التخطي إلى المحتوى

                                    

بقلب ممزق وروح تائهة، يقف أدهم في مقدمة صفوف العزاء، يتلقى التعازي بصمتٍ وجمود، وعلى يمينه آسر، ثم محمود، ثم خالد. مشاعر الحزن تكسو ملامحه، ورغم محاولاته لإخفاء الألم، كان واضحًا للجميع أن روحه قد انكسرت بفقدان ندى.

+

بعد أن تلاشت كل الآمال في حل لغز ذلك الحادث الغامض، وتوقفت التحقيقات دون أدلة كافية لإثبات أن الحادث كان بفعل فاعل، استقرت الاستنتاجات على أنه مجرد انفجار عَرَضي، سببه ارتفاع حرارة “الريداتير” مما أدى إلى سخونة المحرك وانفجاره. حتى هاتفها لم يحمل أي دليل يوصلهم إلى شيء. فندى، بأوامر صارمة من العصابة، كانت تمحو الرسائل وسجلات المكالمات أولاً بأول.

+

الخيمة كانت مكتظة بالمعزين من مختلف فئات ومراتب الشرطة والجيش، في لحظة مهيبة يجتمع فيها الألم والحزن والمواساة.

+

وبين الحضور ظهر معتصم الذي ما ان علم بالخبر حتى أصر على أداء الواجب رغم ما بينه و بين ادهم من خلافات.

عند دخوله لم يُبدِ أدهم أي رد فعل، فلا مكان للجدال أو الانفعال وسط هذه الدوامة من الحزن، جلس معتصم عدة دقائق يستمع لآيات القرآن، ثم نهض ليصافح أدهم ويغادر.

+

خرج معتصم من الخيمة وأخذ يسير بعيداً عن الضوضاء قليلاً، وما إن بدأ يتنفس هواء الليل الهادئ حتى لحق به خالد، يناديه بصوت خافت:

ـــ “معتصم بيه، لو تكرمت ممكن تديني رقم تليفونك؟ في موضوع مهم حابب أكلم حضرتك فيه بس الوقت مش مناسب دلوقتي.”

+

أومأ معتصم دون تردد، مستخرجاً بطاقة مدون عليها اسمه وأرقام هواتفه، وسلمها لخالد الذي نظر إليها بتمعن.

بينما كان خالد يقرأ البطاقة، ركضت وفاء الخادمة نحوهما، وجهها يشي بالقلق، وقالت بنبرة متوترة: 

ـــ “دكتور خالد، الدكتورة ريم جاتلها الحالة و مش قادرة تتنفس… تعال الحقها بسرعة.”

+

تجمدت ملامح معتصم للحظة، قبل أن تتسارع دقات قلبه.

ورغم تحفزه للركض نحوها، حاول تمالك نفسه قدر المستطاع، بينما خالد عقد حاجبيه بدهشة: 

ـــ “حالة إيه؟ مش فاهم…”

+

لم يحتمل معتصم تردده، فصاح به بحدة:

ـــ “Panic attack… انت لسة هتسأل؟!”

+

نظر له خالد نظرة متفحصة، كمن يحاول فك شفرة الكلمات… من أين يعرف معتصم بهذه النوبات التي تصيب ريم، وهو زوجها ولم يكن على علم بها؟ أدرك معتصم الحيرة التي تعتري خالد، فوضع يده على كتفه بقوة، كأنه يدفعه دفعاً نحو خيمة النساء، وقال بصوت واثق مليء بالإصرار: 

ـــ “اتحرك، ما فيش وقت للشرح!”

+

نفض عن عقله استغرابه و واصل طريقه الى خيمة النساء ركضا، و لم يستطع معتصم منع نفسه من الذهاب خلفه لكي يطمئن عليها، فقلبه لن يهدأ طالما أنه عرف بتدهور حالتها.. 

دخل خالد الى زوجته مسرعا بينما بقي معتصم بالخارج يراقب المشهد، حيث كانت ريم متشحة بالملابس السوداء و تتنفس بوتيرة عالية و دموعها منحدرة بغزارة من فرط صدمتها مما حدث لندى، كانت تحتضن جسدها بذراعيها لعلها تهدأ و لكن بلا جدوى، و حين وصل لها خالد احتضنها بحب وافر فهو بالطبع طبيب و يعلم أن احتضانها سيجعل شعور الأمان يتسلل إليها مما يرفع من هرمون السيروتونين و تعود لحالتها الطبيعية رويدا رويدا.. 

حين احتضنها خالد ازداد بكائها أكثر و كأنه قد أثقل حزنها و ذكرها بقرار كم ندمت عليه، الا و هو زواجها به.. 

الأمر الذي جعل قلب معتصم ينشطر لنصفين، يدرك جيدا أنها تحتاجه هو دون غيره… هو فقط من يستطيع تخليصها من تلك النوبة المزعجة.. 

تنهد بعدما تسلل إليه شعورا بالعجز، فقد عزَّ عليه أن يراها تتحمل كل هذا الضغط، و لكن لحظة… هناك شخصا آخر يستطيع انقاذها من تلك النوبة.. 

أسرع بالعودة الى خيمة الرجال ليقترب من أدهم يهمس في أذنه: 

ـــ أدهم بيه يا ريت تروح تهدي ريم… نوبة الهلع جاتلها و خالد مش عارف يتصرف معاها… 

لم تكن دهشة ادهم بأقل من خالد… يتسائل بداخله من أين يعلم بتلك النوبة التي تأتيها؟!.. هل كانت ريم تحبه لدرجة أنها أفصحت له عما ينتابها من تغيرات نفسية؟! 

