رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل التاسع عشر
ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح.
ما تخافش من جني ولا من شبح.
وإن هب فيك عفريت قتيل اسأله.
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح.
(رباعيات صلاح جاهين)
لم يأت في باله أبدا أنه حين عودته مع والده إلى المنزل سيتفاجأ بملك التي شهد بعينيه دفاعها عن نفسها ضد جابر، شهد نجاح ما علمه لها، وشهد الذهول في أعين الواقفين جميعا، ولم ينه كل هذا إلا صوت نصران وهو يحث ملك: ادخلوا يا ملك جوا.
استجابت ملك له وبالفعل دخلت برفقة سهام وتبعتهما تيسير وبرفقتها هالة وما إن رحلن جميعا حتى جذب جابر الواقف أمامه من تلابيبه ناطقا بشراسة: مراتي فين يلا؟
ضحك عيسى ساخرا وهو يسأله باستهزاء: لا ده أنت شكلك لسه متربيتش بقى، يعني أنا قولت بعد اللي ملك عملته فيك هتقطم وتسكت لكن مكمل…
وعلى حين غرة دفعه عيسى بكل قوته مكملا أمام نظرات والده المتابعة بدقة لكل ما يحدث: عيب، عيب لما تسألني أنا مراتك فين.
هي مراتك أنت مش مراتي أنا
أشار عليه وهو يتابع إلقاء كلماته على مسامعه: واللي المفروض يبقى عارف مكانها أنت مش أنا.
رد عليه جابر متحدثا عن ندى باشمئزاز: ما أصلها من صنفك، وأنا قولت الصنف الزبالة ده لما يهرب أكيد مش هيروح غير عند اللي يشبهه.
انكمش حاجبي عيسى متصنعا أنه يحاول استنتاج شيء: صنف زبالة، و بيروح للي يشبهه، وهي قبلت بيك واتجوزتك، يعني تقصد تقول على نفسك أنها قبلت بيك علشان صنف زبالة؟
استشاط جابر غضبا وقبل أن يتطاول قبض عيسى على ذراعه محذرا بنظرات جامدة: أقسم بالله هتبقى جبته لنفسك.
وأكمل بنفس نبرته: مراتك مش هنا، روح دور عليها في حتة تانية ولما تلاقيها يبقى ليا حق يا بن منصور.
لم تكن نظرات عادية بل كانت أشبه بالأعيرة نارية التي لو أصابت عيسى لقتلته، لم يقطعها سوى صوت نصران الذي أنهى الأمر بأكمله بقوله: مراتك مش عندنا يا جابر، ولو جت هنا أنا هاخدها بنفسي أوديها بيت أبوها، وابقى روح بقى اتكلم معاه.
تركهما وغادر بانفعال جلي وما إن رحل حتى طالع نصران عيسى وبدا التساؤل في عينيه فقال عيسى وهو يرفع كفيه ببراءة: قبل ما تفتح التحقيق، أنا معرفش حاجة عن ندى.
مش مرتاحلك، بس هصدقك.
كان هذا قول نصران قبل أن يتوجه لدخول المنزل وتبعه عيسى الذي أخذ يفكر في قصة الهرب هذه، لقد طلبت منه المساعدة كثيرا لتتحرر من جابر ولا يفهم حتى الآن ما هو السبب الذي يمنعها من الطلاق، ليست في حاجة إلى أحد لما لا تستطيع ولما هربت، كلها أسئلة تدافعت إلى عقله وأثارت فضوله بسبب حلقة ما مفقودة وللأسف لا يعلمها.
