التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الثاني والعشرون

إلى متى؟
تقترب من الحافة ولا يدفعك سوى نفسك!
بل الأدق اقتربنا من الحافة ولا ينهينا سواك.

من جديد منزل والدتها، تحديدا المطبخ الذي اشتاقت له بشدة، ورائحة الطعام الشهي التي تنتشر في كل ناحية، ضوضاء شقيقتيها وضجر والدتها، انتهت هادية مما تفعله وغادرت المطبخ، خرجت إلى الردهة وجلست على المقعد المقابل للأريكة التي جلسن عليها فتياتها الثلاثة، حاولت شهد جذب المزيد من الحديث من شقيقتها التي أتت قبل قليل فألقت سؤالها من جديد: يعني الراجل اللي بعت البنت اللي عملت كده في رفيدة دي عمل كده ليه؟

لم ترد ملك الإفصاح عن ذلك، وخاصة أن عيسى قد أخبرها بمفردها لذلك ردت عليها: أنا مالي عمل كده ليه، هو كل اللي أعرفه إنهم عملوا كده، ورفيدة يا حبيبتي حالتها وحشة أوي.
أصاب الحزن والدتها وشقيقتيها على رفيدة وقد عبرت مريم عن هذا حين قالت بحزن: أنا زعلانة أوي عليها.
منه لله المؤذي يا بنتي.

كان هذا رد هادية والذي تبعه قول ملك وقد بدأت بث شكواها: وطنط سهام مش راحمة، كل ما تشوف وش عيسى تشيله الليلة كلها. أنا تعبت منها.
ردت والدتها تبرر فعل من تتحدث عنها ابنتها: علشان هي أمها يا ملك، طبيعي هتبقى مضغوطة وخايفة وهتقول كلام مش عاملة حسابه.

اعترضت ملك على ذلك وهي تسرد كل ما لديها: بس مش بالطريقة دي يا ماما، عارفة من شوية كنا رايحين نشوف رفيدة خلت عيسى جاي يدخل الأوضة وراحت قايلاله نايمة ابقى تعالى وقت تاني وأحرجته قدام عز ووالدته.
وهو سكت؟
كان هذا سؤال مريم الذي ردت عليه ملك ضاحكة: دخل الأوضة ولا كأنها قالت حاجة، وقالها روحي زي ما الحاج قالك وابقى تعالي وقت تاني.

ضحكا شقيقتيها في حين اعترضت والدتها من جديد قائلة: برضو معذورة، اللي حصل ده مش حاجة سهله يا ملك، شوفي كده لما أنتِ ولا حد من اخواتك بيجراله حاجة أنا بعمل إيه، حرام يا بنتي قدروا ظروف اللي قدامكم وهي أكيد شويه وهتهدى.
حركت شهد رأسها نافية وهي تصحح لوالدتها: لا دي مبتهداش، دي تهد بلدين، و ميقدرش عليها إلا ربنا، والله ما صعبان عليا حد غير رفيدة.

هنا تحديدا ابتسمت هادية بظفر وقالت قبل أن تغادر إلى المطبخ: كويس إنها طلعت منك، علشان متجيش تقوليلي بعد كده ادي طاهر فرصة، أنتِ وأمه متعمروش يا حبيبتي.
أدركت شهد الفخ الذي أوقعت نفسها به وضحكت مريم عليها قائلة بتشفي: أحسن تستاهلي.
قفزت شهد مسرعة وهرولت خلف والدتها صارخة: استني بس، ما هو أنا هبقى الناجية الوحيدة من البلدين اللي هتهدهم.

تبادلت مريم الضحكات مع شقيقتها ملك ثم سألتها: هو أنتِ هتقعدي النهارده ولا هتمشي؟
تشعر بالحيرة حقا فهي لا تعلم وصارحت شقيقتها بذلك: والله ما عارفة يا مريم، أنا كنت راجعة مع عيسى ولما عدينا من هنا قالي انزلي وهبقى اجي اخدك.
شردت في اللقاء مع شاكر، والذي تبعه خروجهما من منزل عمها، ناجح دائما في تعكير صفو كل ما هو جميل وفعل هذا اليوم حين اقتحم جلستها مع.