+

              

أدرك معتصم ما يدور في خُلد أدهم من خلال نظرة الشك التي أرسلها له، فقال بجدية بعدما رمش بأهدابه: 

ـــ متستغربش… انا كنت عارف بظروفها النفسية.. بس مش وقت شرح و توضيح دلوقتي.. يا ريت تروحلها قبل ما تفقد وعيها. 

هز رأسه بتفهم ثم اوصى محمود بتلقي التعازي لحين عودته.. 

بقي معتصم ينظر في أثره بتأثر، ثم اطمئن قليلا بعدما تأكد أنها ستكون بخير بين أحضان توأم روحها أدهم و استدار مغادرا عائدا الى بيته… 

+

استطاع أدهم بحضنه الدافئ الحاني أن ينتزع شقيقته الصغرى و التي هي بمثابة ابنته من تلك الحالة السيئة حتى هدأت و استكانت بعدما همس لها ببعض الكلمات الحانية، بينما كان خالد يراقبهما بمشاعر مختلطة ما بين الدهشة و الضيق في ذات الوقت، لأنه لم يستطع أن يصل بها الى تلك المرحلة من السكينة على اعتباره زوجها و أقرب الناس إليها.. 

+

انتهى العزاء أخيراً و اختفت الأصوات ليعم السكون ليل أدهم الحزين… 

تلك الليلة قضاها في غرفة ندى جالسا بمنتصف الفراش متجهم الملامح بعدما أخذ منه الحزن مأخذه.. 

كانت عيناه تدوران في أركان الغرفة، تتفحص كل قطعة بها، فهنا ضحكت معه.. و هناك عاتبته.. قرأت معه ذلك الكتاب.. و ارتدت أمامه تلك المنامة.. نام بجوارها على هذا الفراش.. و جلسا سويا على تلك الأريكة.. 

مازالت رائحتها العبقة عالقة بكل ما بالغرفة… لم يعد يتحمل… قلبه يوشك على الانفجار.. يا الله كيف سيتحمل العيش بدونها.. فشعور الفقدان من أصعب ما قد يمر بالمرء..

+

في صباح اليوم التالي، اقتحمت نرمين مكتب معتصم كعاصفة هائجة… عيناها تقدحان شررًا، والورقة التي تحمل إفادة نقل الملكية إلى معتصم ترتعش بين يديها.

+

ـــ “إيه اللي انت عملته دا يا حرامي يا نصاب؟! بتسرقني؟! بقى دي أخرتها؟! بعد ما عملت منك بيزنس مان وشهّرتك في وسط رجال الأعمال تسرقني يا فلاااااح!”

+

رفع معتصم بصره إليها بهدوء يشبه السكون الذي يسبق العاصفة، نهض ببطء من كرسيه، يداه تتسللان إلى جيوبه ببرود متعمد، ثم دار حولها كصياد يُطوق فريسته، توقف أمامها وألقى بنبرة باردة كالجليد:

ـــ “امممم… وإيه كمان؟!”

+

اشتعل غضبها كوقود أُلقيت عليه شرارة.

ضربته بقبضتها في صدره وهي تصيح بصوت مرتفع:

ـــ “أنا هفضحك يا معتصم! انت فاكر إنك ممكن تاخد مني أملاكي بالنصباية اللي عملتها دي؟!”

+

لكن صوت معتصم ارتفع فجأة، كصفعة صوتية جعلتها تتراجع خطوتين للخلف:

ـــ “قلم قصاد قلم… ولو عايزة تفضحيني زي ما بتقولي، يبقى فضيحة قصاد فضيحة… أقصد فضايح… يا مدام نرمين.”

+

اهتزت للحظة، وظهرت لمحة من التوتر على ملامحها. لكنها سرعان ما أعادت بناء قناع الثبات، قائلة بسخرية مستترة:

ـــ “انت متقدرش تعمل حاجة… عارف ليه؟! لأنك من غيري ولا حاجة.”

+

ابتسم بسمة ساخرة، ومال قليلاً نحوها قائلاً بصوت أشبه بالهمس:

ـــ “يظهر إنك لسة معرفتنيش بعد السنين دي كلها…”

+

        

          

                

ثم استقام في وقفته، ليحتد صوته بثقة جعلتها تتجمد في مكانها:

ـــ “معتصم البدري مبيتهددش… آه، وعلى فكرة… الجزاء من جنس العمل… والسلاح اللي انتي طعنتيني بيه في قلبي هو نفسه اللي طعنتك بيه.”

+

تسارعت أنفاسها وهي تحاول فك شفرات كلماته، حتى نطق الاسم الذي أسقط عليها الحقيقة كالصاعقة:

ـــ “راغب.”

+

اتسعت عيناها برهبة، بينما استرسل معتصم بمكر وهو يراقب التحول التدريجي لملامحها من الغضب إلى الذهول:

ـــ “راغب هكرلي كل حساباتك… وعن طريقه عرفت شغلك الزبالة اللي كنتي بتعمليه من ورا ضهري لما بسافر البلد…. عمارة الدعارة والشقق المفروشة يا نرمين هانم.”

+

هوت كلمات معتصم كلكمات متتالية، وكادت أن تسقط أرضًا من أثر الصدمة.

