بعدما تركته ريم و ركضت للخارج رأته احدى الممرضات ليلفت انتباهها مظهرهه الأنيق رغم حالته الرثة و رأسه المطأطأة، فتقدمت منه تسأله بحذر:
ـــ حضرتك محتاج حاجة؟!
رفع رأسه لينظر لها بتيه و كأنه قد نسي يده المجروحة ليستدرك حاله سريعا ثم سألها باحترام:
ـــ ممكن بس تغطي الجرح دا بشاش؟!
تفححصت الجرح لتقول:
ـــ دا محتاج اقل حاجة ٣ غرز.. لحظة هقول لدكتور خالد ييجي يخيطهولك..
أسرع يستوقفها هاتفا برفض قاطع:
ـــ لا لا لا.. انا مش هخيطه.. لفيه بس بشاش عشان مستعجل..
ـــ بس كدا هياخد وقت طويل لحد ما يلتئم و ممكن يلتهب..
رد بنفاذ صبر:
ـــ تمام مش مشكله انا هتصرف… بس بسرعة بس عشان ورايا شغل..
أومأت الممرضة بقلة حيلة ثم بدأت تلف الشاش المعقم حول يده المجروحة و ما إن انتهت حتى شكرها معتصم و التقط سترته و غادر المشفى بخطى سريعة حتى استقل سيارته و عاد الى شركته يستكمل أعماله رغم شرود روحه و انشطار قلبه…
+
دلف مكتبه بارهاق ظاهر على ملامحه ثم جلس بكرسيه يستطلع حاسوبه مستأنفا آخر ملف كان بحوذته بالأمس..
+
تسلّل صوت رنين الهاتف ليقطع السكون المحيط. أخرج هاتفه من جيبه بتثاقل، ليرى الرقم الذي كان مألوفًا للغاية، رقم خفير البلدة… أجاب بصوت خافت:
ـــ إيوة يا سمعان… مالك؟
جاء صوت الخفير حزينًا، متوترًا كأنه يحاول اختيار الكلمات بعناية:
ـــ يا كبير… لازم تاچي البلد النهارده… الحچة عيانة جوي..
شعر معتصم بتوقف أنفاسه للحظة، وكأن كل المشاعر التي حاول دفنها عادت دفعة واحدة، فتمتم بصوت متحشرج:
ـــ عيانة كيف يا سمعان؟! عنديها ايه؟
أكمل الخفير بحزن:
ـــ الدكاترة بيجولوا چاتلها چلطة ع المخ …
+
توسعت عيناه بصدمة و خوف في آنٍ واحد، ثم أغلق معتصم المكالمة بسرعة، و أسند رأسه إلى الحائط. داخل قلبه، كانت المعركة دائرة: هل هو بالفعل قادر على ترك كل شيء والعودة إلى بلدته؟ وهل سيمنحه هذا العزاء الذي يبحث عنه؟
+
بعد دقائق من الصمت، اتخذ قراره… عليه أن يكون بجوار والدته مهما كانت الظروف.
+
في مكتبه الواسع، جلس هشام، زوج عائشة، يراجع الأوراق والملفات، اقتحم معتصم المكان بخطوات واسعة وحازمة، لكن تعابيره حملت مزيجًا من الإرهاق والعزم.
ـــ هشام، لازم أسافر للبلد النهارده… أمي تعبانة جدًا، وأنا مش عارف هرجع إمتى.
نظر إليه هشام بدهشة:
ـــ سلامتها يا كبير… بس متتأخرش..الشركة هنا محتاجة وجودك…. وإحنا في نص موسم الشغل.
رد معتصم بنبرة قاطعة:
ـــ عارف، بس مضطر… الشغل كله هسيبه في إيدك. عايزك تتابع كل حاجة وتبعتلي تقارير أسبوعية.
أومأ بتأكيد:
ـــ حاضر يا معتصم متقلقش… متشيلش هم حاجة.. و انا من ناحيتي هخلي عيشة تبقى تسافرلها بكرة تخلي بالها منها..
رفع يده بإشارة رفض:
ـــ لأ… خلي عيشة دلوقتي تهتم بنفسها و بالجنين… احنا ماصدقنا ربنا كرمكوا بعد السنين دي كلها… انا هتكفل بأمي لو هقعد تحت رجليها العمر كله..
حانت من هشام بسمة اعجاب ليقول بصدق:
ـــ ربنا يجعله في ميزان حسناتك يا كبير..
ربت على كتفه و هو يقول بجدية تامة:
ـــ هشام انا هعتمد على الله ثم عليك في ادارة أملاكنا اللي هنا… لو في أي مشكلة تبلغني بيها فورا و نحاول نحلها سوا..