عيسى، هذا الذي التزم الصمت منذ خروجهما من هناك وما إن مرا أمام منزل والدتها أثناء عودتهما حتى عرض عليها: تنزلي؟
هزت رأسها نافية وهي تقول: لا، وقت تاني.
تعلم أنه توقيت صعب ولا ترغب في تركه وحده ولكنه قدم عرضه من جديد: انزلي وهبقى اجي اخدك، بدل ما تقعدي لوحدك، علشان أنا هبقى مع بابا ورانا حاجات.
طب ويزيد؟
كان هذا سؤالها باهتمام فجاوبها: معاه جدته.

فكرت قليلا ثم سريعا ما أخبرته: خلاص ماشي، ولما تخلص اللي وراك تعالى خدني أو أنا هبقى أجي.
ربت على كتفها مطمئنا بابتسامة: أنا هاجي.
منذ تلك المقابلة اللعينة مع شاكر وهي تشعر بتغيره، لذلك أعطته ابتسامة وهي تطلب منه: بلاش تخليه يتسبب في إنك عامل كده.
ثم قلدت ملامحه المنكمشة بضيق، فلم يستطع إلا الضحك فتابعت تذكره: زي ما بتقولي متخافيش منه.

ثم فتحت باب السيارة ونزلت وهي تلوح له قبل أن تتوجه إلى منزل والدتها ويتابع هو رحيلها ثم يغادر المكان قاصدا منزله.
النوم، هو الشيء الوحيد الذي تفعله ندى للهرب من الواقع، لا تعلم ما القادم، ولكنها تخشاه وبشدة، استيقظت على صوت دقات على الباب الخارجي فتركت الفراش وأسرعت نحو الخارج قائلة بنبرة عالية: ثواني يا باسم.

عادت للغرفة تبدل ثياب النوم سريعا بآخرى مناسبة وعدلت خصلاتها بإهمال واتجهت نحو الخارج وما إن فتحت حتى هتف بملل: إيه ده كله؟
اعتذرت عن تأخيرها، وأدرك هو من وجهها أنها كانت نائمة، فقبل اعتذارها وقال: أنا جبتلك الحاجات اللي طلبتيها اهي.
وضع الأكياس البلاستيكية على الطاولة وتابع: لو محتاجة أي حاجة قوليلي علشان اليومين الجايين مش هبقى فاضي خالص أجي هنا، عندي شغل كتير.

أسرعت تقول بذعر: إيه ده يعني إيه؟، أنت قاعد أصلا في حتة مقطوعة وأنا بخاف لو بتاع الدليري خبط.
رفع كتفيه قائلا بهدوء: متطلبيش دليري.
أنا مبعرفش أعمل أكل.
كان هذا ردها الذي علق عليه: في تونة، في مربى، فيه عسل، فيه سندوتش جبنة بيبقى حلو أوي بالليل.
سألته بانفعال: هو أنت بتهزر يا باسم؟
تحدث بنفس نبرتها: هعملك إيه يعني ما تتصرفي أنا مش ناقص وجع دماغ، بقولك عندي شغل ومش هعرف اجي.

طالعته بغضب مما قاله ثم توجهت نحو الغرفة تجمع متعلقاتها في حقيبتها، تجمعت الدموع في مقلتيها ولكنها جاهدت ألا تنزل واتجهت نحو الخارج وما إن وجدها تستعد للمغادرة حتى لحق بها سائلا: أنتِ رايحة فين؟
أبعدت يده وهي ترد عليه بحزم: ملكش دعوة.
وقبل أن تفتح الباب اعترض طريقها ووقف أمامه قائلا: مش هتمشي يا ندى.
لا همشي، علشان أنت مش ناقص وجع دماغ.

كان هذا ردها الذي جعله يردف وهو يحاول إرجاعها: مش هتعرفي تروحي مكان دلوقتي، والطريق وحش.
ابتسمت باستهزاء وهي تقول: زي ما جيت هنا، هعرف أروح أي مكان تاني.