ارتعشت يداها وهي تحاول إخفاء خوفها، بينما أكمل بنبرة مليئة بالاشمئزاز:

+

ـــ “أنا معادش يهمني تبقي إنسانة شريفة ولا وسخة… لأن مفيش أي صلة تربطني بيكي… والحمد لله إني طلقتك وطهرت اسمي من دنائتك… بس متفتكريش إني هعديلك اللي عملتيه معايا أنا و ريم بسهولة كده. زي ما دمرتينا، هدمرك يا نرمين… وعايزك بس تفتحي بوقك أو تعترضي… لأني ساعتها مش هسمي عليكي ولا هرحمك… كل أعمالك المشبوهة هبلغ بيها الأمن الوطني، وشوفي مين هيعرف ينجدك… ولا حتى أخوكي اللي فاكر نفسه أبو المفهومية.”

+

علت وتيرة أنفاسها، وأحاطها الخوف كقفص مغلق، كل خطوة خطتها نحو السيطرة تحولت إلى حبل التف حول عنقها… لم تجد أمامها سوى الانكسار، فقالت بصوت مهزوز:

ـــ “والمطلوب؟!”

+

ابتسم معتصم بانتصار، ثم ألقى أوامره بصرامة:

ـــ “تسيبي مصر من بكرة وتسافري لأخوكي، ومشوفش وشك تاني… وأنا عملت بأصلي معاكي وسيبتلك العربية والفيلا… قلبي الطيب قالي حرام تباتي في الشارع وتركبي مواصلات… يا ربة الصون والعفاف.”

+

ألقى عبارته الأخيرة بسخرية لاذعة جعلتها تغلي من الداخل، لكن خوفها كان أقوى من حقدها. 

غادرت المكتب بخطوات متعثرة، وهي تشق الأرض بقدميها وكأنها تحمل على كاهلها جبالاً من الفشل.

+

+

مر يومين مشحونين بالأحزان فقط…. 

+

وقف آسر أمام نافذة غرفته، يتأمل الأفق البعيد بعينين غائمتين… لا يزال صوت صرخة تلك الليلة يتردد في أذنيه، والرجفة التي اجتاحت جسده حين كادت تفقد حياتها أمام عينيه.

+

“مودة…” همس لنفسه بصوت متعب، كأنه يحاول وزن الاسم في قلبه دون جدوى.

+

طُرق الباب برفق، فاستدار ليجد والده يخبره بأن مودة تنتظره بالصالون. 

تفاجئ بمجيئها لبيته بمفردها و لكنه هز رأسه و أومأ لأبيه بعدما تنهد بترقب لذلك اللقاء الذي يخشاه كثيراً بعد لقائهما الأخير. 

دلف الغرفة و ترك بابها مفتوحا، فنظر لها بعمق ليرى ملامحها شاحبة، لكن نظراتها تحاول التماسك… ابتسمت بخجل، ثم قالت:

+

        

          

                

ـــ ممكن نتكلم شوية؟

+

أشار لها بالجلوس، لكنه لم يجلس، بقي واقفًا وكأن الأرض تحته ستنهار.

+

ـــ أنا آسفة على اللي حصل في فرح ريم… ما كانش قصدي أضايقك ولا أضغط عليك.

+

نظر إليها طويلًا، كأنه يحاول فهم تلك الفتاة التي تقف أمامه. شعر بالذنب تجاهها، لكنه أيضًا يعلم جيدًا أن قلبه ليس لها.

+

ـــ مودة… مش كل حاجة في الدنيا بنقدر نتحكم فيها… أحيانًا، بنبقى فاكرين إننا قادرين نغير حاجات، لكن بنكتشف إن كل حاجة في مكانها الصحيح… وأنا مكاني مش جنبك… أنا عارف انك بتحبيني بس آسف مش قادر أبادلك نفس المشاعر

+

اعتصرت جفنيها بألم ثم سألته بنبرة عاتبة: 

+

ـــ ليه يا آسر… ليه بتقول كدا.. 

+

ـــ أنا بقول الحقيقة… إنتي شخص جميل اوي… لكن أنا مش هعرف أكون الشخص اللي بتتمنيه…. ميريهان… كانت هي نصيبي… وأنا مش قادر أغير اللي جوايا.

+

دمعت عيناها لكنها رفضت الاستسلام للحزن، فقالت بنبرة متماسكة:

+

ـــ وإنت عارف إن قلب ميريهان جوانا كلنا، أنا وإنت، وكل حد حبها… يمكن ده اللي يجمعنا بدل ما يفرقنا.

+

ابتسم ابتسامة باهتة، ثم قال بحزم:

+

ـــ يمكن… بس مش دلوقتي…. محتاج أرجع ألاقى نفسي الأول… لو فضلت معاكي.. هنظلم بعض.

+

بقيت مودة صامتة للحظات، ثم أومأت بهدوء، فهمت من كلماته أنه يحتاج وقتًا، وربما مسافة، لكنها لم تستطع منع نفسها من التمني بأنه سيعود يومًا.

+

بعد أن غادرت، جلس آسر على كرسيه، شعر بثقل لا يوصف يجثم على قلبه. أخذ نفسًا عميقًا، ثم همس:

+

ـــ آسف يا مودة… آسف.

+

بعد مرور ستة أشهر…. 

+

كانت الغرفة التي تجلس فيها صافية هادئة، النور يتسلل من نافذة صغيرة ويعكس بريقًا دافئًا على وجهها الذي كان يعبّر عن مزيج من الحزن والإصرار. عائشة كانت بجانبها، تتحدث عن تفاصيل يومها، ولكن صافية كانت غارقة في أفكارها.

+

عائشة: “صافية، بجد، ما شاء الله، كل حاجة فيكي اتغيرت… بقت حركاتك وأسلوبك في الكلام مختلف تمامًا… من أول ما جيتي هنا، حسيت إنك مش هتتغيري…بس الحقيقة ما توقعتش توصلي للمستوى ده.”

+

صافية ابتسمت بخجل، لكن عيناها كانتا تتحدثان عن شيء أعمق.

+

صافية: (بصوت منخفض) “أنا بحاول أكون أفضل… مش عشان نفسي بس، عشان حمد كمان.”

+

عائشة: (مندهشة) “حمد؟!… هو لسة برضو مبيكلمكيش؟! “

+

صافية: (بحزن واضح) “لا… هو مش عايز يكلمني. حاسه إنه بعد عني خالص… وكأني مش موجودة في حياته.”

+

        

          

                

سكتت للحظة، ثم أكملت وهي ترفع نظرها إلى عائشة.

+

صافية:

“أنا عايزة أثبت له إني بقيت جديرة بيه… إني مش زي الأول…انا  اتعلمت حاجات كتير… مش بس عشان يكون عندي ثقافة و شياكة… لا دا كمان عشان أكون الشخص اللي يستحقه… عشان يكون عنده سبب إنه يفتكرني… ويرجع يكلمني تاني.”

+

عائشة كانت تنظر إليها بإعجاب، ثم قالت بحنان:

+

عائشة: “أنا عارفة إنك قويّة يا صافية، وأنك مش هتوقفي لحد هنا…. التغيير اللي عملتيه في حياتك مش سهل، وإنتِ لسه في البداية. بس… لو حمد مش شايف ده… ده مش ذنبك.”

+

صافية: (بلهجة مفعمة بالإصرار)

“لا… لازم يعرف يا أبلة عيشة… لازم يعرف إني بقيت قوية… ومش هاكون تابعة لحد… أنا دلوقتي قادرة أعيش حياة جديدة بس يكون حمد فيها”

+

عائشة:

“وأنا واثقة إنك هتنجحي… لكن، مهم إنك تكوني قوية لنفسك أولًا”

+

صافية أومأت برأسها، لكنها كانت تشعر في داخلها بأن الوقت قد حان لتظهر لحمد، وللعالم كله، أنها لم تعد تلك الفتاة الجاهلة الخجولة التي تركها.

كانت تريد أن تُثبت له، في كل كلمة وفي كل تصرف، أنها جديرة بالحب والتقدير.

+

+

مرت الأيام ثقيلة على ريم، تلك الأيام التي شعرت فيها بالوحدة القاتلة بين جدران بيتها. 

بعد ستة أشهر من التوتر والبرود الذي ساد حياتها الزوجية مع خالد، بدأت تشعر بشيء غريب. 

لم تكن العلاقة بينهما على ما يرام، بل كانت تشبه قطاراً يسير بلا توقف نحو الهاوية. 

خالد كان يراقبها بنظرات مليئة بالقلق، ولكنه لا يعرف كيف يقترب منها. 

كان يحبها، ولكنه كان يعتقد أنها لا تبادله نفس الشعور، فهي دائمًا باردة، دائمًا ما تبتعد عنه حتى أصبح متيقنا من استحالة اكمال طريقهما سويا للنهاية… و ان الانفصال قادم لا محالة… فقد ضاق ذرعا من برودتها في علاقتهما الزوجية. 

+

اكتشفت ريم شيئًا جعل قلبها يقفز من مكانه، شيء كان يطاردها في كل لحظة من الأيام الماضية. 

قررت أن تأخذ اختبار الحمل بعد أن شعرت بشكوك في نفسها طوال الأسبوعين الماضيين. 

كانت تأمل أن يكون هذا مجرد تعب غير مبرر، ولكنها كانت تعرف في أعماقها أنها لا تستطيع تجاهل هذا الشعور بعد الآن.

+

سارعت إلى الحمام، واختبرت ما كانت ترفض التفكير فيه.

حين قرأت النتيجة، كان قلبها يضرب بشكل متسارع… حمل!! 

+

خرجت من الحمام، ولا تزال نظرات الصدمة والتردد تنعكس على وجهها. 

كانت تفكر في كل شيء في لحظة واحدة.

ناداها خالد فلم ترد على الفور، فقد تجلت على وجهها تجاعيد من القلق والخوف.

+

ليخرج اليها يتفقدها… نظر إليها بنظرة خالية من التعبير، لكن عينيه كانتا تتساءلان. 

كان قلبه لا يزال متعلقًا بها رغم كل شيء.

+

        

          

                

“مالك يا ريم؟” سألها بلهجة خافتة، كان يتمنى أن يراها تبتسم، حتى لو كانت الابتسامة تهرب من وجهها.

+

أخذت نفسًا عميقًا، وحدثت نفسها في صمت قبل أن تنطق بالكلمات التي قد تغير كل شيء. “أنا حامل.”

+

في تلك اللحظة، شعر خالد بنبضات قلبه تتسارع، لكن هذه المرة لم يكن ذلك بسبب الخوف أو الحيرة. 

كانت لحظة أمل بالنسبة له، أمل في أن تتغير حياتهما، أمل في أن تعود العلاقة بينهما إلى ما كان يتمنى.

نظر إليها بعينين مليئتين بالسعادة، رغم أنها كانت لا تزال في حالة صدمة.

+

“ريم…” قالها ببطء، وابتسامة بدأت تملأ وجهه. “الحمد لله؟ انا…. هكون أب!!.”

+

لم تستطع ريم ان تتفاعل معه في البداية، لكنها رأت في عينيه شيء مختلف. 

كانت تلك العيون التي تعرفها جيدًا، عيون الرجل الذي أحبها وما زال يحبها رغم كل شيء. 

لم يكن يتوقع أن يتلقى هذه الأخبار بتلك الطريقة، ولكن بدا أن خالد يرى فيها فرصة لإعادة بناء علاقتهما.

+

نظر خالد إليها بتصميم. “انتي لازم تتابعي مع دكتورة نسا….البيبي دا هيكون بداية جديدة بالنسبالنا.”

+

لم تستطع ريم أن تجد كلمات أخرى ترد بها، فالتزمت الصمت. 

بدا خالد وكأن الحياة عادت له بعد أن أضاء الأمل عينيه من جديد.

+

في اليوم التالي 

+

في غرفة الانتظار داخل عيادة الطبيبة، جلست ريم، جسدها مشدود بالقلق، وهي تتنقل بين صفحات هاتفها محاولة تهدئة نفسها. 

كان خالد قد خرج لتوه من الغرفة ليأخذ مكالمة عاجلة، وتركها وحدها، ما جعل التوتر يتسارع في صدرها. كانت نظراتها تتنقل بين الباب والشباك، وعقلها لا يتوقف عن التفكير في الكلمات التي قالها لها بالأمس، عن طفلهما المنتظر، الذي أصبح أملًا بعيدًا، وقد يكون بداية لتغيير جذري في حياتهما.

+

فجأة، فُتح الباب و دخلت عائشة شقيقة معتصم، و وراءها صافية زوجة حمد.

ابتسمت ريم بسعادة لرؤيتهما، وكان واضحًا من ملامحها كم أن اللقاء كان مفرحًا لها.

+

قالت عائشة بصوت دافئ:

ـــ “إزايك يا ريم؟ عاملة ايه  يا حبيبتي؟”

كانت ريم قد بدأت في الابتسام، لكن سرعان ما تحولت ملامحها إلى التردد عندما نظرت إلى صافية التي كانت تحمل ابتسامة مشبعة بالفضول.

ـــ “أنا كويسة… الحمد لله…انتي صافية مرات حمد..مش كدا؟.”

هزت رأسها ببسمة ودودة: 

ـــ ايوة أنا… و انتي الدكتورة ريم.. دكتورة الوحدة في البلد.. 

هزت رأسها ببسمة باهتة، فجلست عائشة على يمينها بينما صافية على يسارها.. 

ـــ خير يا ريم؟!… انتي حامل ولا إيه؟! 

هزت رأسها ببسمة مصطنعة، فابتسمت عائشة بمجاملة و هي تقول: 

ـــ ألف مبروك يا حبيبتي… ربنا يكملك على خير…. أنا كمان حامل في التالت… أخيراً بعد سبع سنين جواز و لف عند الدكاترة ربنا كرمنا الحمد لله.. 

بادلتها ريم الفرحة و دعت لها: 

ـــ الحمد لله يا حبيبتي ربنا يكملك على خير انتي كمان… 

+

        

          

                

أخذت تفرك كفيها بتوتر، تريد أن تسألها عن معتصم.. فقد انقطعت أخباره تماما و لم تراه و لو بالصدفة حتى.. في بادئ الأمر نهرت نفسها لأنها مازالت تذكره، ثم لم تستطع منع لسانها من السؤال..ستسألها فقط لأجل العشرة القديمة بينهم..

ـــ احم…معتصم بيه عامل ايه؟!

تنهدت عائشة بحزن بالغ على شقيقها الذي ترهبن من بعدها لتقول:

ـــ كويس الحمدلله..

ـــ احم..و المدام كويسة؟!

عقدت حاجبيها باستغراب:

ـــ مدام مين؟!..قصدك نرمين؟!

هزت رأسها بايجاب لتقول عائشة باشمئزاز:

ـــ الله يسهلها بقى…من ساعة معتصم ما عرف انها هي اللي عملت لعبة الفيديو اللي بعتتهولك دا عشان تفرق بينكم و هي بقت عدوته و انتقم منها نظير كذبها و خداعها ليه.

عقدت حاجبيها بعدم فهم لتسألها بتوجس:

ـــ لعبة ايه و كذب ايه..انا مش فاهمة؟!

صدرت من عائشة شهقة خفيفة لتسألها بدهشة:

ـــ ايه دا هو انتي متعرفيش؟!..يعني عايزة تقنعيني ان معتصم مقالش ليكي ع الحقيقة؟!

نظرات ريم اتسعت، وأحست بخيط من الصدمة يلتف حول قلبها. تساءلت في نفسها، لماذا لم يخبرها معتصم عن شيء بهذه الأهمية؟

+

تابعت عائشة وهي تنظر إلى ريم في حزن:

ـــ “يا ريم… معتصم اكتشف إن نرمين كانت بتحاول تفرق بينكم. وكانت بتلعب عليكم… كل حاجة كانت عبارة عن خطة عشان تشوش علاقتكم.”

ثم بدأت تقص عليها تفاصيل مكيدة نرمين من اول مراقبة هواتفهم الى الرسائل المزيفة التي أرسلتها لمعتصم بصفتها ريم انتهاءا بالفيديو التي أرسلته اليها.. 

+

توقف الزمن للحظة في ذهن ريم، انفجرت مشاعر متناقضة في صدرها، مزيج من الغضب، والخيانة، والصمت. 