لا تصدق ندى حقا أنها استطاعت فعلها، لا تصدق أنها وأخيرا تحررت من قبضة جابر، لم تعلم يومها إلى أين تذهب، كانت على يقين أن والد زوجها لن يقوم بعمل محضر سرقة لمصالحه المتبادلة مع عمها ثروت ولكنها قررت الاختباء عدة أيام حتى ترى ما ستنتهي إليه الأمور، فكرت في الاستعانة بعيسى ولكنه أول من سيشك به زوجها فاتخذت القرار بالذهاب لمن لن يأتي بعقل أحد، كان الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة مرهقا بشدة بالنسبة لها، أمنيتها الوحيدة الآن غرفة دافئة وفراش يحتويها حتى تسترخي تماما، وصلت إلى وجهتها وأمام الباب أصابها التردد، وكأن عقلها يحثها على التراجع، أغمضت عينيها بشدة وحاولت اكتساب الشجاعة وهي تدق الباب، كعادته يعيش في مكان وكأنه منعزل عن البشر، وكأن الطريق حول المنزل لا يوجد به سوى سيارته، بعد الفجر بدقائق بالتأكيد يتسأل الآن من يدق الباب عليه، ولم يستغرق الأمر أكثر حيث فتح صاحب المنزل الباب، وبدا على عينيه نومه وقد فتحهما بصعوبة ليرى من أمامه ولكنه لم يبذل مجهود أكثر حيث أنهما فتحا على وسعهما ما إن لمحاها ورفع هو حاجبيه ناطقا بغير تصديق: ندى!
تشعر بالحرج الشديد ولا تعلم ماذا تقول ولكن ليس أمامها سواه لذلك صارحته بعينين دامعتين: باسم أنا هربانة من جابر، بص أنا عندي مشاكل كتير، وملقتش حد أروحله غيرك.
نظراتها المستجدية دفعته لقول: طب ادخلي يا ندى، اتفضلي تعالي.
نزلت دموعها وما إن دخلت وجلست على الأريكة حتى وضعت كفيها على وجهها تبكي بحرقة، أحضر لها المياه سريعا وقرب منها علبة المناديل الورقية وهو يرى شهقاتها المتتالية فقال برفق: اشربي يا ندى واهدي، علشان نعرف نتكلم.
تناولت كوب المياه وشربت حتى ارتوت، ثم جذبت منديلا تمسح دموعها وهي تعتذر: أنا أسفة مكانش قصدي أزعجك، ومكنتش هجيلك أصلا لو لقيت حد غيرك.
وش كده!، طب قوليها بطريقة أحسن شوية، راعي مشاعري يا شيخة.
قالها ممازحا فابتسمت، تيقن من أنها هدأت بعض الشيء فسألها: إيه بقى اللى حصل؟
تنهدت قبل أن تخبره بنبرة ترجو مساعدته: أنا هحكيلك، علشان لو تقدر تساعدني.
بدأت في السرد وأنصت هو لها تماما وهي تقول: أنت عارف طبعا إني متجوزة جابر منصور، أنا والله عملت كل اللي أقدر عليه علشان العلاقة دي تنجح بس كانت عمالة تبوظ أكتر وأكتر، جابر علاقاته كتير، مفتكرش عدى يوم واحد من بعد أول سنة في جوازنا مخانيش فيه، وكل يوم كانت الدنيا بتبوظ أكتر لحد ما باظت خالص…
قاطعها سائلا بسخرية: باظت خالص لما عيسى نصران استقر في اسكندرية وبقيتي تشوفيه كتير صح؟
طالعته بنظرات حادة، لم تتوقع أن يقول هذا وهو يرى حالتها، لذا جذبت حقيبتها وقررت الرحيل وهي تخبره: أنا غلطانة إني جيت هنا.
تأفف باسم بانزعاج ولحق بها مسرعا وهو يعتذر عما بدر منه: تعالي يا ندى معلش، أنا أسف، كملي ومش هتكلم تاني خالص.
رأت في عينيه الصدق فقررت التراجع، عادت للجلوس من جديد، وانتظر هو حتى بدأت تتابع قص ما حدث بألم: أنا مكنتش عايزة أخلف منه، أخلف ازاي من واحد مبحسش بالأمان معاه تحت بيت واحد، كنت باخد حبوب من وراه لما حجة إننا نستنى شوية على البيبي مبقتش نافعة معاه، كان بيعايرني بالخلفة في الراحة والجاية لحد ما روحنا لدكتور وساعتها الدكتور قال إنه مش بيخلف.
كان باسم متشوقا لمعرفة البقية وأرضت هي فضوله حين أكملت: قولتله ساعتها اعتبر مفيش حاجة حصلت وأنا مش هجيب سيرة قدام باباك، مع إنه كان من حقي، كان من حقي بعد كل الذل ده أقول لأبوه ابنك هو اللي مش بيخلف مش أنا.
طب وبعدين؟
كان هذا سؤال باسم الذي ردت عليه بوجع: بعدين زي الهبلة بطلت الحبوب، وبدأت أحس بعدها بفترة بحاجات غريبة، ساعتها بيري قالتلي إن دي أعراض حمل، وده كان كابوس بالنسبالي، نزلت وقتها جابتلي اختبار حمل وطلعت حامل…
نطق بذهول: حامل ازاي؟
لا تقل سوى الصدق الذي تتيقن منه تمام اليقين: حامل منه، ساعتها دخل عليا الأوضة وشاف الاختبار، وضربني علقة موت، واتهمني اتهامات أنا مقدرش أقولها، تسابقت دموعها بقهر وهي تتذكر ما حدث وتحكيه: وملحقنيش من تحت إيده غير إن ساعتها عمو نصران وولاده كانوا جايين لباباه، و بيريهان خدتني وطلعت تجري وعيسى هو اللي وداني المستشفى، مع إني قولتله والله العظيم قبل ما يعمل أي حاجة تعالى نروح لدكتور واتأكد تاني بس هو مسمعنيش، وطلعت من المستشفى على بيت عمو ثروت، ورغم كل اللي حصل البيبي مماتش، أغمضت عينيها بشدة وهي تهتف من بين بكائها: ساعتها أنا أخدت حبوب إجهاض وعلى ما نقلوني مستشفى كان خلاص، مكنتش هقدر أظلمه وأجيبه بين اتنين عاملين كده.
و استنيت ساعتها من بابا إنه ينهي كل حاجه لكن زي كل مرة كان موقفه مايع، بعد اللي حصل ده بأسبوع جابر ووالده جم وكان اتأكد إنه بيخلف وهما قالوله إن البيبي نزل بعد الضرب اللي ضربهولي، ولما طلعلي الأوضة وقولتله إني هتطلق ومش هرجع معاه، صارحني بالحاجة اللي كانت هتفضل حبساني عندهم طول عمري.
سألها باسم ولم يستطع الانتظار: حاجة إيه؟
بابا كان خسر فلوس كتير في البيزنس بتاعه، وحاول يعوض الخسارة بإنه يستلف من عمو ثروت أو عمو سليمان لكن الاتنين رفضوا، واللي اداه ساعتها كان عمو منصور بابا جابر ومضاه على اللي يثبت حقه، ولبست أنا بقى جابر ساعتها قالهالي ومخافش قالي يا تكملي معايا يا أبوكي يدخل السجن باللي مضى عليه…
وكأن ما تقوله خناجر سامة تطعن بها ولا ترحم وكان للقادم النصيب الأكبر في الطعن وهي تكمل بحرقة: مقدرتش أواجه بابا، مقدرتش أكسره، رجعت مع جابر غصب عني، باباه كان عايز الجوازة دي تفضل مستمرة بأي شكل علشان نسبه ومصالحه مع عمي، وبابتسامة هازئة قالت: معالي الوزير.
وبعد ما عرفت الحقيقة جابر بقى أسوء من الأول بقى يعاملني زي الجارية، و علطول يضربني ويهين فيا وأقوله طلقني يهددني ويقولي لما يجيلي مزاجي، لحد ما جبت أخرى…
كان متأثرا بشدة بما تحكي، وحزينا على ما وصلت له، ذبلت تماما، من يصدق أنها هي، من يصدق من الأساس أن تلك الفتاة التي عهدها مدللة لا تعرف سوى الرفاهية وبالنسبة لها منتهى الوحشية هو رؤية إحدى الحشرات تحولت إلى ثانية تُضرب وتُهان، ثانية كانت المعاناة بارعة في نقش خطوطها على وجهها لتراها جميع الأعين، فاق من شروده وسألها بحزن: عملتي إيه يا ندى؟
فتحت حقيبتها وهي تقول: حطيت ليه هو وباباه منوم واستنيت لما ناموا، وكنت عارفة باسورد الخزنة فتحتها وخدت كل اللي يخص بابا وجريت، سيبت البيت وجيت على هنا.
ما إن انتهت حتى أخرجت ما مضى عليه والدها تعرضه أمامه وصاح هو بغير تصديق: أنتِ مجنونة يا بنتي، ده ممكن يعملك محضر سرقة ويقول إنك سرقتيه وهربتي.
وحين بدأت نوبة البكاء من جديد تراجع هو عن طريقته وقال برفق: اهدي خلاص، هجبلك حاجة تاكليها وارتاحي ونتكلم بكرا.
هزت رأسها رافضة وهي تقول أثناء مسحها لعبراتها: لا مش عايزة أكل، أنا بس عايزة أنام.
أعطاها ابتسامة قائلا: البيت بيتك يا ندى.
ثم عرض عليها: تحبي أخرج أيات في أي مكان والصبح أجيلك؟
وافقت مسرعة وقالت: ده اللي المفروض هيحصل أصلا.
ضحك وهو يمسح على عنقه بتعب ثم سألها ما جمدها: هو أنتِ مطلبتيش المساعدة من عيسى ليه؟
علشان مكنتش هستحمل أطلبها منه ويرفض.
ابتسم باسم وقال لها ما ضربها في مقتل: علشان لسه بتحبيه، بس هو بقى بيحب ملك أوي، عارفة ملك صح؟
احتدت تعابيرها وللمرة الثانية تقرر الرحيل ولكنه منع هذا بإشارة من يده حيث قال: مش هتتقمصي من كل كلمة بقى، أنتِ عارفاني وعارفة كلامي عامل ازاي، متبقيش عقلك صغير.
كانت تطالعه بغضب لم يهتم هو به حيث ضحك قبل أن يدخل إلى غرفته وقال: تصبحي على خير
ما إن دخل لغرفته حتى يستبدل ملابسه من أجل الخروج حتى استطاعت التأفف بانزعاج من عباراته التي تكشفها أمام نفسها ثم دلفت إلى الغرفة التي وجهها له قبل دخوله وقد حصلت أخيرا على ما تمنت، فراش يحضتنها حتى تمل الراحة.
في المقهى الذي اعتادا ارتياده، جلست شهد أمام طاهر واضعة كفها على وجنتها وقد ضمت خصلاتها بأحد الأربطة القماشية التي هجرتها منذ انفصلاهما، طال صمتهما وسألته: وبعدين يا عم ما تنجز، يعني أنا مخلصة الامتحان واستغنيت عن السرير وجيت معاك علشان نشوف حل وبعد كل ده ساكت.
ما أنا بفكر
رد عليها بغيظ دفعها لتقول: ما أنا حلتها، وبقولك خلي عمو يكلمها.
اعترض مسرعا وهو يوضح لها الأمر: لا يا شهد مش هينفع، أنا اللي غلطت من الأول وأنا اللي لازم أحل الموضوع من غير أي تدخل.
اتسعت ابتسامتها لتقول وهي تثني عليه: لا عجبتني، ثم قلدته قائلة: أنا اللي غلطت وأنا اللي لازم أصلح.
أكملت ضاحكة: ده أنا لما بغلط بلبس الليلة لأي حد معدي في الشارع.
ضحك وهز رأسه بمعنى ألا فائدة منها ثم قال ما انتظرت طوال جلستهما سماعه: وحشني شكل ده وأنتِ رابطة شعرك بيه.
أشار على الرباط القماشي على رأسها فابتسمت، وأكمل هو بانفعال وكأنه شخص ثاني: وكنت عايز اديكي مية قلم لما شوفت الصورة اللي زي الزفت اللي نزلتيها واحنا سايبين بعض، ايه يا ماما ده أنتِ كنتِ واكلة الروچ، ايه كل الأحمر ده
جحظت عيناها وتابع هو غير مهتما بذهولها: و عملالي شعرك بطريقة زي الزفت، وقال ايه متصورة وحاطة كابشن كاتبة فيه إني مش مهم باين، ايه حركات تالتة تالت دي يا أنسة متدنية.
أسرعت ترد عليه بنفس نبرته المغتاظة: على فكرة بقى الروچ ساعتها كان حلو عليا، وشعري كان مفيش زيه وأنت بتقول كده علشان كنت غيران ومولع يا كابتن سفيه.
تحدث وقد وصل إلى النقطة التي أرادها: يعني أنتِ عارفة أنك كنتي بتستفزيني؟
هزت رأسها بابتسامة صفراء فتوعدها بقوله: ماشي يا شهد، أتجوزك بس ومش هتشوفي الشارع ده تاني، علشان تبقي تعرفي تخرجي وتتصور…
بتر عبارته حين لاحظ تركيزها الشديد على الطاولة الواقعة أمامهما فاستدار ينظر لما تنظر وهو يسألها: في إيه يا شهد
شرحت له سبب تدقيقها النظر بهذه الطريقة قائلة: بص كده، الواد ده محسن أنا عارفاه، بس مش عارفة اللي قاعدة قصاده دي علا ولا واحده تانية، مش شايفة وشها.
هو يعرف محسن ويعرف ابنة عمها ولكنه لم يرد الاختلاط بهما لذلك ردعها بضجر: واحنا جايين هنا علشان نشوف حل ولا علشان نراقب محسن و علا.
لا أنت مش فاهم، أصل هو شكله بيزعقلها و علا دي روحها
وأشارت على أنفها متابعة: روحها هنا، و متخليش حد يزعقلها كده.
أثناء حديثهما دخل بشير من البوابة، ما إن وصل إلى الإسكندرية حتى ذهب إلى أحد الفنادق ليكون مستقره في الأيام التي سيقضيها بها، والآن كان في طريقه إلى منزل عيسى ولكن قرر أن يبتاع القهوة فتوقف وتوجه إلى هنا، قبل أن يكمل طريقه لمحهما، من جديد في طريقه علا وليست بمفردها معها محسن، حدث نفسه بغير تصديق: دي لو طالعالي في البخت مش هشوفها كل المرات دي.
قرر الجلوس على طاولة بعيدة نسبيا عنهما، ولكنه لم يستطع منع نفسه من مراقبتهما بتركيز بينما في التوقيت ذاته علا صوت محسن الذي قال بغضب: الكلام اللي أنتِ بتقوليه ده معناه إيه يا علا.
ردت عليه بضجر وهي تحذره للمرة العاشرة: محسن من فضلك وطي صوتك، وكلامي معناه إن الجواز مش بالعافية، وفهمتك و اتكلمت معاك أكتر من مرة، أنت يا محسن أحسن واحد بس مش ليا، علشان خاطري طلع أخويا شاكر منها وقوله إن أنت اللي مش عايزني.
انكمشت تقاسيمه وهو يسألها مهاجما: أنا عايز أعرف أنتِ هتفضلي سايقة العوج لحد امتى، بقالي سنة سايبك وكل يوم أقول بكرا تتعدل بس بتتعوجي أكتر…
لم تحتمل أكثر فردت عليه بشراسة: أنا مش بتعوج يا محسن، أنا عايزة أتجوز راجل مش واحد معندوش شخصية لو شاكر قاله ارمي نفسك في البحر هيروح يعملها، كام حاجة سودا من اللي شاكر عملهم كنت ممكن توقفه لكن سكتت وطاوعته؟
قلب الأمر برمته عليها وهو يقول بعد أن وقف: أنا فعلا هكلم شاكر بس مش علشان أقوله إني مش عايزك، علشان أقوله يقدم ميعاد جوازنا علشان أربيكي أنا طالما هما معرفوش.
أسرعت تقوم خلفه وتلاحقه قائلة: لا يا محسن، أنا متربية، و استنى أنا لسه مخلصتش.
دفعها وتابع سيره بلا مبالاة ولم ينتبه إلى أنها سقطت على الأرضية وحينها فقط نطقت شهد: ايه القرف ده، ازاي يعمل كده؟
أنا عارفة إنها مستفزة ولا تطاق بس مهما كان برضو.
لم يكن طاهر معها بل ركز فيما يحدث أمام عينيه، ركز في بشير الذي تحرك ناحيتها مسرعا ومد له يده حتى تقوم ولكنها رفضتها بكبرياء قائلة بعينين دامعتين بعد ما حدث: شكرا أنا هقوم لوحدي.
كانت تشعر بالحرج مما حدث، و بكت كرامتها الثائرة فعرض عليها بشير وللمرة الثانية بعد أول مرة قابلته بها تشعر بنبله: معاكِ عربية تروحي ولا تحبي أوصلك؟
هزت رأسها رافضة وهي تحارب بكل طاقتها الدموع المتكونة في عينيها وقبل أن تتحرك للمغادرة قال بشير لها: هو ممكن يكون مخدش باله إنه زقك، ومخدش باله برضو إنك وقعتي، بس عيب عليكِ أنتِ لما متاخديش بالك إنه صاحب أخوكي شاكر، يعني من نفس صنفه
طالعته فختم ما بدأه بقوله: الحقي نفسك ده لو فعلا أنتِ مش من صنفهم، أما لو زيهم بقى وده الاحتمال الأكبر فيلا بالشفا.
أشعل غضبها وجعلها تسأله: ولما هو بالشفا قومت ساعدتني ليه؟
ضحك على تحولها هذا ورد عليها مشيرا على نفسه: علشان أنا مش زيهم، عندي حاجة مش عنده ولا عند شاكر، تحدثت عيناه قبل فمه وهو يخبرها بالفرق: عندي أخلاق.
ولم يستطع فؤادها سوى التصديق على هذا، لم يستطع أن يقول أثناء هرولتها للرحيل من هنا سوى أنه صادق حقا.
كان حسن في طريق عودته مع شقيقته، بعد أن طلبت منه برجاء أن تبقى حتى تنهي اختبارها، لم تحتمل البقاء، تشعر وكأن كل شيء حولها سيفتك بها، وبدأت أطرافها ترتعد وطلبت بإصرار العودة، وطوال الطريق تسمع تساؤلات حسن، مرة برفق يسألها عن سبب لحالتها هذه وأخرى بانفعال، ولم يحتمل أكثر وسألها بغضب: هو أنتِ مش عندك زفت امتحان بكرا، يعني ايه مش هتمتحني، أنا عايز أعرف أنتِ فيكي إيه؟
كانا أماما محل هادية فصاحت بعدم تحمل: نزلني.
وحين تجاهلها صرخت عاليا فاضطر إجباريا إيقاف السيارة وهو يطالعها بذهول، نزلت منها وهرولت ناحية المحل وما إن وجدت مريم حتى ألقت بنفسها داخل أحضانها وهي ترجوها ببكاء: مريم علشان خاطري روحيني أنتِ.
تسائلت مريم بصدمة: في إيه يا حسن؟
جذب شقيقته عنوة وهو يرد: في إن لو اللي في بالي صح ليلتها مش هتعدي النهارده.
أبعدته مريم عن رفيدة صائحة: أنت اتجننت، سيبها أنا هروحها.
كان قولها حازما وبالفعل أخذت رفيدة وتحركت بها ولحق هو بهما ناويا ألا يمر اليوم حتى يعرف سبب حالة شقيقته هذه.
في نفس التوقيت كان عيسى مسترخيا في غرفته يقلب في هاتفه بملل، بحث عن ملك ولكنه لم يجدها في الأسفل، دقت الباب حين أتت فسمح لها بالدخول قائلا: أنا دورت عليكِ تحت
كنت مع يزيد.
يعلم رغبتها الشديدة في السؤال الآن ولكنها تصنعت أنها أتت لغرض آخر: أنا هروح لماما ساعه كده وهرجع.
ضحك وسألها بمكر: يعني مش جاية تسأليني عن الكلام اللي قاله جابر؟
طالعته بغيظ فترك هو مكانه على الفراش ونزل ليقف أمامها قائلا وهو يصفق: أنا بقى جاي أقولك براو يا ملك، شوفتي العلم نور ازاي؟
ضحكت عاليا واتجهت إلى الأريكة لتجلس عليها وهي تسأله: هو شكرا للي علمني وكل حاجة، بس بصراحة أنا عايزة أعرف إيه كلام جابر ده.
بمجرد أن انتهت جملتها حثها هو قائلا بابتسامة: طب تعالي هوريكي حاجة.
قامت معه وأشار هو على الجزء الخشبي في فراشه قائلا: بصي كده.
نظرت ولمعت عيناها مما رأته، ابتسامة واسعة ارتسمت على وجهها وهو يقول بما أسرها: أنا عادة لما بتجنن بقعد أكتب اسمي في كل حتة كتير، ومن كام يوم كنت متجنن الجنان ده بس لقتني بكتب كده.
أرادت سماع اسمها منه فسألته بابتسامة ماكرة: بتكتب إيه؟
ضحك وهو يرد على سؤالها الماكر: لا دي طريقتي أنا على فكرة ومش هريحك برضو وانطقه.
جذبت الكوب الزجاجي ورفعت حاجبها بتحذير فضحك عاليا وانتشله منها قائلا للمرة الثانية نفس الجملة التي خطفتها مسبقا: ملك، اللي لو كانت اتسمت بأي اسم تاني مكانش هيليقلها…
أكتر انسانة خطفتني من غير أي مجهود، خطفتني علشان هي ملك بس.
ساهمة ولا ترد، لحديثه تأثير السحر عليها ولم تستطع إلا قول: على فكرة أنت…
أكمل هو الجملة بدلا عنها بضحكته المشاغبة: بوترك…
قلدها وقال الجملة كاملة: على فكرة أنت بتوترني.
ضحكت ولم يسرق لحظاتهما هذه سوى سماعه صوت الصياح في الخارج وتحديدا صوت شقيقته رفيدة، هرع من الغرفة إلى الخارج من المفترض أنها ذهبت إلى الجامعة برفقة حسن، خرج ليجد شقيقه يصيح بغضب: بت أنتِ اقفي هنا وكلميني.
هرول مسرعا إلى الأسفل وتحديدا ناحية شقيقته التي تحتمي بمريم وتبعته سهام التي عنفته قائلة: في إيه و بتزعق لأختك كده ليه؟
اسأليها ايه اللي مشقلب حالها وعامل فيها كده…
توجه إلى عيسى بالقول: اسألها رجعت ليه، اسألها مش عايزة تحضر الامتحانات ليه؟
صرخت بنبرة باكية: ملكش دعوة بيا، ملكوش دعوة بيا كلكم، سيبوني في حالي.
كانت مثيرة للشفقة وهو ترجو عيسى وكل إنش في جسدها يهتز: قوله ملهوش دعوة بيا يا عيسى.
طلعيها فوق يا مريم.
كان هذا قول عيسى الذي استجابت له مريم ولكن قبل رحيلها ألقت على مسامع حسن كلمات بنبرة حادة: أنت واحد معندكش دم.
سحبتها وصعدت إلى الأعلى وهرولت سهام خلف ابنتها بلوعة، حمد عيسى الله أن والده بالخارج وحينها استطاع دفع حسن بعنف سائلا بانفعال: أنت عقلك فوت منك يلا ولا إيه؟، من امتى وحد مسموحله يكلم رفيدة كده؟
رد عليه بنبرة مهاجمة: ما هو لما تبقى حالها مقلوب كده، يبقى ليا حق أسألها بدل ما تضيع مننا.
اهتز الهاتف في جيب عيسي فأخرجه، إن كان رقم آخر ما كان ليرد ولكنه مجبرا اضطر للرد: ألو.
لم يعرف حسن الحديث الدائر ولكنه تيقن أن خلف هذه المكالمة شيء مريب حول شقيقه إلى شخص آخر، شخص وكأنه يستعد ليصارع ثور، احمرت عيناه، وبرزت عروقه وبدا الغضب جليا على وجهه.
وخرج إلى الحديقة ليكمل المكالمة بمفرده، اتجه حسن إلى أعلى وتحديدا غرفة شقيقته التي تجمع بها ملك و مريم ووالدته، حذرته مريم بحدة: اياك تقربلها تاني.
استخدم الرفق هذه المرة وقال بنبرة لينة: طب قوليلي يا رفيدة مالك، محدش هيساعدك غيرنا يا حبيبتي، اتكلمي متخافيش، لو عايزة اخرج وتقولي لماما ماشي.
كانت ترتعد بشدة وتحتضن والدتها وشهقاتها في سباق، لم يقطع كل هذا دقات هالة على الباب والتي تبعها دخولها وقولها: اتفضلي يا أنسة رفيدة، كوباية ليمون تروق دمك وهتبقي زي الفل.
لا أنا اللي عايز ليمون.
صوت بث الرعب في خلاياها، هذا الذي لا ترتاح له مطلقا، صوت عيسى الذي ما إن قال هذا حتى أسرعت تقول: لا ده بتاع أنسة رفيدة.
أخطأت وهي تعلم هذا، كان الجميع يتابع ما يحدث باستغراب وخاصة حين تداركت الخطأ قائلة بارتباك: لو عايز هنزل اعمل لحضرتك.
كان قوله حاسم وهو يشير على الكوب بيدها قائلا: اشربي الليمون ده.
جحظت عيناها، وحاولت قلب الأمر عليه وهي تصيح بحدة: هو في إيه يا أستاذ عيسى، مالك بتكلمني كده ليه؟
ابتسم وهو يرد عليها بما أخافها أكثر: أنا لسه مكلمتكيش…
كرر للمرة الثانية: اشربي اللي في ايدك.
الرعشة أصابت يده وبدأ في فقد كل ذرة تعقل لديه، تناول الكوب منها وألقى بما فيه على وجهها فشهقت بصدمة وعلت الأصوات من حوله تعترض على فعلته ولكنه ألقى بالكوب على الأرضية ليسقط متهشما وهو يصيح: أنا مش عايز أسمع كلمة من حد غيرها.
الموت أهون الآن، هذا ما حدثت به نفسها أما هو فكان يتكرر في أذنه الآن مشهد قديم، يسمع نفسه الآن يسأل شقيقته: هو ايه اللي كنتي بتديه للبنت الجديدة ده؟
ويسمع صوت شقيقته تقول بابتسامة: اديتها كام طقم من بتوعي، حرام هي صغيرة برضو، وأكيد ظروفها مش أحسن حاجة، بس متقولش لحد علشان خاطري علشان متحرجهاش.
فاق مما فيه على صوت هالة التي هتفت ببكاء: أنا معملتش حاجة حرام عليك.
صاح بغير تصديق بما جعلها تتجمد وجعل الجميع ذاهلا: يعني هي تديكي من هدومها باليمين، تروحي أنتِ بالشمال تحطيلها مخدرات يا جاحدة…
هزت سهام رأسها نافية بغير تصديق وهي تزيد من احتضان ابنتها، أما الإصرار في عين عيسى وهو يقول: ده أنا هدفنك أنتِ واللي جابوكي النهاردة.
جعل هالة تتيقن من أنها أخر لحظاتها مما دفعها للهرولة، هرولت إلى أسفل ولحق بها عيسى، دخلت إلى الغرفة الصغيرة التي ترقد بها وتبعها هو فأخرجت مسرعة سلاح خاص بها وصوبته ناحيته محذرة: أقسم بالله لو فكرت تعمل حاجة لهقتلك وأقتل نفسي.
لم يهتم بقولها واقترب أكثر بنظرات متحدية وكأنه يخبرها بأن الموت لا يفرق معه وبان هذا حقا حين قال: ده عندها.
وهنا فقط أدركت أنه لا مفر سوى معجزة، فمن أمامها ينوي نية واحدة فقط، نية لا يمكن تخطيها، نية قتلها ولكنها ستدافع عن نفسها بكل ما امتلكت من قوة، ستدافع وهي تعلم تمام العلم أنها مذنبة، ذنب لا يمكن نسيانه أبدا.
التعليقات