أخبرها بتعب وقد حثها على النظر إليه: ندى أنا فعلا مضغوط في شغلي، وفكرة إني بنام في مكان برا بيتي دي مخلية يومي مش بيبقى أحسن حاجة، أنتِ عارفة مفيش أهل مفيش أصحاب، القرايب يتعدوا وكلهم بعيد فالبيت ده هو المكان الوحيد اللي برتاح فيه ومش هينفع أكون موجود وأنتِ موجودة، فمعلش استحملي لو قولت أي كلام.
أنا عايزة امشي.

قالتها وقد تحررت الدموع من عينيها، فتنهد بانزعاج، لم يرد أبدا الوصول إلى هذه النقطة، وأكد هذا بقوله: أنا أكيد مش بقولك كده علشان تعيطي، متخافيش أنا هساعدك لحد ما تطلقي منه واتأكد إنك كويسة.
مسحت دموعها وهو يقول مازحا: خلاص بقى متبقيش كئيبة، بس أنتِ أول ما تخلصي منه تروحي بيت أبوكي بقى، كل واحد أولى ببيته.
ابتسمت فأكمل: أما بقى لو حبيتي المكان فأنا معنديش اعتراض اتجوزك وتفضلي هنا.

بدلتها الجملة الأخيرة تماما، أصابها التوتر مما قاله، واختفت ضحكتها، ولم تجرؤ على النظر إليه، توجهت نحو الأكياس وتصنعت أنها تبحث عن شيء ما، فضحك بمراوغة وقال: الشريحة عندك، تقدري تكلمي والدك لو عايزة بس نصيحتي بلاش، واه صحيح جابر عامل محضر باختفائك والبوليس بيدور عليكِ في كل حتة.
شهقت بخوف وهي تسأله مسرعة: عامل محضر إني سرقته؟

هز رأسه نافيا وهو يقول ما يعرفه: اللي عرفته إنه عامل محضر بس انك اختفيتي، كنتِ رايحة لوالدك وفجأة اتقطعت أخبارك، واعتقد إنهم مجابوش سيرة لوالدك على حوار الشيكات علشان يعرفوا يفضلوا يلعبوا عليه.
جلست على أحد المقاعد وهي تفكر جديا في الأمر حتى وصلت إلى نقطة ما فأسرعت تقول: باسم ممكن أطلب منك حاجة.
أشار على المنزل من حوله سائلا: أكتر من كده؟، هتاخدي هدومي ولا إيه؟

احتدت نظراتها فضحك وهو يردف: بهزر، بهزر.
تأففت بغيظ ثم قالت: ممكن تكلم بابا من عندك وتقوله إنك عايز تقابله ضروري هنا.
انكمش حاجبيه باستغراب فأكملت: دي أكتر طريقة أمان أعرف أخليه يجيلي بيها هنا وأشوفه.
نفذ لها طلبها، كان بارعا في التمثيل على والدها الذي تحجج بأشياء كثيرة حتى لا يحضر ولكن رد باسم كان واحد وهو: أرجوك الموضوع ميحتملش أي تأخير، شغل حضرتك في خطر كبير.

ضغط عليه بطريقته فاستجاب، وانتظرا سويا حتى أتى والدها الذي ما إن قدم حتى كان باسم في استقباله قائلا: أهلا يا خليل باشا، اتفضل.
دلف معه نحو المنزل وهو يقول: أرجوك أنا مستعجل يا باسم ممكن تقولي إيه الموضوع؟
خرجت له من غرفتها وهي ترد على سؤاله: أنا يا بابا الموضوع.

اشتعل غضبه ما إن لمحها وقطع الخطوات القصيرة بينهما ليتمكن منها ويقبض على مرفقها صائحا: أنتِ هنا بتعملي إيه؟، يعني احنا قالبين عليكِ الدنيا والبوليس بيدور في كل حتة وأنتِ قاعدة هنا.
دفعها فسقطت على الأريكة وهو يتابع توبيخه: عارفة شكلي كان إيه لما منصور وابنه جم وقالولي بنتك هربت؟، عارفة هددوني بإيه؟
صاحت بانهيار: خلاص كفاية.

تحركت نحو حقيبتها بانفعال وأخرجت بعض الأوراق منها ثم وقفت أمام والدها سائلة: هددوك بدول؟، هددوك بالشيكات دي؟
بهت والدها وتجمعت العبرات في عينيها وهي تصيح: رد عليا، هما دول؟، هما دول اللي بسببهم كنت في كل مره بحاول اتطلق من جابر بترفض؟، دول اللي بسببهم حتى لما ضربني علقة موت وكنت هروح فيها رجعتني ليه؟
صرخت بانفعال وهي تقبض على قميص والدها: رد عليا يا بابا.

كان باسم يتابع كل شيء باهتمام، المواجهة الحادة بين الأب الذي ظن أن ابنته لا تعلم حقيقة الأمر والإبنة التي تكشف ما لديها مثيرة للغاية، لدرجة دفعته يهمس وهو يشاهد باهتمام: ده أنتوا ليلتكوا ليلة.
قال هذا وقد انتوى عدم الذهاب لعمله ومتابعة ما يحدث هنا حتى يعرف على ماذا سينتهي الأمر.

الأيام ثقيلة حين يتم اختبارنا فيها خاصة فيما نحب، كذلك كانت الأيام على الجميع منذ ما حدث في رفيدة، و في أحد الصباحات خاصة في تلك البقعة التي التفت الأراضي الزراعية حولها، وقد اختارها.

نصران لتبقى بها ابنته، وقفت سهام في المطبخ تعد وجبة الطعام لابنتها وقد أحضرت الدواء، نظرت من النافذة الصغيرة بحزن في الخارج، في مثل هذا التوقيت كانت تكون في منزلها تعد المائدة مع تيسير من أجل تناول وجبة الإفطار، فاقت من شرودها على صوت والدة عز التي سألت: عز برا يا ست سهام، لو ناقصك أي حاجة قوليلي ابعته.
شكرتها بابتسامة قائلة: شكرا يا أم عز أنا معايا حسن لو احتاجت حاج…

لم تكد تكمل حتى سمعت صراخ ابنتها الذي شق أذنيها، هرولت بذعر هي ومن تحدثها ناحية الغرفة ووجدت ابنها في الداخل بحاول إخماد ثورة شقيقته التي كان كل إنش بها يرتعد وهي تصيح: أنا مش قادرة يا حسن، مش قادرة خلاص.
هرولت ناحية والدتها ترجوها ببكاء انفطر له قلب سهام: علشان خاطري يا ماما اعملي حاجة، اديني أي حاجة.

أخذت تضرب بقدميها على الأرضية كالصغار وأخيرا توصلت إلى الفرار من هنا، كان حسن يبكي على وضعها، ولم يستطع التحمل، صدمه أنها تفر فهرول خلفها، وصلت إلى الباب ولكنها وجدت عز يقف في الخارج كحائط منيع فصرخت في وجهه: ابعد، ملكش دعوة بيا، محدش ليه دعوة بيا.
كبلها ليمنع خروجها وحاول إدخالها عنوة على الرغم من صراخها وكل محاولات الرجاء ولم يرد إلا بقول: مفيش خروج من هنا يا رفيدة.

تمكن من إغلاق الباب وحين أتى حسن يقرب منها الدواء الذي كتبه الطبيب رفضته بعنف وهي تقول: أنا مش هاخد حاجة.
جلست على الأرضية وانكمشت على نفسها وهي تبكي بعنف، وقف حسن ووالدته عاجزين، لا يعرف ماذا يفعل أول مرة يتعرض لهذا، والمؤلم أكثر بالنسبة له أنه في شقيقته.
جلس عز في مقابل رفيدة متحدثا بنبرة حفزتها على النظر له على الرغم من كل ثورتها: رفيدة بصيلي.

طالعته وهي تضرب قدميها الموضوعتين على الأرضية ببعضهما ولا تتوقف عن نزف العبرات والارتعاد، فثبتها بقبضتيه حين قبض على كتفيها طالبا: الدوا ده بيقلل كل اللي بيحصل دلوقتي، بيقلل من الأعراض دي، محدش هيجبرك تاخديه، بس لازم تبقي عارفة لو مخدتيهوش الأعراض دي هتزيد وهتعبي أكتر، والأيام دي هتبقى صعبة أكتر كمان، أنتِ عديتي شوية حلوين…

كانت تنتبه له تارة والآخرى تغمض عينيها بشدة وتهز رأسها بنفي، حتى قال جملته: اسمعي الكلام وخديه.

تناولته منه ببكاء واقترب حسن منها بكوب المياه وما إن تناولته حتى احتضنها شقيقها وقد جلس على الأرضية جوارها، ورأت والدة عز انهيار سهام التي أوشكت على أن تسقط فاقدة للوعي فجذبتها من ذراعها تحسها على الجلوس، بعد محاولة الهرب الفاشلة نجحوا في إعادتها إلى الغرفة من جديد، كانت تبكي بنبرة عالية وذهب حسن ناحية عز يسأله بخوف: هي هتفضل تصوت كده كتير؟

حثه عز بهدوء: حسن خليك جامد، من شوية عرفت تغفلكم وتطلع تجري والحمد لله إني كنت موجود، كل اللي بيحصل ده طبيعي، هي هتعمل كده شوية وهتهدى شوية وهترجع تعمل كده تاني، الكام يوم دول بيبقوا أصعب فترة في التبطيل.
لم يمر الكثير حتى أتى عيسى الذي هاتفه عز، ما إن لمحه حسن حتى هرول ناحيته هاتفا بنبرة باكية: عيسى أنا مش قادر أشوفها كده، ومش عارف اتعامل معاها.
حسن.

نطق اسمه بتحذير ثم تابع بانفعال: أنت هنا تركن مشاعرك على جنب، أنت جاي علشان تهديها وتساعدها، كلنا مش مستحملين نشوفها كده بس مفيش حد هيتصرف غيرنا…
ربت على كتفه طالبا: خليك كبير يا حسن.
أنهى الحديث ودخل لها الغرفة، كانت والدتها معها ووالدة عز أيضا، ولأول مره يشعر بالشفقة حيال سهام التي تحدثت بانهيار: أنا مش عارفة اعملها حاجة، هي عمالة تصوت وتترعش وحاولت تمشي…

تتوسله وهي تسأل بأن يكون رده به أمل: هي هتبقى كويسة، صح؟
بلاش الكلام ده قدامها.
هذا ما همس به لها ثم أشار لوالدة عز حتى تأخذها وتغادر الغرفة، لم يبق سواهما كانت تضع يدها على رأسها وتعتصر جفونها من شدة الألم فألقى على مسامعها: مش قولنا هتستحملي علشان تعدي؟
مش قادرة.
هذا ما قالته وكررته وهي تصرخ فأخمد ثورتها حين قيدها وواجهها بعينيه يبثها قوته: لا هتقدري، الأيام اللي فاتت كانت أصعب، اجمدي، كلنا جنبك.

تناول ملعقة من العلبة الموضوعة على حامل الطعام وقربها منها قائلا: يلا كلي.
كانت ملعقة من عسل النحل الذي لطالما أحبته ولكنها الآن لا تطيق أي شيء تريد فقط أن تخمد الحرب الدائرة في رأسها، هزت رأسها نافية بأنها لا تريد فحثها وهو يقرب الملعقة أكثر: يلا يا رفيدة، بابا كان جايلك وأنا قولتله بلاش دلوقتي، عايز لما يجي يقول إنك جدعة وعديتي، يلا علشان خاطري.

فتحت فمها وقد قتلت الدموع عينيها فأطعمها والقهر يأكل داخله، ناولها ملعقة آخرى بصعوبة ثم احتضنها وهو يقسم أن يكون ثمن الانطفاء الذي تمكن من عينيها غالي، غالي وبشدة.
كانت مريم تقف في المحل بدلا عن والدتها التي صعدت إلى الأعلى، تعبث بهاتفها ولم يقطع اندماجها سوى صوت حسن الذي قال: كويس إنك هنا.
بدا على وجهه كم هو مرهق، حزين، للمرة الأولى تراه هكذا، سألته بهدوء: في حاجة يا حسن؟

هديكي حاجات بتاعتي وهقولك على حد تديهومله علشان لازم يتسلموا وأنا مش هينفع أنزل الكلية.
وافقت على الفور وهي تقول: خلاص ماشي هات اللي أنت عايزه وأنا هوديه.
شكرها بامتنان وكان سيرحل فنادته بتردد: حسن.
استدار يطالعها فقالت بحرج: هو أنا مش عارفة المفروض أقول إيه، بس أنا متأكدة إني مش حابة أشوفك كده وأكيد رفيدة كمان مش هتحب تشوفك كده.

دخل إلى المحل وسألها بعينين منهكتين وقد بان بريق الدموع فيهما: هو أنا ممكن أعمل حاجة؟
سألته باستغراب عما يريد فعله، ففاجأها باحتضانها، لم يكن في حالته الطبيعية، أراد فقط فعل ذلك، جحطت عيناها وسريعا ما دفعته بعيدا عنها، طالعته بغضب شديد، تسارعت أنفاسها لا تصدق ما فعله، كانت عيناه تحتضنها وهو يقول: أنا أسف.
ولكن كان ردها حاسما، كلمة واحدة وضحت فيها استنكارها لفعلته: امشي.

لم يعترض، استجاب سريعا لرغبتها وقبل أن يرحل قالها مرة ثانية: أسف.
ثم غادر المكان تماما وتركها خلفه في صدمتها من فعلته الجريئة والتي لم تصدق أبدا أنها حدثت بالفعل، هذه الفعلة التي لو كان أخبرها أحد أن حسن سيفعلها لأقسمت أنه ليس إلا كاذب كبير.

لم يعد لأخذها كما قال، أخبرها أن تبقى عند والدتها وأرسلوا الصغير أيضا، وقيل أنه الأفضل، ومنذ ذلك الوقت وهي هنا، افتقدته ملك كثيرا، كانت تفكر فيه أثناء جلوسها في غرفتها وجوارها الصغير، وقد ذهبا شقيقتيها لشراء بعض الحاجات لوالدتها، ونزلت والدتها إلى المحل، سمعت صوت أمها في الخارج ترحب بأحدهم فهرولت تجذب حجابها وتخرج لترى من، هرول يزيد قبلها وسمعت صياحه الفرح وهو يرحب بعمه قائلا: عيسى.

خرجت وطالعته بعينين بهما العتاب، تركتهما والدتها واتجهت إلى الأسفل من جديد، فقالت ملك: كان على أساس هترجع تاخدني.
لم يبرر موقفه فقط عبر عن اشتياقه خلسة في غفلة من الصغير: وحشتيني أوي.
طالعته بحزن وهي تقول: أنا زعلانة.
ابتسم هو يشير بعينيه على جانب عنقها حيث كتبت حروف اسمه وهتف: وأنا وحشني ده أوي.

توردت وجنتاها قبل أن تقول بنبرة عالية ل يزيد وقد أربكتها نبرة عيسى وما قاله: تعالى يا يزيد ساعدني يلا نحط الأكل.
أكل إيه أنا همشي، أنا جيت بس علشانك.
طالعته بغيظ فأكمل: والله بعمل مية حاجة، وجودك هنا اليومين دول أحسن، أنا شبه مبنامش.
جذب الصغير وحمله طالبا: ما تقولها حاجة.
سأله يزيد ضاحكا: أقولها إيه؟

همس عيسى في أذنه بشيء ما فاعتدل يزيد وهتف بضحكة ماكرة: ملك لو مصالحتيهوش هو هيشوف حد تاني يصالحه غيرك، وهيخاصمك خالص.
علقت بضجر: هتشوف حد تاني؟
ذهبت ناحيته وأخذت تحركه ناحية الباب قائلة: طب خلاص روح شوف حد تاني.
هز رأسه نافيا وهو يسألها بابتسامة: يعني ينفع أشوف حد تاني وأنتِ هنا؟، عيب في حق عينيكي والله.
وأشار على عينيها سائلا: بقى دول يتسابوا؟
طلبت منه برجاء هذه المرة: هتقعد تاكل؟

ودون أي اعتراض هز رأسه وهو يقول غامزا: هقعد علشان عيونك.
ابتسمت وتوجهت ناحية المطبخ بينما جذب هو الصغير الذي بدأ أسئلته عن رفيدة ولماذا تأخرت في سكنها الجامعي كما أخبروه هذه المره، صار يستفسر عن كل شيء حتى قال عيسى بضجر: عارف ياض أنا صدعت منك، إيه الرغي ده كله، دي مش أسئلة طفل، أنا عرفت أبوك بيخاف يسيبك لوحدك ليه، الدماغ دي متتسابش لوحدها.
ضحك يزيد وقد أخذ عيسى يلاعبه حتى نادتهما ملك: يلا تعالوا.

هرول الصغير أولا ولحق به عيسى الذي ما إن لمح ما على الطاولة حتى تغيرت تعابيره تماما، اختفت ضحكته، وأشار على الموضوع قائلا: ملك أنا مباكلهاش.
سألته برفق: ليه؟، طب اقعد طيب
كانت قد علمت بالأمر من تيسير التي قالت أمامها حين مرة أنه يرفض تناول هذه الوجبة وحجته الدائمة أنه لن يتناولها إلا من يد والدته، ولقد رحلت والدته ومن بعد رحيلها ما عاد يأكلها وكأنها جمر على الرغم من حبه الشديد لها.

بعد أن طلبت منه الجلوس تردد قليلا قبل أن يجلس وما إن جلس حتى قربت الطبق منه سائلة بغيظ: في حد مبيحبش الفتة يا مفتري.
أبعد الطبق قائلا بحزم: مباكلهاش يا ملك.
قربت منه الملعقة وأثناء قولها برجاء: طب خد معل…
وقبل أن تكمل جملتها كان قد دفع الصحن الموضوع أمامه بانفعال فوقع على الأرضية وصاح بانفعال: هو أنتِ غبية، ايه مبتفهميش؟..
قولتلك زفت مباكلهاش، أنا غلطان إني جيت هنا أصلا.

وكأنه آخر غير ذلك الذي كان معهما قبل قليل، طالعه يزيد بغضب وسريعا ما هتف: أنا مبحبكش.
ترك الصغير المكان وتوجه ناحية الغرفة، أما عيسى فلقد تحكمت منه نوبته، سيطرت عليه فقال ما لم يرغب أبدا في قوله، سُلِبت إرادته ففعل أفعال حمقاء وتفوه بما ألمها.

غادر المنزل بأكمله، حتى لا يتطور أكثر، وبقت هي مكانها تطالع الطبق على الأرضية بعينين دامعتين ولا يتردد في أذنها إلا آخر ما قاله، هناك حاجز منيع لا يقبل هو هدمه، هناك تلك النوبات القادرة على قلب كل شيء ببراعة شديدة.

أيام وأيام تمر ويتغير معها الكثير، وكذلك كانت الأيام التي مرت عليهم ولكن بها حقيقة لا تتغير وهي أنه لن يعرفك أحد أكثر من والديك، كذلك كانت حالته حيث كان نصران على يقين من أن هناك شيء ما يخفيه عيسى منذ مدة، شيء ضاعف همه، كان الجميع في المرسم، كل منهم على مقعد، طاهر الذي انتهى من العمل أخيرا، وحسن المتأهب، ووالدهم الذي لا يعرف ما سيدور إلا عندما بدأ عيسى الحديث قائلا: كنت قولتلكم إن صاوي بيفتتح فرع جديد لشركته، وعامل حفلة في الفيلا عنده عازم فيها ناس مهمة، ميعاد الحفلة بقى اتحدد.

الجميع منتبه ومنصت للغاية وخاصة حين قال طاهر: وأنا جاهز، واعتبر إننا دخلناها
لوح حسن بالكاميرا الموضوعة جواره على الطاولة قائلا بابتسامة متشفية: وأنا كمان جاهز.
تحدث نصران هذه المرة يسأل ثلاثتهم عن نواياهم: هتعملوا إيه؟
أخبره عيسى بضحك: الحاجة لما بتتقال بتقل قيمتها، أنا عايزك تتفرج علشان تستمتع أكتر، ثم استدار إلى شقيقيه مكملا: وبما إنكم جاهزين، فالحفلة بعد أسبوعين.

ثم أخرج من جيبه زجاجة بها نفس المادة التي كانت تُوضع لشقيقته وهو يقول: وأنا كمان جاهز.
التقت نظراتهم، وقد اتحدوا للحصول على ثمن ما حدث، ثمن ما تعرضت له شقيقتهم، وثمن مشاعر وخوف قتلهم على أحبتهم…
اتحدوا ليلقنوه درس أن العين بالعين والسن بالسن وهو كان الظالم في البداية، والمظلوم لا ينسى أبدا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *