأطفأها بحذائه وراح يلوح بيده في الهواء محاولًا إبعاد الرائحة وقد انفجر ليوناردو ضاحكًا وهو يراقبه.
اقتربت امرأة في منتصف العقد الرابع من عمرها وقد كانت ترتدي مئزر المطبخ وتحته فستانٌ طويل، وقد غطت جزءًا من شعرها الكستنائي بقماش أحمر.
نظرت نحو ألبرت بتعابير وجه مكشرة غاضبة ثم قالت بنبرة حادة:
«ألبرت، لا أصدقك». اتسعت عيناها فجأة ثم بدأت تشتم رائحة المكان حولها، وقفت أمام ألبرت لتضع كلتا يديها حول خصرها بينما ظهرت معالم الارتباك على وجه ألبرت.
«كنت تدخن، صحيح؟ لا داعي للإنكار فأنا أشم رائحة الدخان». ارتفعت نبرة صوتها وهي تصرخ مكملة: «لقد أخبرتك عشرات المرات أن عليك الامتناع عن التدخين، إلى متى ستبقى هكذا بتصرفاتك الطائشة؟ أنت لم تعد مراهقًا طائشًا يعيش كما يحلو له».
«ليتني بقيت كذلك». همس ألبرت بصوت حاول أن يكون غير مسموع ولكن زوجته قد سمعته وصرخت قائلة:
«ماذا قلت؟».
تنحنح ألبرت ثم قال وهو يبتسم:
«لم أقل شيئًا عزيزتي». صمت قليلًا ثم عقد حاجبيه بانزعاج وهو يقول: «أعني أن ليوناردو هو السبب، هو من جعلني أنفعل وبالتالي جعلني أرغب بالتدخين بشدة، لم أستطع التحكم بنفسي، صدقيني».
«أنت دائمًا هكذا، تتحجج بليوناردو. لا تضع ابني سببًا لعللك الخاصة». قالت إيلين ثم ابتسمت عندما نظرت نحو وجه ليوناردو حال إنهائها لجملتها.
«أنت دائمًا تدللين ابنك على حسابي، ليتك تمنحين تلك الابتسامة لي يومًا. ».
لم تستطع إيلين أن تكتم ضحكتها وهي تستمع إلى ألبرت ثم قالت محاولة تصنع الانزعاج:
«أنت تفسد ابني بجلوسك معه. ».
حدق ألبرت نحوها باستنكار ثم قال:
– ماذا؟ ما الذي تقولينه؟ ألا تعرفين ما فعلت من أجل ابنك هذا أم تحبين أن أروي لك القصة من جديد؟ ولكنك دومًا هكذا، لا عجب، دائمًا ما ترغبين بانكار أهميتي.
– لقد أضجرتني من الحديث عن نفسك، كف عن التباهي! لقد حفظت أسطواناتك المكررة.
نهض ليوناردو من مكانه ثم قال مبتسمًا وهو ينظر إلى والدته وألبرت:
«يبدو أن موعد شجاركما اليومي قد حل، لذا اسمحا لي بالمغادرة لأمنحكما الحرية الكاملة بإكمال شجاركما. ».
اقتربت إيلين من ليوناردو ثم بدأت تدفعه إلى كرسيه وهي تقول:
«لا عزيزي، لا تغادر، أنا ذاهبة على أي حال فلدي بعض الأعمال في المطبخ، ابق أنت جالسًا واستمتع بهذا النهار المشمس. ».
نظرت إيلين إلى ألبرت وهي تغير تعابير وجهها إلى تعابير مكشرة ومنزعجة، نفضت الخرقفوطة التي حملتها بيدها في الهواء ثم قالت:
«لو كنت تهتم لأمر ليوناردو لساعدتني على الأقل في تحضير الغداء». نظرت نحو ليوناردو ثم أتبعت وهي تبتسم: «بمناسبة قدوم عروس ابني وعائلتها لتناول الغداء معنا، اليوم سيقررون اليوم موعد الزفاف. ».
كانت بهجة إيلين واضحة وهي تقول كلماتها الأخيرة، وقد كانت التحضيرات لزفاف ابنها تجعلها في قمة الفرح والسعادة، لم تكن تريد أكثر من هذا في حياتها بل ولم تكن تصدق أنها ستشهد هذا اليوم. كان كل شيء كالحلم الجميل الذي يستحيل تصديقه.
مشت إيلين بعيدًا متجهةً إلى المطبخ وحالما وما إن ابتعدت قليلًا حتى نظر ألبرت إلى ليوناردو ثم قال مبتسمًا:
«ما زالت بحاجة إلى بعض جلسات العلاج النفسي».
أجابه ليوناردو ساخرًا: «وكأنك لست من كان يتلهف لإنهاء جلسات العلاج. ».
«أشعر أن وقتًا طويلًا قد مر، من كان يصدق أنك ستجد والدتك حقًّا؟ لقد أوشكت على التصديق أنها ماتت حتى حصل الجرد الأخير في كوكب جليزا عندما نقل جميع السكان إلى كوكب الأرض. ».
أكمل ليوناردو قبل أن يتابع ألبرت حديثه:
«لقد وجدوها داخل سجون فيكتوريا». ابتسم وهو يتابع حديثه: «لم أكن أتوقع أن فيكتوريا قد تصدق في وعودها حتى مرة واحدة في حياتها».
«لقد فعلت هذا لأنها أرادت استحكامك وليس لأن قلبها كبير. ».
اكتفى ليوناردو بالإيماء برأسه.
كان لقاء والدته وإيجادها أخيرًا حلمًا لم يتوقع تحقيقه أبدًا، ولكنها لم تخرج بكامل صحتها من السجون التي حبست بها مدة عشرين عامًا، وهذا ما جعلها تعاني من مشاكل نفسية استطاعت أن تتجاوزها بسرعة، لم ينس صراخها عندما حاول الاقتراب منها عندما لم تكن بكامل وعيها العقلي. لم يكن من السهل عليه إقامة علاقة جيدة كم أراد مع والدته بدايةً ولم يستطع حتى توطيد العلاقة السابقة؛ فلم تكن هي في أحسن حال ولم تكن قادرةً حتى على التعرف عليه. ساعده ألبرت كثيرًا في تلك الفترة فقد وقف إلى جانبه في محاولة التغلب على الإحباط الذي أصابه، كان يحكي لوالدته عما فعله من أجلها رغم أنه كان يخاف من الحديث، استطاعت والدته أن تبصره بعيني ألبرت وبعد مرور عام كامل وجد ألبرت نفسه يعترف لها بحبها، كان ألبرت قد عرف عنها الكثير من كلام ليوناردو عنها طيلة فترة معرفته، وشعوره بالأبوة تجاه ليوناردو دفعه أكثر إلى حب إيلين وبعدئذ تقدم للزواج منها. كانت إيلين ترفض فكرة الزواج بسبب الترسبات النفسية التي خلفتها التجارب السابقة، كان الشيء الوحيد الذي جعل ليوناردو يكره والده هو ما خلفه في نفس والدته رغم سماعه القصة الكاملة من جنيفر، وأن والده كان مضطرًا لفعل ما فعله. حكت له والدته كامل القصة وأخبرته كم انكسرت وتألمت عندما تخلى والده عنها ببساطة، ورغم تعاطفه الشديد مع والدته حاول أن يبرر موقف والده وأن يروي لها كامل القصة حتى تستطيع نسيان ما حدث أو ربما مسامحة والده، إلا أن أمه أخبرته أن سنوات العذاب التي عاشتها تركتها عاجزةً عن مسامحته مدى الحياة لأنه تركها في فترة كانت فيها في أمسّ الحاجة له. اكتشف أن والدته كانت تحيا للسبب نفسه الذي كان يحيا من أجله طيلة السنوات الماضية.
«هل ما زالت إرورا ترغب بترشيح نفسها للانضمام إلى مجلس الشعب؟». سأل ألبرت ليوناردو الذي كان شاردًا.
– نعم، هي ترغب بالانضمام وتعرف أنها تحب أن يكون لها صوت مسموع.
– ولماذا لا تنضم أنت أيضًا؟ تعلم أن لك سمعة جيدة كالتي تملكها إرورا.
ابتسم ليوناردو ثم قال وهو يرمق ألبرت:
– كان يجب أن تنصح نفسك، تعرف أن لك تأثيرًا كبيرًا على معظم السكان.
– أنا في آواخر عقدي الرابع، هل تريديني أن انضم إلى مجلس الشعب الآن؟
نظر ليوناردو نحوه باستنكار ثم قال:
«لا تخترع حججًا واهية، أنت لم تنضم لأنك لا ترغب بذلك، وليس لأنك أصبحت عجوزًا».
«أنا لست عجوزًا». قال ألبرت متصنعًا تعابير الانزعاج ثم أتبع مبتسمًا: «وأنت لا ترغب أيضًا، وللسبب نفسه الذي لا أرغب من أجله أيضًا».
كان ليوناردو يعرف تمامًا لماذا لا يرغب ألبرت أن ينضم إلى مجلس الشعب؛ كان ذلك لأنه يرغب أن يكون بعيدًا عن كل شيء يخص الحكم والسياسة لأنه يكرههما وبشدة، رغم أنه كان سياسيًّا حرض للانقلاب وساعد الضباط والحراس وكل من تعاون مع الحكومة من قبل كثيرًا على التحرر من العبودية، وذلك ما كان يسعى إليه منذ البداية، الحرية فقط. شاركه ليوناردو نفس الرأي نفسه ولكن رغبته أن يبقى شخصًا محايدًا بعيدًا عن ضجيج الناس هو السبب الأول لعدم رغبته بذلك، ومن ثم كرهه لأمور الحكم كما هو الحال مع ألبرت.
«تعرف ما يدور في عقلي وتسألني متظاهرًا أنك تجهل كل شيء». قال ليوناردو مبتسمًا.
– لا أستطيع تفويت متعة سؤالك.
– ألبرت…
قال ليوناردو بعد صمت طويل فجأة ثم أتبع متلعثمًا بتردد: «هل تعتقد أن ترددي بسبب قرب موعد زواجي بإرورا شيء طبيعي؟».
حدق ألبرت به دون أن يجيب فلم يعلم حقًّا كيف يمكنه معالجة حالة ليوناردو الصعبة، فحاول أن يتصرف بشكل طبيعي وهو يحول نظراته إلى نظرات مستنكرة:
«لا تقل لي أنك ما زلت مترددًا، أو بالأحرى أنك تشعر بالذنب. ».
تنهد ليوناردو بانزعاج ثم قال:
«أخاف أن يكون زواجي منها هو سبب كونها شقيقة فيوليت بل وتوأمها المتطابق، أخاف عندما أنظر إليها أن أرى صورة فيوليت، أخاف من كون عقلي يعتقد أنها فيوليت. ».
صمت ألبرت قليلًا وهو في حالة من الصدمة فلم يتوقع أن يبقى تأثير فيوليت عليه حتى بعد مرور وقت على انتهاء الأمر واستقرار الأمور.
«كل هذا لأنك تشعر بالذنب وهذا سبب رؤيتك لإرورا على أنها فيوليت، ما زلت تعتقد أنك السبب في موتها وهذا ما يجعلك تعيش في هذا الكابوس. تعرف تمامًا أنك قد أخبرت إرورا بالحقيقة وأنها تعاطفت معك بعد معرفة موقفك، رغم حزنها في البداية بسبب ما فعلته لاستدراج فيوليت ومن ثم معرفتنا بالحقيقة الأهم، وهذا ما جعل الجميع يدرك أن الخطأ الأول والمسبب الرئيسي لموت فيوليت هو دخولها إلى كوكب الأرض منذ أكثر من عقدين، فقد فتح ثقبًا من الغلاف العازل المحيط بكوكب الأرض وهذا ما جعل الكرة الكريستالية تستمد طاقة أكبر منها، وليس الهراء الذي قاله علماء مخبر فيكتوريا عن حالتها النفسية وهذا ما وجدناه في الكتاب. كون المولود الذي سيفك شفرة الكرة الكريستالية توأم كان ليسهل عملية فيكتوريا كثيرًا لأن الكرة الكريستالية عندئذ كانت ستستمد نصف الطاقة من كل توأم فقط، وسيحيا كلاهما غالبا، ولكن فيكتوريا كانت أغبى من أن تهتم بقراءة كتاب فيه ثرثرات كثيرة مكونة من ثلاثمئة صفحة».
بقي سبب تمكن المركبة الفضائية التي حملت فيوليت عندما كانت طفلة من الدخول لغزًا عجزت فيكتوريا عن حله، إلا أنها كانت لتجد الإجابة في الكتاب الذي وجد داخل الصندوق. كان بإمكان المولود دخول كوكب الأرض في المركبة الفضائية ولكن كان هذا ليترك ثقبًا فقط في الغلاف العازل لا أكثر، وفي حالة التوأمين فستستطيع الكرة الكريستالية الحصول على طاقة أكبر من المولود الذي دخل كوكب الأرض، وهذا سيسب خللًا وسيسب أضرارًا أكبر حتى في حالة وجود مولود واحد، وقد كان هذا التحذير موجودًا في الكتاب إلا أن فيكتوريا لم تنتبه له أبدًا.
لم يجبه ليوناردو بشيء، هو يدرك أن الحقيقة هكذا وأن فيوليت كانت لتموت في جميع الحالات ولكنه لم يتخلص ولو مرة من تأنيب ضميره. تشارك مع إرورا في الكثير من الأشياء وأحب شجاعتها وكونها مختلفة عن بقية الفتيات، كيف لا؟ وقد كانت الوحيدة التي تربت في معسكرات التدريب الشبابية. كانت إرورا تعيش حالة من الحزن العميق بعد أن انتهت الحرب خاصةً بعد وفاة توماس الذي كان بالنسبة لها صديقًا عزيزًا، وقد قالت له ذات مرة أنه يشبه وليم الذي لم تعش معه في طفولتها. ما زالت تتحدث عن مسابقات الرماية التي كانا يقيمانها وأنها كانت تهزمه دومًا، رغم أنها تتحدث عن الذكرى وهي تضحك من أعماق قلبها إلا أنه يلمح عينيها الدامعتين عندما تنتهي. كانت تشعر بالذنب تجاه توماس كما يشعر هو بالذنب تجاه فيوليت وذلك لأنها منعته من العيش بسلام كما أراد دومًا. أخبرته عن شجاراتهما بخصوص هذه الأمور و أنه كان يرغب بالوقوف جانبها دومًا، وكونه من الضحايا القلائل في الحرب ظلت تؤلمها كثيرًا. بدأ هو أيضًا يحكي لها عن بعض المواقف بينه وبين فيوليت وانتهى بهما الحال هكذا، تفهمهما لمعاناة ومشاعر بعضهما بعضًا وطد العلاقة بينهما كثيرًا وقد أخبرته إرورا عن كل ما حدث عندما أنقذت حياته من بين يدي جوزيف. أحب عفويتها وصدقها وحتى حزنها الدفين. كانت أيضا متألمة لرحيل شقيقتها فيوليت رغم أنها لم تعرفها سوى في لحظاتها الأخيرة، ولم تعرف السبب حتى قرأت عن الرابطة التي تجمع كل توأمين وقد أقرت أنها كانت تشعر بمشاعر غريبة لا مصدر لها في الماضي. كلاهما كان بحاجة لمن ينتشله من الظلام الدامس.
«لا تجعل تلك الأوهام تفسد عليك حياتك ليو، صدقني، أنت تحب إرورا بصدق ولم يكن بينك وبين فيوليت سوى مشاعر ذنب وشفقة. لقد رحلت فيوليت منذ زمن وأشرقت شمس يوم جديد وعادت الحياة إلى طبيعتها، تشرق شمس يوم وتغيب، حتى والدتها تحاول عيش حياتها ونسيان ألمها لأن الحياة هكذا ببساطة لا تمنحنا كل ما نرغب به ويجب أن نستمر ونعيش ونحلم أيضًا.
لقد عشت من العذاب ما هو كاف جدًّا للتكفير عن ذنبك إن كنت حقًّا قد أذنبت، أعطِ لنفسك فرصة العيش بسعادة. أنا نادمٌ جدًّا لأنني أضعت سنوات شبابي بشعور الذنب الواهي ولكنني وجدت السعادة مع والدتك ومعك، تلك السعادة التي وجب على البحث عنها منذ زمن طويل. لا تضع سنوات شبابك أبدًا كما فعلت أنا بسبب لعنة الانتقام والتي لم تشبع تعطشي حتى مع قتل برنالد، بل زادت اللهيب المشتعل في قلبي أكثر. ».
كان لكلمات ألبرت صدى عميق في نفس ليوناردو، وقد ظل يحاول حقًّا أن يعيش حياته وأن ينسى ما حدث كونه حدثًا عابرًا، وحياة سابقة أجبرته على أن يوقع بضحية تشبهه، ورغم كل شيء هو يستحق عيش حياة سعيدة بعد مرور سنوات طويلة من الألم والعذاب.
تمت
التعليقات