ـــ تمام يا معتصم…مش عايزك تقلق..
نظر له بابتسامة محبة:
ـــ انا مش قلقان طول ما انت معانا… انت أخويا التاني يا اتش..
احتضنه بحب وافر ثم ودعه معتصم و خرج من الشركة ليستقل سيارته متجها الى شقته ليأخذ بعض الأشياء المهمة ثم استقل سيارته مرة أخرى مودعا القاهرة تاركا قلبه فيها مع حبيب قد فقد أمله في رجوعه.
+
في الطريق إلى بلدته، حاول معتصم الهروب من أفكاره المتشابكة.
كان الطريق طويلاً، مليئًا بالذكريات المتناثرة، حيث بدا كل شيء يذكره بريم، تلك المرأة التي تخللت حياته وصارت جزءًا من روحه.
حاول إقناع نفسه بأنها أصبحت من الماضي، لكنها كانت حاضرة في كل نفس يتنفسه.
+
عندما وصل، وجد البلدة في حالة من السكون المريب، وكأن الأرض نفسها تتنفس بصعوبة.
دخل الدوار حيث استقبلته والدته المسجاة بفراش المرض بابتسامة باهتة تخفي خلفها أوجاعًا لا تعد. جلس بجانبها، أمسك يدها وكأنها حبل النجاة الوحيد الذي يبقيه ثابتًا.
قال بهدوء:
ـــ أني هانا عشانك يا أمايا… مش هسيبك مهما حوصل.
نزلت دمعة على وجنتها الباهتة من اثر المرض ثم تحدثت بصعوبة:
ـــ ربنا… يخليك.. ليا.. يا ولدي… اتو.. حشتك.. جوي..
احتصنها باشتياق بالغ مع حزن ملأ قلبه على ما وصلت اليه حالتها الصحية ثم التزم الفراش بجانبها ليرعاها و يُمرضها و يؤازرها في مرضها..
+
تدريجيًا، انغمس معتصم في حياة البلدة.
كان يحرص على رعاية أمه بنفسه مع متابعة المزرعة و حلّ مشاكل الفلاحين بجدية، لكن شيئًا داخله كان لا يزال معلقًا بين الرحيل والبقاء.
حاول ألا يفكر في ريم، في الجنين، في كل شيء تركه خلفه، لكنه كان يعلم أن النسيان ليس سوى وهم يطاردنا بلا هوادة.
+
—
في مكتب مظلم داخل منزله القديم في البلدة، كان معتصم جالسًا، يراقب الورق الذي أمامه دون تركيز. هاتفه بجواره يهتز بخفة، ليظهر اسم حمد على الشاشة. اعتدل في جلسته والتقط الهاتف بصوت خافت يحمل مزيجًا من الدفء والتعب.
+
ـــ أيوة يا حمد… وحشتني ياخويا.
جاء صوت حمد من الطرف الآخر واثقًا لكنه يحمل مسحة من البُعد:
ـــ وأنت كمان يا كبير… أخبارك إيه؟ كله تمام؟
ـــ الحمد لله، أنا في البلد اليومين دول و براعي المزرعة و اهي ماشية زي ما هي… أنت كيفك؟ الدراسة في لندن شكلها واكلة وقتك كله؟
ـــ آه، مش بطّال… أهو بنحاول نوصل للّي عايزينه.
ابتسم معتصم بخفة، لكنه عاد إلى نبرة الجدية سريعًا:
ـــ حمد، كنت عايز أتكلم معاك في موضوع.
+
تغيرت نبرة حمد إلى التحفظ:
ـــ عن صافية؟
أومأ معتصم وكأنه أمامه، رغم أن المكالمة لا تحمل رؤى، وقال:
ـــ أيوة عنها.
+
سكت للحظات وكأنه يفكر في طريقة مناسبة لفتح الموضوع، ثم قال:
ـــ يا حمد البنت صغيرة… اللي حصل منها كان غلطة… لكن والله العظيم اتغيّرت…
قاطعه حمد بصوت حازم:
ـــ معتصم لو سمحت… أنا مش عايز اتكلم عن الموضوع ده… لما بفتكر بتعصب و انا عايز أفضل هادي عشان أركز في دراستي..
ـــ يا حمد استنى… لو تسمعني بس هتعرف…
ـــ مفيش حاجة أسمعها… معتصم القرار انا أخدته من زمان ومش هرجع فيه.
+
كان صوته قاطعًا، لكن معتصم لم يستسلم… استند إلى الطاولة وقال بنبرة أكثر هدوءًا:
ـــ طيب، مش عشانها… عشان أمك…أمي عايزة تشوفكم مع بعض…
هنا، ارتفعت نبرة حمد، لكنها لم تفقد السيطرة:
ـــ أمي هتفهمني زي ما فهمتني قبل كده… أنا مش طفل يا معتصم… الموضوع ده منتهي بالنسبالي.
+
صمت معتصم للحظات، نظر إلى نافذة مكتبه حيث انعكست أشجار البلدة على الزجاج، كان بإمكانه أن يفتح الموضوع الذي كان يحمله بثقل على صدره: مرض أمه… لكنه تردد… لم يكن يريد أن يضيف إلى حياة حمد عبئًا جديدًا وهو غارق في دراسته.
+
ـــ طيب، خلاص يا حمد… على العموم، لو احتجت حاجة أنا هنا.
ـــ شكراً، يا معتصم… خلي بالك من نفسك ومن أمي.
+
أنهى حمد المكالمة قبل أن يُفسح المجال لمعتصم كي يقول شيئًا آخر.
وضع معتصم الهاتف جانبًا، وأخذ نفسًا عميقًا.
كانت الكلمات التي لم يقلها تزدحم في صدره، لكنه أقنع نفسه أن الوقت ليس مناسبًا لإخبار حمد بمرض والدته.
أغمض عينيه للحظات، وكأنّه يحاول تهدئة العاصفة التي تشتعل داخله.
+
في صمت الغرفة، تردد صوت أمه المريض كأنه يصرخ من بعيد، يذكره بأن الوقت يمضي، لكن معتصم كان يعرف أن عليه أن يحمل هذا العبء وحده الآن.
+
مر عامان…
هل تصدق سيدي القارئ… عامان مرَّا على بعد معتصم عن القاهرة بمن فيها، لم تطأ قدماه أرضها ولا مرة واحدة… حتى عائشة أخته سافرت البلدة قبل ولادتها بشهر واحد و وضعت طفلها في منزل أبيها و بالطبع رافقتها صافية.
صافية الآن شارفت على إنهاء الثانوية العامة و أصبح لا يفصلها عن دخول الجامعة سوى أشهر قليلة..
فقدت أملها في حمد و عودة الوصال بينهما من جديد بعدما قطع علاقته بها تماما و كأنه لا يعرفها، فخطأها الذي ارتكبته سابقا عظيم في عينيه لم يستطع غفرانه.
+
أما أدهم كان يحاول أن يرهق نفسه في عمله الجديد و شركته التي أسسها، أشغل حاله ما بين تدريب أفراد الأمن الى الدعاية لشركته لتوسيع دائرة انتشارها، حتى لا يترك للحزن فرصة أن يسيطر عليه و تتحول حياته من بعد فقدان ندى الى جحيم
+
أما خالد لم يتحمل ريم كثيراً بعد حادثة الإجهاض، فلقد ازداد الفتور بينهما بعدها و اصابهما الخرس الزوجي ما جعل الحياة بينهما مستحيلة، فانفصلا بعد تلك الحادثة بحوالي شهرين و عادت ريم الى بيت أخيها تقيم فيه معه و مع أمها من جديد بعد تجربة قاسية اكتشفت من خلالها أنها لم تكن سوى عقابا أليما و حسب، و قررت في قرارة نفسها أنها لن تعيد تلك التجربة معتقدة في ذاتها أنها لا تصلح للزواج بسبب فتورها في العلاقة الزوجية، خاصة و أنها حاولت كثيراً أن تعالج نفسها لعلها تصبح زوجة طبيعية تتفاعل مع زوجها و لكن كل محاولاتها باءت بالفشل، فظنت أنه مرض عُضال لا علاج له..
+
بينما آسر و مودة بقيا بعيدين لا يجتمعان الا في المناسبات العائلية، فقد كان آسر يحاول أن يجد لنفسه مهربا بعيدا عنها حتى لا يشعر بأنه خائن لحبيبته الراحلة.. و لكن صدقا كان الحنين بينهما ما يكون دائماً هو سيد الموقف و يتجلى ذلك في نظراتهما حين يلتقيان..
+
#################
+
حين اشتد بالحاجة آمنة المرض و أخبر الطبيب معتصم بأنها في أيامها الأخيرة، لم يجد بدا من اخبار حمد بضرورة عودته لرؤية أمه قبل أن تفارق الحياة..
و ما إن علم حمد حتى حجز بأقرب طائرة عائدا و هو يشعر بأنه سيموت خلفها إن لم يراها، و بالطبع لام معتصم كثيراً لأنه لم يخبره منذ أن أصابها المرض..
+
كانت اللحظات الأولى لعودة حمد إلى بيت العائلة مشحونة بالكثير من المشاعر. قلقه على والدته كان سيد الموقف، ولم يكن يتخيل أن يواجه في اليوم الأول مفاجآت أخرى.
+
وصل البلدة بعد سفر طويل في الصباح الباكر، ألقى بحقائبه على عتبة المنزل و احتضن أخاه بحرارة ثم ذهب لغرفة أمه ركضا و كأنه لا يصدق أنه قد وصل لها أخيراً بعدما قطع كل تلك المسافات…
+
كان المكان هادئًا جدًا، مجرد همسات قليلة تتسلل عبر الغرف. كانت الغرفة الصغيرة التي تحتلها أمه مليئة بضوء النهار الخافت الذي يتسلل من النوافذ المغلقة. على سريرها، كانت ملامحها شاحبة، جسدها الهزيل يكاد يختفي وسط الأغطية الثقيلة. لا شيء في المكان يذكره بتلك السيدة التي كانت تملأ المكان بالحياة، فكل شيء بدا بعيدًا عن سابق عهده.
+
حين وصل الغرفة دخلها بخطوات بطيئة، مشيًا على أطراف أصابعه، وكأنما يخشى أن يوقظ ماضيه كله. جلس على طرف السرير، ويده تلمس يد أمه ببطء. كان يشعر بتوتر شديد، ولكن الحزن الذي بداخله كان أكبر من أي كلمة قد يخرجها.
+
“أمايا..” همس بها، وعيونه تغرق في الدموع. “حجك عليا يا امايا على كل لحظة بَعدت فيها عنيكي… على كل لحظة ما كنتش چنبك فيها….تراب الغضب كان عاميني… مكنتش واخد بالي إنك هتحتاچيني في يوم من الأيام.”
+
أمه فتحت عينيها بصعوبة، كانت نظراتها ضبابية، لكن ابتسامتها الخفيفة كانت كافية لتخفف عنه الحزن. أمسك بيدها بقوة، وكأنما يخشى أن تفلت منه، ودموعه تسيل على خديه بلا توقف.
مدت يدها بضعف تتلمس وجنته و هي تطالعه باشتياق بالغ و كأنها لا تصدق أنه أمامها الآن، ثم حاولت أن تتحدث لتقول بصعوبة بالغة:
“حمد الله..على…سـسـلامتك.. يا حبيبي…متحملش نفسك… فوج.. طاجتها يا ولدي… أني خابرة إنك كنت بتحاول.. تلاحج أحلامك…. و كنت طوالي رايد تعيش حياتك بالطريجة دي… بس إنت… دايماً كنت.. في جلبي يا حمد… حتى لو المسافة.. كانت بَعيدة.”
+
حمد خرّ على ركبتيه بجانب السرير، يضع رأسه على يدها المرتجفة، ودموعه تتساقط بحرقة. ” سامحيني يا امايا أني بعدت عنيكي و انشغلت… بس كنت خايف عليكي… كان في حاچات في حياتي هي اللي بتخليني أبعد غصب عني… بس كل مرة كنت بفتكرك كنت بفتكر الوجع اللي كان في عينيكي جبل ما اسافر… بس دلوق ندمت يا امايا إني بعدت عنك المدة دي كلاتها”
+
أمه ضحكت بصوت خافت، ثم نطقت بصعوبة. “الحياة مبتمشيش.. كيف ما احنا.. رايدين.. يا وليدي….بس أنت كنت طوالي في بالي… عمرك ما بعدت عن جلبي… مهما كنت بَعيد. وعمري… ما هزعل منيك يا حمد”
+
حمد ضمها إلى صدره وهو يرفع رأسه ليحاول السيطرة على نفسه، لكن قلبه كان مثقلاً بالذنب. “لو رچع بيا الزمن، ما كنتش هسيبك… كنت هكون چنبك، مهما كان، مهما حوصل.”
+
لقد أدرك في تلك اللحظة أن الندم لن يغير شيء، وأن الوقت قد فات على كل تلك اللحظات الضائعة. لكنه كان يعلم أيضًا أن أمه، في طيبتها الكبيرة، قد غفرت له بالفعل.
+
كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد وداع، كانت لحظة عاطفية تختلط فيها مشاعر الندم والحب، وحمد كان يشعر وكأن قلبه قد انكسر بين يديه.
في تلك اللحظة، اكتشف أنه مهما طال الزمن، تبقى أمه هي السند الوحيد في حياته، الذي لن يعوضه شيء.
+
جلس طويلا برفقتها حتى أصر عليه معتصم ليخرج معه لتناول الإفطار، فيبدو انه لم يأكل شيئا منذ علم بتلك الأخبار السيئة
+
سار برفقة أخيه الى طاولة الافطار، فجلس معتصم على رأس الطاولة و عائشة على يمينه فجلس حمد على يساره، و بعد قليل أقبلت عليهم بفستانها الرقيق بلونه البني و حجابها البيچ ذي اللفة العصرية و هي تحمل في يدها دورق المياه، فوضعته على الطاولة بعدما ألقت عليهم تحية الصباح ثم اتخذت مقعدا بجوار عائشة كما اعتادت دائما…
كان الإفطار قد وضع بعناية على الطاولة الكبيرة، تحيط به أجواء عائلية مليئة بالحنين، لكن تحتها اختبأت مشاعر متباينة.
+
“مين دي؟” كانت الفكرة الأولى التي قفزت إلى ذهنه حين رآها قبل أن يدرك الحقيقة.
+
ملامحها كانت مألوفة، لكن أسلوبها… وحتى طريقة وقوفها، شيء ما تغير تمامًا. أخذت خطوات واثقة نحو الطاولة الصغيرة التي يجلس عليها.
ــ “حمد الله على السلامة يا واد عمي”
قالتها بنبرة هادئة لكنها تحمل ذلك النضج الذي لم يعهده منها.
+
نظر إليها بذهول، للحظة لم يستطع أن يرد، عينيه استقرت على وجهها، ثم على حركتها وهي تجلس أمامه بهدوء، وكأنها لم تعد تلك الفتاة التي اعتاد على سماع صوتها الرقيق والخجول منذ عامين.
+
ــ “إنتِ… صافية؟”
خرجت كلماته مشحونة بالدهشة، وهو يراقبها كأنه يراها للمرة الأولى.
+
ابتسمت، وردت بثقة غير معهودة:
ــ “طبعًا أنا صافية… غريبة لَتكون مش فاكرني!”
+
صوته اختنق للحظة، ثم قال:
ــ “لا… لا..مش للدرجادي يعني… بس… مش معقول ده صوتك؟ ولهجتك؟ إنتِ اتغيرتي أوي!”
+
ضحكت بخفوت، ثم رفعت حاجبها بتحدٍّ بسيط:
ــ “السنتين اللي فاتوا علموني حاجات كتير… بس مش شايفة إني اتغيرت قوي.”
+
لكنه لم يكن يصدقها… كانت كل حركة، كل كلمة تقولها، تشير إلى أنها ليست تلك الفتاة التي تركها… كان صوتها الآن يحمل نبرة واثقة، ولهجتها أصبحت أقرب إلى نبرة المدن، كأنها تخلّت عن رنة الكلمات البسيطة التي كانت تميزها.
+
ــ “معقولة؟… إنتِ فعلًا صافية؟”
قالها مجددًا، هذه المرة وكأنه يسأل نفسه.
+
ابتسمت بهدوء، و وضعت يديها على الطاولة:
ــ “طبعًا أنا… واضح إنك كنت متوقع تلاقيني زي ما كنت زمان؟ الحياة مش بتوقف عند حد يا حمد.”
+
كلمتها الأخيرة أثرت فيه بعمق، لكنه لم يُظهر ذلك. كان يتأملها، يحاول استيعاب التغيير الذي لم يُعطِه أحدٌ تحذيرًا بشأنه… معتصم لم يخبره…بل بالأحرى لم يُعطه حمد الفرصة ليخبره.
+
في داخله، صراع مشتعل… كان جمالها مختلفًا، أعمق مما تخيله… لكنه في الوقت نفسه شعر بمزيج من الذنب والارتباك.
“إزاي كده؟ إزاي كبرت واتغيرت بالشكل ده؟… معقول دي صافية اللي كنت فاكرها مجرد طفلة؟”
+
لكنه أجبر نفسه على الحديث:
ــ “واضح إنك كنتي مشغولة أوي السنتين اللي فاتوا.”
+
أجابت بابتسامة خفيفة:
ــ “الحياة بتعلّم… وأنا كان لازم أتعلم عشان ألحقها.”
+
كانت كلماتها كأنها سهم أصاب قلبه، أدرك أن هذه ليست صافية الصغيرة التي كان يستطيع أن يقرأ أفكارها بسهولة، الآن أصبحت لغزًا جديدًا، مليئًا بالتناقضات التي لم يكن مستعدًا لها.
+
في داخله، اعترف بصمت:
“واضح إني غلطت لما بعدت… لكن برضو كانت هي السبب…”
+
أما هي، فبينما كانت تراقبه، شعرت بشيء غريب. نظراته، طريقته في الحديث، وكأنهما غريبان يحاولان فهم ما حدث بينهما خلال تلك السنوات الضائعة.
و في خضم حوارهما العميق كان معتصم و عائشة يتابعان ردود أفعالهما في صمت تام..
+
على الطرف الآخر، كان حمد يتناول لقيماته بصمت، عيناه تراقبان صافية دون أن يشعر، كانت تجلس بهدوء، لكن الطريقة التي كانت تتفاعل بها مع الحديث تكشف عن شخصية لم تعد كما كانت.
+
قطع معتصم صمت حمد فجأة، متحدثًا بنبرة ودودة:
ــ “على فكرة يا حمد، صافية قربت تخلص الثانوية العامة…. كمان كام شهر وتكون في الجامعة.”
+
رفع حمد نظره ببطء، غير قادر على إخفاء دهشته.
ــ “في الجامعة؟!”
قالها بنبرة مليئة بالتساؤل والذهول، وكأنه سمع شيئًا يستحيل تصديقه.
+
ابتسمت صافية بخفة، نظرت إلى طبقها ثم رفعت رأسها لتواجهه مباشرة.
ــ “آه، كنت في أولى ثانوي لما سافرت… دلوقتي خلاص… قربت أخلص.”
+
تابعت عائشة الحديث بفخر:
ــ “وبإذن الله هتدرس إدارة أعمال… معتصم بيشجعها دايمًا إنها تدخل مجاله بيقول إنها عندها عقل يوزن بلد.”
+
ضحك معتصم، وأردف ممازحًا:
ــ “ده مش تشجيع يا طنط، ده استثمار!”
+
في وسط هذه الأحاديث الجانبية، كان ذهن حمد مشغولًا بشيء آخر… حاول أن يستوعب أن صافية الصغيرة، التي تركها فتاة خجولة بالكاد ترفع صوتها، أصبحت الآن شابة تتحدث بثقة وإصرار.
+
ــ “إدارة أعمال؟”
قالها بصوت خافت، وكأنه يكلم نفسه، لكنه لم يستطع أن يخفي استغرابه:
ــ “ما كنتش متخيل… يعني… فكرتِ في ده لوحدك؟”
+
نظرت صافية إليه بابتسامة هادئة، ورفعت حاجبها بخفة:
ــ “لا طبعاً..الفضل كله يرجع لربنا ثم ابيه معتصم”.
+
كانت كلماتها كأنها تصفعه، لكنها لم تكن بنبرة قاسية. كانت تحمل ذلك المزيج بين النضج والمرارة. شعر وكأنها تلمّح إلى شيء لم يقله أحد بصراحة.
+
حاول معتصم أن يخفف من التوتر الذي بدأ يتسلل بينهما:
ــ “حمد… صافية دي لو دخلت المجال هتكون أخطر منافسة ليّا… أنا أهو بلّغتك من دلوقتي.”
+
ردت صافية بثقة:
ــ “هو أنا لو نافستك يا كبير هكسب؟! “
+
ضحك الجميع، لكن حمد لم يستطع أن يشاركهم الضحك… كانت كل كلمة منها تجعله يدرك كم أصبح بعيدًا عن هذه الحياة، وكم فاته أن يرى هذا التغير يحدث أمام عينيه.
+
لم تستطع صافية أن تتجاهل نظراته، فقررت أن ترد بعض الكلمات التي علقت في حلقها:
ــ “كنت متوقع تشوفني زي ما أنا؟ مفيش حد بيبقى زي ما هو بعد سنتين.”
+
شعر حمد وكأن الهواء قد سُحب من المكان… كانت كلماتها تحمل الكثير، أكثر مما توقّع. ابتلع ريقه، وحاول أن يبدو طبيعيًا، لكنه لم يستطع إخفاء ارتباكه.
+
“زي ما هي قالت… مفيش حد بيبقى زي ما هو… وأنا اللي بعدت، مكنتش متوقع التغيير ده.”
+
قبل أن يسترسل في أفكاره، تدخلت عائشة مجددًا:
ــ “حمد، خلّيك معانا شوية… صافية ممكن تكون بنت صغيرة، لكن والله كلامها أكبر من سنها. أوقات بحس إنها كبيرة عن عمرها بكتير.”
+
ابتسمت صافية بخفة، بينما أكمل معتصم الحديث بمزاح:
ــ “هي أصلًا لسانها اللي بيكبرها عن سنها.”
+
في تلك اللحظة، ضحكت صافية، ضحكة كانت مليئة بالحياة، لكن حمد شعر بشيء مختلف… كانت الضحكة تنبع من قلب لم يعد كما كان، قلب تعلم أن يتحمل أكثر مما يجب.
+
انتهى الإفطار و بقي حمد ملازما لغرفة أمه المريضة لم يتركها إلا حين تحين الصلاة، قضى يومه معها غارقا في أمواج مشاعره المتلاطمة، فتارة يفكر في أمه و خوفه من فقدانها… و تارة أخرى في مشاعره تجاه صافية و ما وصلت إليه من تغيير جذري..كلامها.. حركاتها… عقلها الذي اصبح أكثر حكمة.. صوتها.. شكلها.. كل شيئ فيها تطور بدرجة كبيرة و بوتيرة سريعة..
لم ينسى يوما أنه كان يميل لها و أنه كان يخطط لإتمام زواجهما متى كبرت… و لكن موقفها الغبي الذي دفعه للسفر و الهرب منها هو ما غير كل مخططاته..
و لكن الآن و بعدما لاقى منها ما تمنى بدأت تستيقظ مشاعره نحوها من جديد…
حين حل المساء دفعه معتصم نحو شقته دفعا لكي يرتاح و بقي معتصم مع أمه تلك الليلة..
+
كانت غرفة المعيشة هادئة، إلا من صوت ساعة الحائط التي كانت تفرض حضورها في صمت الليل.
جلس حمد على الأريكة، ينظر إلى الفراغ، بينما كان ذهنه غارقًا في الذكريات.
على بعد خطوات منه، كانت صافية تقف بالقرب من النافذة، تستند إلى إطارها، تنظر إلى الظلام الممتد خارج المنزل… كان التوتر بينهما ملموسًا، وكأنهما عالقان في لحظة لا تعرف إلى أين تمضي.
+
حمد قطع الصمت بصوت خافت، ولكن حازم:
“صافية، إحنا لازم نتكلم… بقالنا كتير بنهرب من اللي جوانا.”
+
التفتت صافية إليه ببطء، عيناها تحملان مزيجًا من الحذر والألم… تقدمت خطوة صغيرة، لكنها توقفت، وكأنها تحاول الحفاظ على مسافة آمنة.
“نتكلم؟ عن إيه بالظبط يا حمد؟ عن اللي فات؟ ولا عن اللي إحنا فيه دلوقتي؟”
+
شعر حمد بثقل كلماتها، لكنه أصر على المضي قدمًا. وقف من مكانه، وتقدم نحوها بهدوء، حتى أصبح قريبًا بما يكفي لرؤية التعبيرات المتغيرة على وجهها.
“أنا مش ناسي إنك اتغيرتِ… وإنه كان فيه حاجات بينا حصلت هي اللي خلتني مشيت و سيبتك و أكيد طبعا انتي فاكراها، بس اللي عرفته النهارده… واللي شفته فيكي… حسّسني قد إيه أنا اللي كنت غلطان لما بعدت.”
+
صافية هزت رأسها ببطء، وكأنها تحاول التحكم في دموعها.
“حمد… مش كل حاجة تتصلح بالكلام… أنا كبرت و فهمت اني كنت غبية بس دا مكانش مبرر أبداً يخليك حتى متحاولش تكلمني مرة واحدة… مش عارفة إزاي هرجع أديك المساحة اللي كنت واخدها زمان.”
+
تقدم حمد خطوة أخرى، مد يده ليلمس يدها، لكنها انسحبت برفق، مما جعله يشعر وكأن المسافة بينهما أكبر مما هي عليه فعلاً.
“عارف… عارف إنك اتغيرتِ… وأنا كمان اتغيرت. بس الحاجة الوحيدة اللي مابتتغيرش هي إنك دايمًا كنتي في قلبي رغم العناد اللي جوايا.. حتى وأنا بعيد… حتى وأنا مش قادر أواجه نفسي إنك كنتي الوحيدة اللي فعلاً ليها مكان جوايا.”
+
صافية التفتت لتنظر إليه، تلك الكلمات التي سمعتها أثارت شيئًا داخلها، لكنها لم تكن مستعدة للاعتراف بسهولة.
“حمد، الكلام لوحده مش كفاية… أنا محتاجة وقت، ومش عارفة لو عندي القوة إني أفتح باب جديد بينا ولا لأ.. “
+
ابتسم حمد ابتسامة خفيفة، مليئة بالحنين والأسف.
“وأنا مش مستعجل يا صافية… أنا هنا، ومستعد أستنى… مستعد أعمل أي حاجة علشان أرجّع اللي كان بينا… بس محتاج أبدأ بخطوة صغيرة.”
+
مر يومان قضاهما حمد تحت قدمي أمه لعله يعوضها و لو بقليل من الاهتمام الذي حرمها منه خلال غربته..
بينما كان معتصم يصر على نومه بشقته ليلا لربما تعود المياه الى مجاريها مع صافية بعد فراق قاسٍ.
+
و في ليلة….بعد عدة ليالي من الشد و الجذب.. القرب و البعد… الخصام و الوصال
بينما كانت الأضواء الخافتة تلامس الجدران، كان حمد وصافية يجلسان على السرير، يحاول كل منهما التعامل مع مشاعره التي كانت تتسارع مع كل لحظة يمران بها معًا.
الفضاء حولهما كان ضيقًا، وكأنهما يعيشان داخل غيمة من التوتر والحاجة المشتعلة.
+
كان حمد يراقب صافية عن كثب، وقد لاحظ التغيير الكبير في ملامحها…يتأمل شعرها الذي مازال غجريا طويلا ساحرا…غمزتها اليمنى التي كانت تميزها…جمالها الذي حولها لإمرأة فاتنة… ذلك التحول الذي جعلها أكثر نضجًا، وجعل قلبه يتنبه إلى شيء كان قد حاول تجاهله طوال الفترة الماضية. الاقتراب منها مرة أخرى، بعد غياب طويل، أصبح أمرًا لا يمكن تحاشيه.
+
حمد، الذي لم يستطع كبح نفسه، اقترب منها بحذر، كما لو كان يحاول أن يقرأ ما إذا كانت هي أيضًا تشعر بنفس الرغبة التي كانت تملأ قلبه.
نظر إليها بعينيه المشتاقة، ثم رفع يده، لمسه خفيف على يديها.
+
“صافية، مش قادر أقولك قد إيه كنت فاكر إني نسيتك، لكن الحقيقة إنك كنت موجودة في كل لحظة.”
+
صافية، التي كانت تستمع له في صمت، شعرت بيديه تلامسان يدها، فارتجفت قليلاً، وكأن تلك اللمسة كانت تفتح أبوابًا قديمة في قلبها.
لم تبتعد عن يده، بل تركت نفسها لتنغمس في اللحظة التي تعيشها، تلك اللحظة التي شعرت فيها بمشاعرها القديمة تتجدد بسرعة.
+
حمد ابتسم قليلاً، وهو يمد يده الأخرى ليضعها على خصرها برفق، يقربها منه أكثر. همس في أذنها: ” صافية.. بجد وحشتيني… وحشتني كل حاجة فيكِ.”
+
في تلك اللحظة، شعرت صافية بمزيج من الحنين والتردد. هي أيضًا كانت تحتاجه، لكنها كانت تعرف أن العودة ليست بهذه السهولة. لكنها لم تستطع مقاومة المشاعر التي كانت تملأ قلبها في تلك اللحظة.
+
صافية بصوت خافت، قالت:
“أنا مش قادرة أرجع زي الأول… بس في لحظة زي دي، ما أقدرش أقاومك.”
+
هز حمد رأسه برفق، ثم جذبها إليه بشكل مفاجئ، فاختلطت الأنفاس بينهما. كانت اللمسات بينهما أكثر عمقًا الآن، وكأنهما يعبران عن كل شيء بالكلمات التي لم تقولاها من قبل.
تحرك حمد ليقترب منها أكثر، بينما كانت يداه تتنقلان على جسدها، تتلمس كل تفصيلة فيه كما لو كان يكتشفها من جديد.
+
كانت الملامسة متبادلة بينهما، دفء الجسد يلتقي بدفء القلب، بينما كان كل واحد منهما يشعر بحيرة أخرى، لكن هذه المرة، لم يكن الأمر يتعلق بالاختيار أو الفراق.
بل كان يتعلق بالحاجة إلى الشعور بالعودة إلى مكانٍ آمن، مكانٍ يجمعهما معًا رغم كل ما مرت بهما من آلام.
+
صافية التي لم تستطع مقاومته بعد كل هذا الوقت، أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقترب منه أكثر. “أنا مش هقدر أعيش من غيرك…متسبينيش تاني..انا.. انا.. بحبك يا حمد”
+
حمد، الذي شعر بكل كلمة قالتها، اقترب منها أكثر، وعيناه تحملان اعتذارًا غارقًا في الشوق و هو يضمها بقوة تعبر عن عمق مشاعره مغمغما “و أنا بعشقك يا صافية”
كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد اشتياق جسدي؛ كانت بداية جديدة، مشحونة بالأمل، بالرغم من كل شيء.
+
بينما كانت أنفاسهما تلتقي، تلاشى كل شيء حولهما. أصبح الزمن غير مهم، وكل ما كان يعنِي لهما هو أن يكونا معًا، أخيرًا، بعد هذه المدة الطويلة.
+
يتبع…..
ايه رأيكم بصراحة؟!
الأحداث اتطورت بسرعة بس انا ذكرت انه عدت مدة كبيرة كانت كفيلة انها تغير حاجات كتير في الشخصيات زائد اني مبحبش المط في الأحداث لأنها بتحسسني بملل و بحب ادخل بسرعة في الأحداث المهمة و اتمنى تفهموا قصدي
هستنى رأيكم
مع تحياتي /دعاء فؤاد
+
التعليقات