كيف لم يخبرها معتصم بهذا الأمر؟ هل كان يريد أن يتحمل الذنب وحده؟

+

بدأت تتذكر لحظات ماضية، تلك الليلة في زفافها، عندما كانت ترى في عيني معتصم نظرات كانت تتكلم أكثر من الكلمات. 

كان يريد أن يقول لها شيئًا، كان يريد أن يشرح لها، لكن تراجع، وكأن شيئًا ما كان يُثنيه عن إخبارها بكل شيء.

+

وهي تجلس على الكرسي، أحسّت بقلقٍ شديد يلتف حول قلبها، وكأن الصدمة قد ألجمت لسانها. لم تستطع أن تسأل أكثر، بينما تراجعت ذكرياتها، وأحسّت أن الدائرة تتضيق حولها.

+

في نفس اليوم، جلس معتصم لتناول العشاء مع أخته عائشة وصافية زوجة حمد عقب عودتهما من عند الطبيبة، فقد دعته أخته على العشاء لتخفف عنه وحدته.

أثناء تناولهم الطعام، كانت عائشة تشعر بتوعك معدتها  فكممت فمها بيدها لتحاول كبح التقيؤ أمامهما و ركضت فورا الى الحمام. 

استغلت صافية الفرصة لتكون بمفردها مع معتصم، تريد أن تروي له ما حدث بين ريم و عائشة في العيادة.

ـــ حذر شوفنا مين في العيادة يا أبيه؟! 

انفجر معتصم في الضحك حين نادته بتلك الكلمة، ثم قال ممازحا: 

ـــ لاااا دا احنا اتطورنا أوي. 

ضحكت لتقول بخجل فطري: 

ـــ خلاص مش هقولك يا أبيه تاني… 

تحولت نبرتها للغلظة لتقول: 

ـــ راح أجولك يا كَبير.. 

ضحك معتصم ممازحا: 

ـــ بت يا صافية اوعي تقوليلي ابيه دي في البلد ولا قدام امي و ابوكي…. هتجرسينا في البلد و هيقولولي انت اللي بوظت اخلاقها.. 

شهقت و هي تضرب صدرها بكفها: 

ـــ يا مُري..لو سمعوني عيدبحوني يا واد عمي.. 

ثم انفجرا في الضحك مجددا، فما لبثت صافية ان تنظر جهة الحمام لترى اذا ما كانت عائشة آتية أم لا، و حين تأكدت من أنها مازالت في الحمام عادت تهمس لمعتصم و هي تحني رأسها تجاهه: 

ـــ مقولتلكش شوفت مين في العيادة؟! 

نظر لها باستفهام و هو يلوك الطعام في فمه لتسترسل بهمس: 

ـــ شوفنا الدكتورة ريم… فاكرها؟!… كانت حامل في الشهر التاني و بتكشف عند الدكتور.. 

+

        

          

                

تجمد معتصم على المائدة للحظة، ونظر إلى صافية بنظرة حادة، وفي عينيه تعبير عن المفاجأة الممزوجة بالغضب. 

قلبه كان يعتصر ألمًا، بينما تذكر اللحظات التي كانت تجمعه بريم من قبل. 

كان يعتقد أن هناك ربما تأتي فرصة لحياة جديدة مع ريم، لكن الحقيقة الآن كانت تهدم كل شيء…و لما يستغرب… أليست متزوجة و من الطبيعي أن يحدث حمل!!.. و لكن ذلك الشعور لم يستطع التخلص منه و كأنه فقد كل مفاهيم المنطق.. 

+

خفض معتصم رأسه، ويده تمسك بشدة على الشوكة التي كان يأكل بها، قبل أن يضعها على المائدة فجأة، ليظهر عليه الصدمة. 

قال بصوت مكبوت، مع احتباس الكلمات في حلقه:

ـــ الحمد لله.. ابقي قولي لعيشة ان جالي تليفون ضروري و خارج. 

+

لم يبادل صافية النظرات أو يكمل الحوار، بل غادر المكان بشكل مفاجئ وترك الطعام على المائدة، مشاعره مشوشة وعقله لا يزال عاجزًا عن استيعاب الخبر.

+

وقفت و هي تنهر نفسها أن اخبرته، إذن عائشة كانت محقة حين أكدت عليها الا تخبر معتصم بهذا اللقاء، اخذت تناديه و هي تعض على أناملها من الندم و لكن دون جدوى… فقد خرج من الشقة.. 

+

ركب معتصم سيارته وهو في حالة من الارتباك والصدمة.

الطريق أمامه كان مظلمًا، وعقله مليء بالتساؤلات والمشاعر المتناقضة. في لحظة ما، شعر وكأن كل شيء انهار من حوله، كما لو أن الأرض ابتلعت كل شيء.

+

وصل إلى منزله، ودخل الغرفة. نظر إلى المرآة أمامه وهو يحاول استيعاب ما حدث. كانت عيناه مليئة بالحيرة والغضب، بينما الذاكرة تعيده إلى الماضي، إلى اللحظات التي جمعته بريم، إلى تلك الأيام التي كان يعتقد فيها أن كل شيء سيكون بخير، وأنهم سيعيشون معًا كما حلموا.

+

بات ليلته و هو يتلوى من الألم و كأنه ينتظر قدوم الصباح بفارغ الصبر.. 

استيقظ ربما بعد ساعة واحدة من النوم و صلى الصبح ثم أخذ يدور بغرفته كالثور الهائج كلما تذكر ما عرفه من صافية. 

حاول أن يمسك نفسه، لكنه في النهاية فقد أعصابه. نظر إلى المرآة ثانية، ثم ضربها بيده بقوة، حتى انفجر الزجاج متناثرا بالغرفة و أحدث جرحًا في يده. كان الدم يتساقط، لكنه لم يهتم، وعينيه لم تفارق صورة ريم.

+

نزل بسرعة من بيته، وركب سيارته مجددًا، عاقدًا العزم على مواجهة ريم لعله يرتاح. 

قرر أن يذهب إلى المستشفى التي تعمل فيها، ليواجهها بكل شيء.

+

جلس على حافة الترولي بعدما خلع سترته و وضعها جانبا ثم مد اليها يده المجروحة لتتفحص الجرح بعينيها، فحسمت أمرها بالقيام بتلك المهمة حتى لا تترك له الفرصة بأن يختلط بـخالد و يعقد بينهما المقارنات… فهي تحفظه عن ظهر قلب و تعلم جيدا أنه جاء خصيصا لأجل ذلك.

حقا شتان بينه و بين خالد…و لكنه القدر. 

ارتدت قفازتها الطبية ثم وضعت بولة كبيرة أسفل يده ثم بدأت بسكب المحلول الملحي على الجرح و هي تتحاشى النظر إلى عينيه حتى لا ينكشف حنينها إليه، بينما هو برغم الألم الذي نشب بجرحه حين لامسه المحلول الا أنه لم يشعر بذلك الألم… فألم قلبه في تلك اللحظات قد فاق كل الآلام التي تعرض لها بحياته… 

منذ علم بذلك الخبر و قد تحول لشخص آخر يهذي و يتصرف بلا تفكير… فلو كان بعقله لما أتى الى محل عملها الآن ليتأكد بنفسه.. 

ـــ اتغيرتي اوي يا ريم… 

قالها بنبرة تفيض بالوجع و هو ينظر لجرحه لا إليها، ثم ابتسم بتهكم مرير متسائلا و هو يخشى الإجابة: 

ـــ بس يا ترى الحمل بيغير اوي كدا؟! 

توقفت يديها في تلك اللحظة عن العمل من فرط صدمتها و هي تنظر بصدمة في اللاشيئ، الأمر الذي جعل قلبه يكاد ينخلع من مكانه.. هل ما عرفه إذن صحيح؟! 

وضعت زجاجة المحلول جانبا، رغم علمها بتلك اللعبة التي فرقتهما الا أنها لم ترد أن تستسلم لمشاعر الندم، فقررت أن تتعامل معه و كأن شيئا لم يكن.. فلم يعد ينفع الآن بعدما حملت بأحشائها طفلا من زوجها.. 

نظرت اليه متظاهرة بالغيظ قائلة: 

ـــ دا انت متابع أخباري بقى؟! 

نظر اليها و أنفاسه تتسارع و كأنه يركض، طالما أنها لم تنفي اذن صحيح… 

خلعت قفازتها و ألقتها بعنف في السلة ثم تحدثت بصوت مكتوم حتى لا تلفت اليها الأنظار: 

ـــ يا ريت مشوفش وشك تاني.. مستشفى الغلابة دي مش من مقامك يا معتصم بيه. 

ثم استدارت لتغادر من أمامه بخطوات أشبه بالركض و هي بالكاد تمنع دموعها من النزول و تكتم شهقاتها بصعوبة حتى خرجت تماما من المشفى الى حيث لا تدري.. 

بينما معتصم بقي بمكانه يحاول لملمة شتات نفسه بعدما تحجرت العبرات بعينيه… يتنفس بسرعة حتى كاد يشعر بالاختناق.. تمنى حينها لو يموت و يتخلص من تلك الآلام التي تلاحقه حتى بات تحمله لها أمرا مستحيلا… 

+

        

          

                

بينما كانت ريم تسير بخطوات سريعة في شوارع المدينة المزدحمة، كانت دموعها تسقط بحرقة على وجهها، تُضاف إليها تلك الآلام التي اختلطت بمشاعر خيبة الأمل والندم.

اللقاء مع معتصم كان بمثابة الصدمة لها، فقد اكتشفت كم كانت تخدع نفسها بشأن مشاعرها تجاهه. 

و وسط هذا التورط العاطفي، كانت خطواتها تأخذها إلى مكان لا تدريه، في محاولة للهروب من الألم الذي يزداد في قلبها مع كل لحظة.

+

بينما كانت تسير بلا وعي، اندفعت سيارة مسرعة تجاهها، وكأنها خرجت من بين ضباب مشاعرها المشتتة.

حدث الاصطدام، ولكنه لم يكن قوياً بما يكفي لإحداث كسور أو فقدان الوعي، لكنه كان كافياً ليشعرها بهزة قوية أفقدتها توازنها، لدرجة أن شيئا ما داخلها انهار.

+

صرخت ريم بألم، وهي تجلس على الرصيف، تتألم و هي تضع يدها على بطنها الصغيرة و كأنها تدعم جنينها ليصمد. 

تجمع المارة حولها و اخذها رجل شهم بسيارته الخاصة الى مستشفي استثماري بطلب منها. 

+

أخذت تأن بألم طيلة الطريق و هي تشعر بسائل ساخن يتدفق منها، لتلتقط الهاتف من جيبها بضعف و تقوم بالاتصال بأدهم لكي يكون بجانبها.. 

+

في تلك اللحظة، وعبر الهاتف الذي كان قد رن فجأة، كان أدهم على الطرف الآخر، وقد شعر بالقلق فور سماعه صوت ريم.

+

“ريم؟… إيه اللي حصل؟” سأل أدهم بصوت مفعم بالقلق.

+

أجابته ريم بصوت مكسور، بصعوبة: “أدهم… أنا… أنا مش قادرة أشرح لك… أرجوك تعال بسرعة… أنا عملت حادثة و انا حاليا رايحة على مستشفى الأمل”

+

بينما كان أدهم يحاول فهم ما يحدث، كانت السيارة تنطلق بسرعة إلى المستشفى الاستثماري كما طلبت، بينما كانت ريم تغلق عينيها محاولة مقاومة الألم الذي اجتاحها.

بعد وقت طويل من الكشف و الفحوصات خرج الطبيب لأدهم يتحدث بلباقة: 

ـــ الحمد لله الحالة العامة الى حد ما مستقرة فيما عدا شوية خدوش و كدمات في جسمها.. بس للأسف الحمل لأنه كان ضعيف و لسة في الأول.. هز رأسه بأسف و أكمل.. “حصله اجهاص”. 

انصدم أدهم تارة من وجود حمل و تارة أخرى من اجهاضه، و لكن يبدو أن ريم لم تخبرهم بأمر حملها بعد.. 

شكر الطبيب ثم دلف لأخته التي كانت مسجاة على الفراش الابيض عبراتها تنزل في صمت، ليجلس بجوارها و يحيط كتفيها بذراعه و يقول ببسمة باهتة: 

ـــ حمد الله على سلامتك يا ريم… الحمد لله يا حبيبتي انك بخير… و لو على الحمل ان شاء الله ربنا هيعوضك بغيره.. 

هزت رأسها بصمت و لكنه لم يُرِد أن يضغط عليها، فتنفس بعمق ثم قال: 

ـــ كلمتي خالد؟! 

ـــ لا لسة… مش عارفه هقوله ايه… انا السبب في اللي حصل.. يا ريتني ما خرجت من المستشفى و.. 

بترت عبارتها حين تذكرت سبب خروجها، الا و هو هروبها من مواجهة معتصم الأليمة، ليته لم يأتِ… لقد كان سببا في اجهاص جنينها أيضا… 

مسد على ظهرها بحنو: 

ـــ كلمة يا ريتني من الشيطان متقوليش كدا… دا نصيب يا حبيبتي. 

هزت رأسها بايجاب و لازالت عبراتها تعرف مجراها، فتنهد أدهم بحزن ثم اغتصب ابتسامة على وجهه و هو يقول: 

ـــ عايزك تمسحي دموعك دي و تنامي و ترتاحي… و هكلم أنا خالد أفهمه اللي حصل و هحاول أهديه بكلمتين… ربنا يعوض عليكم يا حبيبتي.. 

+

هزت رأسها و استجابت لنصيحة شقيقها، فاعتدلت بالفراش لتنام لعلها تنسى ما حدث، ثم دثرها جيدا و اغلق عليها باب الغرفة و خرج منها ليتحدث الى خالد عبر الهاتف. 

+

حين علم خالد بالخبر جُن جنونه و تصدعت آماله، لقد قرر ان يعطي لزواجهما فرصة أخرى من أجل هذا الطفل.. و لكن يبدو أن كل الطرق بينهما تؤدي الي الانفصال. 

+

بعد وفاة ندى و طيلة الستة أشهر الماضية أصبح أدهم شخصاً آخر. 

الحزن والمرارة ينعكسان في كل شيء حوله، كان يعود إلى عمله كضابط كل يوم، ولكن لم يعد يشعر بأي شغف تجاهه. 

شعر وكأن العمل فقد كل معناه، لا فائدة من أن يكون ضابطاً طالما أنه فشل في حماية ندى، والتي كانت في المقام الأول “مهمة عمله”.

+

حاول آسر إقناعه بعدم الاستقالة، محاولاً أن يُذكره بالأيام التي كانت فيها روحه مشتعلة بالحماسة تجاه مهنته، لكنه لم يكن يراه سوى تضييق لنفسه في عالم مليء بالقيود والظروف الصعبة، كان كل شيء يبدو ضبابياً في عينيه، وكأن الحياة قد خسرت مع ندى جزءاً كبيراً من معناها.

+

“أدهم.. دا مش حل.. أنت مش لوحدك في الحكاية دي، فيه ناس محتاجينك هنا، عايزينك تكمل.” قالها آسر بنبرة قلق وهو ينظر إلى صديقه الذي أصبح غارقاً في الحزن.

+

أجاب أدهم بهدوء، مع شعور عميق بالمرارة في صوته: “مفيش حاجة ليها معنى دلوقتي يا آسر… أنا كنت المفروض أكون موجود علشانها… وحمايتها كانت مهمتي… ما قدرتش أعملها حاجة.”

+

ورغم ما كان يواجه من تحديات قلبية ومهنية، بدأ يفكر في شيء مختلف تماماً، بدلاً من الاستمرار في وظيفته التي فقدت قيمتها بالنسبة له، بدأ يخطط لمستقبل جديد.

فكر في تأسيس شركة أمن خاصة به، تُختص بحماية المنشآت والأفراد، ويقدم خدماته للآخرين الذين قد يحتاجون للحماية والاطمئنان. 

كان يفكر في كيف يستطيع أن يكون صاحب قراره، يتحدى الظروف، ويمنح الأمان للآخرين بعدما عجز عن حمايته لشخص غالي.

+

قرر أن يكون هذا هو الطريق الجديد له، طموح جديد يستمد منه الطاقة لتجاوز الألم.

+

هستنى رأيكم 

مع تحياتي /دعاء فؤاد 

+

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *