رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الخامس
انفرجت زاوية فمه بسخرية وهو يطرف بعينه ببطء وكأنه يترقب ردة فعلي راغبا في التمعن والتركيز ليحرص على مراقبة كل حركة قد تبذر مني!
ارتجفت شفتاي هامسة وانا أركز في الصورة: أخبرني ما هذا!
اليس الأمر واضحاً؟
متى تم التقاط صورة كهذه؟! إنها صورة لي وانا نائمة بعمق وهو أيضا نائم بجانبي! لا أذكر بأنه قد.
مهلاً!
في الصورة يوجد على وجهي مساحيق التجميل، هذه الصورة التقطها في الأمس بلا شك! أو ربما اليوم في الصباح الباكر
قبل ان استيقظ ويحظر جيمي!
في الصورة أبدو نائمة بعمق على جانبي الأيمن، ووجهه مقابلا لي ويبدو نائماً!
الوغد. هو لم يكن نائما بل مجرد تظاهر وحسب!
نظرتُ إليه متمالكة نفسي وتساءلت بهدوء ظاهري: ما معنى هذا؟
رفع كتفيه وهو يخفض الهاتف بملل: انت صعبة يا شارلوت. سألتك مرارا وتكرارا ولكنني مجبر على تجاهل رأيك الآن.
ماذا تقصد؟ هل فعلت هذا لتجبرني على الزواج بك فقط؟ هل تعتقد بأنني سأتزوج بك لأجل أمر كهذا حقاً! لا تضحكني.
قلتها وانا أحاول انتزاع الهاتف من يده ولكنه رفعه يمنعني من أخذه وابتسم هازئاً: لما ردة الفعل هذه إذاً؟
ثم بدى وكأنه تذكر أمرا واسرع ينزل الهاتف مضيفاً: آه. دعيني أريك أمرا آخر.
عقدت حاجباي بتوتر حتى شهقت بعدم تصديق: أيها النذل اللئيم ما الذي تظن نفسك فاعل!
متى التقط هذه أيضاً!
من الواضح انني نائمة في غرفتي على السرير، لقد كانت صورة مشابهة للأولى ولكن المكان مختلف وهذه المرة كنت أستلقي على ظهري لا على جانبي!
انفجرت بغضب: لقد تجاوزت حدودك كثيراً! هل دخلت إلى غرفتي وأنا نائمة دون استئذان! ما هذه الوقاحة؟!
أمال برأسه ببرود: كنت أعلم بأنك ستصيبينني بالصداع والإرهاق لذا اتخذت قراري مسبقاً.
هل خططت لهذا من قبل!
قلتها بعدم استيعاب وحنق فمرر أنامله بين حاجبيه يغمض عينيه بإنزعاج: أخفضي صوتك لئلا يسمعنا جيمي.
غضبت كثيرا من طلبه ذلك وطريقته التي أبدت لي كم هو منزعج وكأن الصداع أصابه بسببي ولكنني تجاهلت الأمر وقلت بحزم وحذر: ما الذي ستفعله بهذه الصور؟ إلى ماذا تخطط؟ أخبرني!
لا داعي لأجيبك على سؤال كهذا! أنت تفهمين بلا شك.
أنا حقا لم أفهم شيئاً، ما الذي تنوي فعله تحديداً!
هل لديك أشقاء يا شارلوت؟
لماذا تسأل.!
ضاقت عينيه وهو ينظر للفراغ بشرود ثم همس بهدوء: انظري.
رفع الهاتف أمامي وحينها نظرت إلى الشاشة بتركيز، ما هذا أيضاً!
لماذا هذه الصورة؟!
سحقا له كيف فعل هذا!، في هذه الصورة أنا أبتسم وهو يحيط كتفاي بذراعه.
متى كان هذا أصلاً؟
متى وقفت بجانبه وابتسمت هكذا!
آ. آه! تذكرت. كان هذا حين فتحت الباب لتلك المرأة. ماذا كان اسمها؟ أماندا!
اللعنة لا يمكن أنها تواطأت معه كذلك!
شعرت بالسخط والقيت بالوسادة الصغيرة على الأرض محاولة انتزاع الهاتف بغضب وهو يبعده عني.
حاولت مرارا وتكرارا لأعترض بإنزعاج: توقف عن هذه الحركات الصبيانية واعطني الهاتف بسرعة أو اسرع بحذف
هذه الصور يا كريس!
أتذكر جيداً ان سمعتك تهمك كثيراً.
توقفت في مكاني ويداي في الهواء هامسة: سمعتي!
استوعبت بدهشة: هل تلمح إلى وظيفتي وتخصصي؟!
حين ابتسم بمكر قلتُ بغيض: أيها النذل.
لوى شفته وهو يدخل الهاتف في جيب بنطاله ورفع يده لينزل كلتا يداي محدقا إلى بتركيز.
اجبرني على الجلوس مجدداً وهو يجذب يدي، ظل ممسكاً بها واخفض عيناه العسليتان نحوها: شارلوت. استسلمي لأرى الخاتم الذي يزين إصبعك لثلاثة أشهر فقط.
ما هذا!
كلماته هذه.
جعلتني أشعر بالارتباك الشديد! إما أنه يتعمد إحراجي أو. أنني بالغت في ردة فعلي! نعم إنه الإحتمال الثاني.
مع أنها جملة متسلطة نوعا ما ولكنني أيضا أشعر ببعض الاحراج! لا يجب أن أكون ضعيفة لكلماته المعسولة.
انتزعت يدي فوراً دون أن أنظر إليه هامسة: لست كباقي النساء اللواتي كنت تمرح معهن لذا لا تتبع أسلوبك هذا مرة أخرى ولا تعتقد بأنك ستحقق ما تريده. وبالنسبة لما قلته للتو. لا رغبة لدي في قبول عرضك ولكنني أيضا لن أتجاهل تلك الصور لذا امسحها وحسب.
سمعته يتنهد بعمق وإحباط وشعرت به وقف فنظرت إليه بطرف عيني لأراه قد ابتعد عن الأريكة ووقف في منتصف الغرفة لأواجه ظهره، عقدت حاجباي اترقب أي كلمة قد يقولها والتوتر لا زال يجتاحني.
اخفضت ناظري مجددا إلى يدي لألمسها بيدي الأخرى محاولة التخفيف من اضطرابي الذي بدأ يزعجني أكثر.
ثم رفعت رأسي أنظر إليه، الغرفة مظلمة ولا ينيرها سوى اضاءة التلفاز والمطبخ التحضيري فقط، فالمطبخ التحضيري يقع مباشرة بالقرب من باب الشقة ومقابله غرفة الجلوس التي باتت ذات هواء ثقيل على بسبب كثرة الأحداث التعيسة المزعجة فيها.
لمحته يبعثر شعره حتى استقرت يده خلف عنقه وسمعته يقول بنبرة جافة ادهشتني: سأمهلك فرصة أخيرة.
ثم استدار نحوي واقترب بوجه جامد حتى وصل إلى وانحنى ليضح يده اليمنى على الأريكة بجانبي وقال بجدية يجوبها تحذير صريح: دعك من أمر الصور. أمر سخيف كهذا هو لا شيء بالنسبة لما يمكنني فعله. أنصحك بالتوقف عن الاعتراض حتى لا أضيف شيئاً أهم من سمعتك إلى اللائحة. حينها لن يكون هناك مجالا للتراجع، عندما اتخذ خطوة فلن أعود للخلف يا شارلوت. استفزازي أكثر لن يكون لصالحك أبداً صدقيني.
تبادلنا النظرات بصمت، كان ينظر إلى بثبات غريب بينما حدقت إليه بعيناي الخضراوان الحذرتان والمرتابتان حتى استقام واضعا يده في جيبه وقال متجها للغرفة: سأنتظر إجابتك الأخيرة عند الثامنة صباحاً. تذكري بعد الثامنة ستحصدين نتيجة أفعالك وحدك.
ولكنه وقف والتفت نحوي مبتسما بهدوء: غدا سأزيح الستار تماماً. فلقد أرهقني التظاهر طوال الوقت.
القى بجملته الغامضة تلك واكمل طريقه للغرفة!
بقيت في مكاني جالسة في غرفة الجلوس استرجع كل ما حدث وافكر بصمت.
سأكون كاذبة لو قلت بأنني لست خائفة.
تهديده ذلك. ما الذي من المفترض ان يعنيه!
ما الشيء المهم بالنسبة لي والذي قد يقوم باستغلاله؟ لا. بل كيف سيعلم بالأشياء المهمة عندي أصلاً!
شعوري بالارتياب نحوه يزداد في كل دقيقة! بدأت أقلق حقاً.
شخصيته.
إنها تتغير يوما بعد يوم!
لم يكن هكذا في البداية إطلاقاً! لقد كان كثير الضحك والتبسم، والآن بات مختلفاً تماماً ولا ادري لماذا! إن كانت تلك هي شخصيته فلا يجدر بأمر كالزواج أن يغيره هكذا. غير منطقي أبداً.! ما السبب إذاً؟
زميت شفتاي بقوة اعاود النظر إلى يدي.
شارلوت. استسلمي لأرى الخاتم الذي يزين إصبعك لثلاثة أشهر فقط.
لم يكن من المفترض ان أشعر بالإحراج حينها. لم يكن يقصد حتى التفوه بكلمات معسولة. بل كان يحاول ان يقول بطريقة ما أنني لست مخيرة في الرفض أو الموافقة. في تلك اللحظة كان يجب أن أصفعه بغتة وفجأة حتى يلزم حدوده معي.
ضربت جبيني بغيض من نفسي.
بينما هو يقوم بتهديدي أشعر في المقابل بالإحراج كالمغفلة الساذجة.
ولكن.
فليكن! لست تلك الفتاة التي سترضخ لتهديداته تلك، هو لا يعرفني جيداً ولذلك يظنني حمقاء ستخضع لمطالبه الأنانية، سأجد حلاً لموضوع الصور، حتى لو اضطررت لسرقة هاتفه ومسحها بنفسي! وكأنني سأشعره بخوفي منه. هه!
قلتها مشجعة نفسي ولكنني سمعت صوت في داخلي يضحك ساخرا لا تخدعي نفسك وتتظاهري بالقوة فالخوف منه تملكك بالفعل.
تجاهلت ذلك الصوت المزعج والذي لم يكن سوى الجانب الضعيف الجبان مني والقيت بكل شيء خلف ظهري فلقد اغلقت التلفاز وكل شيء واتجهت لغرفتي لأنام، على الاستيقاظ قبل الثامنة حتى أكون جاهزة للمقابلة.
في الصباح، كنت أتناول الفطور على الطاولة الموجودة في المطبخ، المكان مريحاً جداً بتوزع أشعة الشمس القوية والدافئة في غرفة الجلوس والمطبخ، والتي كان مصدرها الشرفة المفتوحة على أقصاها وستائرها التي رفعتها مسبقاً، كان التلفاز مفتوحاً بصوت منخفض على إحدى قنوات الرسوم المتحركة إذ كان جيمي يشاهدها ريثما اعد الفطور قبل لحظات.
إنه الآن يجلس أمامي وبجانبه والده، لقد اعددت الفطور قبل نصف ساعة وكم أدهشني استيقاظ جيمي مبكراً عند السابعة!
يبدو انه يتبع نظام محدد، ينام عند التاسعة ويستيقظ عند السابعة تقريباً.
لقد ارتديت ملابسي مسبقا حتى اغادر فوراً بعد انتهائي من الفطور، لم أفكر كثيرا فيما على ارتدائه فلا يوجد الكثير من الملابس لدي هنا، لذا انتهى الأمر بي مرتدية بنطال جينز، والقميص الأبيض ذو الرقبة العالية وفوقه سترة بنية.
كما انني رفعت شعري الطويل متحاشية ان تتناثر الخصل المتمردة كالعادة، يجب ان أكون رسمية في مظهري حتى لا يكون الانطباع الأول عني سيئاً وأفسد كل شيء.
كنت غارقة في التفكير بالمقابلة حتى سئمت صمتي وتساءلت مبتسمة: هل الفطور جيد يا جيمي؟
كان يمضغ الخبز الذي وضعت فيه عجة البيض الخفيفة مع الجبن واسرع يبتلعها مميلاً برأسه بسعادة: نعم! انا سعيد لأننا نتناول الفطور معاً!
حين قالها لم يكن ينظر إلى فقط، بل إلى كريس كذلك.
أعتقد بأن جيمي مستاء لعدم رؤية والده في الأيام الماضية، لابد وانه اول فطور بعد انقطاع دام لفترة قد ازعجته.
بالمناسبة انا لم اتحدث مع كريس منذ ان استيقظنا، هو أيضا لم يبادر بأي كلمة معي.
ولكنه كان يتصرف بطريقة طبيعية مع جيمي، ولم تفتني النظرات التي يلقيها على في كل حين.
أعلم.
هو ينتظر إجابتي!
لا يوجد لدي إجابة الآن، لا يجب ان اشغل رأسي بالتفكير في أمور مختلفة عن العمل.
العمل وحسب.
نظرت للساعة في هاتفي لأجدها تشير إلى الثامنة والربع.
علي أن أسرع حتى لا أتأخر، لقد بحثت عن عنوان المشفى والحمد لله انه ليس بعيد جداً من هنا. لو خرجت الآن سأصل قبل الموعد بعشرة دقائق أو أكثر.
نفضت بقايا حبيبات الخبز عن يدي وأسرعت أقف قائلة: جيمي سوف أخرج الآن، لدي أمر ما لأقوم به، قد ابقى في الخارج لساعتين على الأكثر ولكنني سأحاول ألا أتأخر.
ارتفع حاجبيه ولمعت عيناه العسليتان بالحيرة: حسناً. أمي سأكون بانتظارك لنستمتع معاً.
بكل تأكيد يا جيمي أنا لم أنسى! سنفعل ما يحلو لنا.
أضفت مبعثرة شعره: كن بانتظاري.
ابتسم بحماس: بالطبع.
حينها القيت نظرة سريعة على كريس لأراه ينظر إلى كذلك! ثوان حتى ابتسم: أكمل فطورك ريثما اوصل والدتك للباب يا جيمي، انتظرني لثوان فقط.
حسنا يا أبي.
قطبت حاجباي واوضحت له بعيناي رفضي للأمر وانا اسرع للباب بعد ان التقطت حقيبتي من على الأريكة، فعلمت بأنه قد تبعني بالرغم من ذلك.
فتحت الباب الذي يطل مباشرة على الشارع ولكن يبعد عن الرصيف بمسافة كافية، وبجانب الباب هناك باب آخر مشابه تماما فخمنت انه سكن أماندا وكم شعرت بالغضب عندما تذكرت أمر الصورة الأخيرة في حظورها. آه فقط لو أراها!، شعرت به خلفي فقلت بغية نزول الدرج: اعلم ما تريده ولكنني لا أستطيع التأخر أكثر لذا.
ولكنه ادارني نحوه ممسكاً بذراعي، ظل وجهه هادئاً جاداً وهو يقول: من الجيد انك تعلمين إذاً. إنني في انتظار كلمتك.
لدي أمر مهم ولا يجب ان اهدر وقتي في ال.
قرارك الأخير. إنني في انتظار سماعه.
أنت تعلم بقراري مسبقاً.
طرف بعينه اللتان كانتا تلمعان ببريق أصفر إثر انعكاس اشعة الشمس عليهما وعلى شعره، كما انتبهت للوشاح الذي وضعه الآن فقط على عنقه ومعطفه وتساءلت بحيرة لماذا يبالغ في كل مرة يخرج فيها من الشقة ويرتدي الكثير من الملابس السميكة!، عدت من عالم تساؤلاتي عندما تغيرت ملامحه وانفرجت زاوية فمه بسخرية: كان أملي سيخيب لو سمعت موافقتك.
هاه!
أمله سيخيب. لو وافقت على ما يريده!
عقدت حاجباي بعدم فهم: ما الذي تعنيه؟ ألم تقل بأنه من الأفضل ألا أرفض؟
أين تكمن المتعة في موافقتك فوراً!
أضاف بخبث أخافني: كنت في انتظار مبرر أو حجة مناسبة فقط، هذا كل شيء يا شارلوت.
م. ما الذي يقوله انا لا أفهم شيئاً! مبرر لماذا تحديداً؟
لم أشعر بنفسي وانا اظهر النظرة القلقة حتى ابتسم مقربا وجهه، ليهمس في أذني: لقد ازحت الستار. لا فكرة لديك كم كان التظاهر على وشك خنقي. أشعر بأنني قادر على التنفس بحرية.
اتسعت عيناي بارتياب ولم أكد أنظر إلى ملامحه حين ابتعد لأنه استدار ودخل!
وقفت في مكاني بفم مطبق انظر إلى الباب الذي أغلقه بشرود.
لا أسمع سوى صوت المارة والسيارات خلفي. والتي بدأ صوتها يختفي جراء تزاحم الأصوات في عقلي.
أصوات بنبرات مختلفة، أحدها يحذرني، يشجعني، يريبني، والأخير يقول لي أن أمر سيء قد يحدث يا شارلوت!
رفعت يدي إلى صدري محاولة تهدئة نفسي وانا اتنفس بعمق.
ما هذا الخوف الذي أشعر به!؟
حين تعالى صوت قوي لبوق أحد السيارات اجبر الأصوات الأخرى من حولي على العودة مجدداً إلى حاستي فعدت للواقع وانا ارص بأسناني بقوة واستدير لأنزل الدرج بخطى سريعة.
لأرفع يدي لأول سيارة أجرة، ركبتها واعطيته العنوان واسندت ظهري لأريحه وانا أنظر من خلال النافذة بشرود.
ملامحه وصوته الذي تغير فجأة لا يفارق عقلي.
يا الهي. لا يجب أن أفكر به او بما يقوله، على ان أكون هادئة وان أحافظ على اتزاني.
هذا ما واصلت ترديده لنفسي حتى وانا أنزل أخيرا من السيارة التي توقفت امام المشفى الضخم.
دفعت الأجرة وابتعدت عن السيارة لأقف أمام المدخل أرفع رأسي محدقة إلى المبنى والمكان من حولي.
ضخم. ضخم ومبهر جداً!
الساحة الأمامية المليئة بالزراعة هنا وهناك والطريق الذي يتوسط هذه الزراعة ليكون معبرا للناس والذي كان ذو تصميم رائع انيق جعلني أقف ابتسم بحماس شديد!
علي هذا الطريق كان هناك تلك الإضاءات الفخمة التي صُممت بشكل ملفت وكأنها إنارات من شوارع لندن!
وفي كل مسافة معينة يوجد مقعد خشبي طويل مصمم بمساند الحديد السوداء الراقية! ليس هذا وحسب فخلال كل مقعدين او ثلاثة يوجد لوحات ارشادية او اعلانية فيما يخص مجال الطب والأطباء والمعلومات الصحية.
أنا أعلم جيدا ان الخدمات الطبية هنا أكثر من ممتازة، فوجود المرضى أمامي من مختلف الأعمار ولكل منهم مرافقه من الممرضين اللذين يواصلون التبسم بلطف دليل كافي. إنهم يلقون اهتماما كافيا للصحة النفسية قبل الجسدية! الجودة هي شعارهم أعلم كل شيء فلم أتوقف عن قراءة المعلومات الموجودة في الموقع الرسمي والذي اظنني أكثر من قامت بتصفحه حتى الآن.
اسرعتُ في خطاي والابتسامة لا تفارق ثغري حتى دخلت وبحثت بعيناي عن ركن الإستقبال.
الردهة واسعة والسقف مرتفع كثيراً، الأرضية من البلاط اللامع الذي يظهر مدى الإهتمام بالنظافة والبيئة الخارجية لدرجة انعكاس أضواء السقف العالية على الأرض بوضوح!، لم تكن الأضواء تقتصر على لون واحد بل أن الإنارات الكبيرة كانت بيضاء بينما الصغيرة ذات لون أصفر، كثرتها وشدتها جعلتني أشعر ان دخول هذا المشفى ليلا سيكون اشبه بالتحديق إلى مجرة كونية!
اخفضت رأسي بسرعة حين سمعتُ صوت انثوي يسأل أحد الزوار ان كان بحاجة إلى المساعدة، فاتجهت لهناك واقتربت منها، جيد. إنه الاستقبال لذا يمكنني السؤال هنا، ذهبت إلى الموظفة المجاورة لها وابتسمت قائلة: مرحبا.
بادلتني الابتسامة فوراً: أهلاً.
أنا طالبة على وشك التخرج، لقد استلمت ورقة التقييم قبل أيام وفي الأمس تلقيت اتصالا لأجل المقابلة اليوم.
ارتفع حاجبيها مفكرة: مقابلة لأجل الوظيفة بعد تخرجك مباشرة؟
نعم.
آه نعم، أتى اليوم بعض الطلاب، اعتقد انهم من دفعتك في الجامعة ايضاً، اتبعيني سأرشدك إلى الطريق.
أملت برأسي أخفي توتري: حسناً.
كنت اتبعها انظر للمكان حولي، لأكن صريحة فالعمل في مشفى خاص كهذا أمر مشرف جداً.
لا أكاد اصدق ان حلمي تحقق أخيراً!
دخلنا إلى المصعد وقامت بالضغط على أحد الأزرار، لحظات من الانتظار حتى خرجنا، دلتني على الطريق لأجد انني اتجه إلى جناح كبير وفيه غرفة انتظار أخبرتني ان أدخلها وأجلس حتى تعود إلى بعد دقائق.
حين دخلت تفاجأت بوجود ما يزيد عن التسعة افراد وايقنت انهم من دفعتي، بل أنهم طلاب يدرسون معي في المحاضرات نفسها ولكنني لا أعرفهم سوى بالمظهر فقط ولا فكرة لدي عن أسمائهم. كانوا خمسة فتيات وأربع شبان وكل منهم منهمك إما في النظر لهاتفه او قراءة مجلة قد اخذها من على الرف الموجود عند زاوية الحائط. ومنهم من بدى متوترا بسبب تحريك قدمه وضربها بالأرض بحركة سريعة مما أزعج الجالس بجانبه كما يبدو وهو يلقي عليه نظرات خاطفة مغتاضة سريعة ثم يعاود النظر لهاتفه.
اكتفيت بالابتسامة واتخذت مكانا لي لأجلس.
ها قد بدأ التوتر يتسلل إلى مرة أخرى! لا يجب ان يتضح التوتر والارتباك على أبداً حتى لا يخيب أملي.
لذا بدأت استنشق الهواء ببطء وعمق وازفره لأخفف من حدة الجو واضطرابي.
لحظات حتى عادت تلك الموظفة وهي تنظر إلى ورقة مثبتة بمشبك الأوراق على مسند خشبي أنيق بحجم الورقة تقريبا وفي يدها الأخرى قلم وتبدو محتارة.
وقفت امامي ورفعت عينيها إلى متسائلة: ما اسمك يا آنسة؟
أجبتها: شارلوت. شارلوت ماركوس.
عاودت تحدق إلى الورقة بتركيز ثم همست: هل أنت واثقة انك تلقيت اتصالا في الأمس؟
ارتخت ملامحي: نعم! أخبرني أن اكون هنا عند التاسعة.
أعلم، المقابلة ستبدأ عند التاسعة، ستبدأ الآن. ولكنني لا أجد اسمك! هذا غريب.
حين انهت جملتها اتى موظف لينادي باسم احد الطلاب الموجودين ليكون أول من يدخل للمقابلة، خرج الشاب فحولت نظري للموظفة مجددا باستغراب: وما الذي يعنيه هذا؟
لا أدري ولكن. الأشخاص اللذين تم اختيارهم اسماؤهم موجودة على هذه اللائحة، دعيني اتحقق من فضلك وسأعود بعد دقائق.
أملت برأسي بشيء من القلق فغادرت بينما احتضنت حقيبتي انظر للأرض بتوتر أكبر.
لا سيما وان بعض الطلاب بدئوا ينظرون إلى فشعرت ببعض الاحراج.
اخرجت هاتفي وحاولت تسلية نفسي حتى عادت الموظفة بعد دقائق قليلة فأسرعت أقف متسائلة: هل تأكدت بشأن الاتصال؟ ماذا عن إسمي؟
زمت شفتيها قليلا ثم ابتسمت بلطف: اتبعيني من فضلك.
نفذت ما قالته بالفعل لأجد انها تأخذني للخروج من هذه الغرفة لنعود إلى ممر الجناح الذي كنا فيه للتو وحينها قالت بهدوء: آنسة شارلوت لقد تلقيت اتصالا في الأمس بالفعل ولكن. أعتذر بشأن هذا فيبدو ان قسم إدارة الموارد البشرية ستكتفي بالطلاب التسعة الموجودين مسبقاً.
اتسعت عيناي الخضراوان: ولكن. كيف هذا! لقد.
أنا حقا آسفة. كان على المتصل ألا يتسرع. سأرافقك يا آنسة.
حين قالت هذا وجدت نفسي أقف في مكاني بدهشة.
سيكتفون بالطلاب التسعة فقط؟!
ماذا عني! ولكنه أخبرني في الأمس بانه قد تم ترشيحي. كيف يحدث هذا فجأة!
غير منطقي! لا يمكنني الاقتناع بما قالته!
نظرت إليها باستياء: ما زلت لا أستطيع استيعاب الأمر، لقد اخبرني بالأمر بكل ثقة! لماذا لا تسألي الشخص نفسه الذي اتصل بي؟
الأوامر يتم فرضها من ادارة الموارد، ولا بد وانه اتصل بناءً على طلبهم، ولكن. حسنا انتهى الأمر بإغلاق المقابلات بعد اختيار التسعة اللذين وُضعت اسماءهم أولا.
هاه!
ضاقت عيناي بينما ابتسمت: هل أرافقك؟
لا شكراً. يمكنني العودة وحدي.
امالت برأسها باحترام ولطف وغادرت بينما واصلت التحديق إليها حتى اختفت عن ناظري.
أنا لم أشعر بخيبة الأمل والإحباط يوما بهذا القدر!
لا يمكنني تصديق ما يحدث!
اتصلوا بي في الأمس لأكون جاهزة للمقابلة. ثم يتم اخباري بأنهم سيكتفون بهؤلاء التسعة! لماذا لم يخبروني عبر اتصال قبل أن أصل إلى هنا إذاً؟
تقوست شفتاي دون شعور وانا اعجز عن اخفاء حزني.
تحركت أخيراً بخطى بطيئة مع رغبتي في البقاء والالحاح في السؤال حتى افهم الأمر فقط!
ولكنني في النهاية وجدت نفسي أدخل المصعد بوجه مستاء وانا شاردة الذهن حتى انني لم انتبه لدخول الكثير من الناس مرارا وتكرارا وكل منهم ينزل في طابق معين.
لا أدري كم عدد المرات التي توقف فيها المصعد ولكنني اكتفيت من وقوفي أخيرا وخرجت منه في الطابق الأرضي.
مررت عبر الردهة ونظرت لركن الإستقبال بيأس.
هل رُفض الأمر ببساطة حقاً؟ هل هذا كل شيء!
بعد كل ما حدث؟ المجهود الذي بذلته في الدراسة، قضائي أغلب الأوقات في الجامعة لمراجعة الدروس، الركض إلى المحاضرات حتى لا أتأخر ولو لثانية واحدة! والسهر على الاختبارات وبذل أقصى طاقة في التدريب، غفوتي في المكتبة دون أن أشعر عدة مرات بسبب الإنهاك!
شعرت بالدموع في عيناي ولكنني تمالكت نفسي بصعوبة.
وتفاجأت بنفسي التي حثتني على تحريك قدماي بإصرار لأعود للاستقبال إلى تلك الموظفة نفسها وأقول بجدية: اريد التحدث مع مدير الموارد البشرية.
ارتفع حاجبيها: ماذا!
من فضلك!
ولكن.
لي الحق في التحدث معه طالما انه قد تم الإتصال بي لأحضر إلى المقابلة! أنا لن أغادر ببساطة حتى اقتنع بما يحدث لي هنا!
يا آنسة لا يجب أن.
لا يجب ان تحددوا موعدا معي ثم يتم الغاءه دون اعلامي فجأة! أنا لست حمقاء لأصدق أمراً كهذا. اعطني المدير فوراً لأتحدث معه، أو لأقابله شخصياً.
بدت وكأنها ستعترض فأسرعت أقول بحزم: وإلا تصرفت تصرفاً أخر.
لمعت عينيها ببريق الخوف فأسرعت ترفع السماعة الموجودة أمامها وهي تسترق نظرة للموظفة الزميلة بجانبها.
وقفت بحزم متجاهلة نظرات الناس اللذين يقفون بجانبي أمام الموظفة الأخرى، لا يمكنني قبول هذا ببساطة!
ليس وكأنني سأدع الأمر يمر هكذا!
ثوان من حديث الموظفة بصوت خافت حتى قالت: حسنا. أمرك.
أغلقت الهاتف ونظرت إلي: آنسة شارلوت. الإدارة مشغولة حالياً ولا يمكنهم النظر في أمور خارج المقابلات التي يتم تطبيقها حاليا مع الطلاب، هناك تقييم جماعي للوضع لذا من فضلك انصتي إلى ما قاله المسؤول لي.
عقدت حاجباي بإهتمام: أنا أنصت.
أخبرني أنه يوجد اكتفاء بعدد الطلاب ولا يوجد فرصة تسمح لجلب المزيد، ويقدم اعتذارا على ما حدث من اغفال بشأن موضوع تنبيهك بالأمر قبل وصولك إلى هنا، لذلك قام بتوصية على اسمك في المشفى المقترن للمعهد الطبي للتدريب الذي تتعامل معه جامعتك.
اتسعت عيناي: هاه! لا يمكنك ان تكوني جادة! ما هذا الهراء؟
نفيت برأسها: هذا كل ما يمكنني قوله.
زميت شفتاي بقوة وضربت الطاولة بيدي بحزم: هل تعتقدين ان ذكرك لكلمة التوصية سيسعدني! لا يمكنني قبول هذا السخف، ان كان المدير مشغولا الآن فسأعود لاحقا بلا شك.
انهيت جملتي وانا القي عليها بنظرة منزعجة واستدير لأخرج.
لا أدري كيف.
ولكن.
إنني أقف الآن أمام باب الشقة.
لقد عدت وبدت اللحظات وكأنها دقيقة واحدة! كيف حدث كل شيء بسرعة؟ لقد هربت من واقع رفضي او توصيتي لمكان آخر واتيت لهنا بسرعة.
أنا لست غاضبة وإنما أشعر بحزن واحباط شديد!
كل الجهود التي بذلتها للعمل في هذا المشفى ذهبت سُدى.
كيف يمكنني التخلي عن حلمي والحافز الوحيد الذي اتكأت عليه في ثانية واحدة؟
ما الذي سأقوله لعائلتي التي تنتظر الأخبار السارة! لا سيما وانني اخبرتهم في الأمس بانه قد تم تحديد موعد المقابلة.
شعوري بخيبة الأمل سيكون مشابها لخيبتهم. فلقد ساعدني أبي كثيرا بشأن رسوم الدراسة، وكان لإيثان دور كبير في تحفيزي أيضاً!
ما الذي سيقوله سام حين يعلم؟ وما الذي قد تفعله أمي!
أنا قطعا لا أستطيع مواجهتهم وأخبرهم بهذا الأمر التعيس ببساطة، ليس محرجا وحسب وإنما محزن!
أطلقت تنهيدة مستاءة ودخلت الشقة انظر للأرض.
انا بحاجة للاختلاء بنفسي.
لا أستطيع احتمال ما جرى اليوم لذا على تهدئة نفسي واستيعاب الأمور والتفكير بروية.
بتر حبل أفكاري المحبطة اصطدام رأسي فتأوهت وأسرعت أرفع عيناي.
لم أنتبه لوجوده!
لا أدري كيف لم الاحظه واصطدمت بصدره هكذا، الاحباط على وشك ان يستحوذني بالكامل. بل أنه استحوذ على بالفعل، لم أعلق وانما اشحت بوجهي واكملت طريقي رغبة مني في الدخول للغرفة حتى.
لم تكن التوصية بك للمشفى الآخر أمراً سيئاً إلى هذه الدرجة. لماذا رفضت؟ جشع!؟
تسمرت في مكاني بدهشة دون ان التفت نحوه، فأضاف بزفرة هازئة: هل العمل في مشفى خاص و راقي أمر مهم إلى هذه الدرجة؟
هل قال.
هاه.!
كيف علم بالأمر!
شعرت به يقترب حتى اسند ذقنه على كتفي هامسا بالقرب من أذني بنبرة ماكرة جافة: كم هو مثير النظر إلى الانكسار العميق الواضح على ملامحك!
اجفلت مبتعدة عنه لأستدير نحوه بذهول، فابتسم واعتدل ليستقيم.
هذه الملامح. هل هي لكريس حقاً! كيف يكون وجهه بعيدا كل البعد عن المرح المعتاد، حتى لو كان هدوئه مؤخرا مريبا ولكن. كان وجهه طبيعي!
كيف تكون له نظرة ماكرة كهذه! ليست ماكرة فقط، بل قاسية وجامدة!
ثم ما الذي يقوله بحق السماء؟ كيف علم بما حدث لي؟! هل عين جواسيسا أم ماذا!
كيف اكتشفت الأمر؟! من أخبرك! هل كنت تلحق بي!
تنهد بملل: من الجيد ان جيمي ذهب للتسوق مع أماندا. يمكننا الآن التحدث كيفما نشاء! أو سميه جدالاً أو أياً يكن.
ترقبت ما سيقوله حتى تحرك مستنداً بمرفقيه على طاولة المطبخ التحضيري مبتسماً: كيف كانت المقابلة؟
انا لم أخبرك بأنني ذاهبة لمقابلة عمل فما أدراك بالأمر!
لا يعقل ان يكون هناك ما يُخفى عني بشأنك. ليس أنتِ يا شارلوت.
أردف متظاهرا بالاستياء: لقد شكرتك لإزاحة الستار المتعب، لا تقولي لي بانني مرغم على التظاهر مجدداً!
ا. التظاهر بماذا! ما حوار الألغاز هذا قل شيئا يمكنني استيعابه فانا لا طاقة لدي تسمح لي باحتمال المزيد!
نعم بكل تأكيد. من الواضح ان الأمر محبط جداً.
أضاف بجفاء وعيناه تلمعان بالبرود: لقد افتعلت الحرب معي بالرغم من انني خيرتك، رفضت عرضي واجبرتني على التصرف بطريقة ستزعجك، بصراحة هي لا تزعجني أنا. أعترف بأنني انتظرت طويلا لتطلقي لي العنان بالتنفس قليلاً! الضحك والتبسم طوال الوقت أمامك. كان شيئا متعبا واستنفذ طاقتي، لم أتخيل أنه سيرهقني هكذا!
م. ما الذي!
ظل يستند على مرفقيه وهو يحدق إلى بجفاءه الغريب حتى تساءل: ماذا؟
طرفت بعيناي بعدم استيعاب: لماذا. تتحدث هكذا!
وكيف سأتحدث! إنها طبيعتي التي بسببك اضطررت لطمسها تماما. ولكن يكفي فأنا أيضا لدي حدودي.
طبيعتك!
دعك مني يا عزيزتي. الن تبكي وتصرخي بحزن وتوضحي كم كان الأمر مثيراً للإحباط والاستياء؟
كريس.
ترقب ما سأقوله فأكملت بهدوء شديد مشيرة إليه باصبعي بحزم: لو كان لأمر المقابلة شأناً بك. فانا لن أسامحك! هل تسخر مني لأنك اتبعت حيلة ما؟ هل هذا ما قصدته بأنني من اتخذ القرار! أرجو ان أكون خطأة فقط!
ابتسم بسخرية وصفق بيديه: واخيراً.
ثم توقف عن التصفيق ونظر إلى باستغراب: وماذا لو قلت بأنني السبب؟ ما الذي قد أندم عليه؟
اتسعت عيناي بدهشة وغضب: غير معقول! ما الذي فعلته! بربك هل تعلم بأنني كنت أتوق وانتظر هذا اليوم بشدة! أخبرني ما الذي قمت به!
لوى شفته بتململ ثم ابتعد عن الطاولة متجها إلي، راقبته بعيناي حتى انحنى لقامتي واحاط كتفي بذراعه ليقول متظاهرا بالحزن بنبرة متهكمة لاذعة بوضوح: حسنا يا شارلوت أنا أيضا معذور فلقد مللت مجاملتك طوال هذه الفترة! مر أسبوع أو أكثر منذ أن بدأت خطوتي الأولى وحاولت جاهدا اتباع خطى أخرى برفق أكثر مع شابة جميلة مندفعة مثلك، ولكنك أفسدتِ كل شيء واضطررت لاتباع طرق تغضبك! ظننتِ بأنه لا شيء في يدي ولكنك تسرعت في الحكم علي. لذا كوني حكيمة أكثر في اتخاذ قراراتك والتفكير بجدية قبل التصرف. لطالما كنت تتفوهين بحكم جميلة مؤثرة يا شارلوت. ما الذي أصابك؟
استنكرت جملته الأخيرة كثيراً ولكنني وجدت نفسي ابعد يده عني بقوة ونظرت إليه بسخط: وضح لي ما تحاول قوله. ما قصدك بالخطوة الأولى!
اشار إلى ثغره بإصبعه السبابة فظهرت تقطيبه انزعاج وحيرة بين حاجباي حتى استوعبت ما يرمي إليه أخيرا وقلت بغيض شديد: أ. أيها القذر! ولماذا تذكرني بهذا الأمر الآن؟
وضع يده على خصره بلا اكتراث: كانت خطوة أولى للنظر إليك عن كثب وانتظار ردة فعل معينة لا أكثر. ولكنك هولتِ الموضوع بطريقة مثيرة للضحك و السخرية، والآن حان الوقت لأكون صريحا معك بدلا من المراوغة.
تغيرت نظراته فجأة وحل مكان اللامبالاة السابقة كره غريب!
لم يكن كره وحسب، بل أنني رأيته يحدق إلى مطولا وعيناه العسليتان تلمعان ببريق عميق مشمئز أدهشني وهو يقول: لم أكن لأطلب منك الزواج ولن أفعل سوى لسبب واحد فقط. تذوقي القليل من العذاب يا شارلوت.
أكمل مقتربا بحقد بصوت خافت: سأذيقك عناء دام لسبعة وعشرون عاماً، ولكنني سأختصره في ثلاثة أشهر يا شارلوت.
فغرت فاهي بعدم استيعاب لأجد نفسي ألقي بالحقيبة عن كتفي واضعها على الطاولة التحضيرية محاولة تمالك نفسي، نظرت بإتجاهه لثوان قبل ان أقول بصوت حاولت جاهدة جعله ثابت ومتزن: يا له من تهديد صريح. ولكن مبهم وغير مبرر، ما الذي تحاول الوصول إليه تحديدا سيد كريس؟ هل رفضي للزواج بك أغضبك إلى درجة اتباع حيلة ما لتفسد فيها حلمي وتحطم بها طموحي؟
وضع يديه في جيبه وتحرك نحو الثلاجة وما كان يفصلنا سوى الطاولة التي اتكأت عليها بترقب، فتح باب الثلاجة واخرج زجاجة عصير وابتسم وهو يرمقني بنظرة سريعة بعين عسلية تلمعان بشدة وكأنه وجد ما يستمتع به، حتى تناول كأسا فارغا من الخزانة ليسكب فيه العصير متمتما: ليس وكأنني أفضل الحديث الهادئ الموزون معك. اغضبي يا شارلوت، لا بأس بأن تغضبي، تبدين أجمل عندما تفقدين أعصابك.
ثم وضع الزجاجة على الطاولة امامي مباشرة ورشف من العصير ليكمل بابتسامته تلك: حين تغضبين ويتورد وجهك اثر سخطك الشديد اشعر برغبة في تفجير الكلمات أكثر، لذا كفي عن الزحف إلى وضع الجمود المريب هذا!
أنت تراوغني.
إطلاقاً! عما كنت تسألين؟ آه. عن ما قادني تحديدا لتلك الحيلة؟ حسنا كيف أشرح الأمر لفتاة عصبية مثلك تحاول جاهدة السيطر على أعصابها؟
ظل يفكر حتى تلاشت ابتسامته بالتدريج وجلس مقابلي على الكرسي يسند مرفقيه على الطاولة والقى بكلماته بصوت عميق: لن أملك ولو رغبة ضئيلة في الزواج بك، عرضي للزواج لم يكن سوى لبضع أسباب خاصة ذكرت أحدها للتو.
استحقاقي لتذوق العذاب؟ هل هذا ما ترمي إليه؟ هل تعتبرها إجابة واضحة!
عاود يرشف من العصير ثم القى نظرة على ما أخرجه من جيبه ولم يكن سوى هاتفه ثم قال دون ان ينظر إلي: إليك تلميحا آخر مجاني.
ضاقت عيناي بحذر بينما ظل يعبث بالهاتف وقد رفع عيناه نحوي وليته لم يفعل!
صوب نحوي نظرة مريبة عميقة مليئة بالغيض! كان الحقد فيهما واضحا ولا داع لأن يتفوه به! لماذا ينظر إلى هكذا؟ أنا حقا لا أفهم! أريد أن أفهم وهذا من حقي ولكن. ليس وكأنه سيخبرني!
انا عاجزة تماما عن فهم كيان هذا الإنسان الجالس أمامي! بل وغير قادرة على تخمين ما يفكر به ولو قليلاً! الغموض يغلف حوارنا هذا! فهو يخبرني بأنني استحق ان ألقن درسا ولكنه يرفض التوضيح أكثر! بل ويخبرني انه السبب في فشلي اليوم في تحقيق حلمي ولا زال لا يريد التوضيح لي! ويطلب مني الزواج مقدما عرضه لي مع جملة (الإكراه تلك). ما الذي يريده مني؟ بدأت أقلق أكثر فأكثر!
أنا وأنت يا شارلوت. كان من المفترض أن لا يكون لنا وجود في هذا العالم!
ايقظتني جملته تلك من زحام أفكاري فطرفت بعيناي مرددة: أنا وأنت؟
حدق إلى الفراغ قبل ان يرفع كأس العصير ويحركه بشكل دائري وهمس: نعم. أنا وأنت مكاننا ليس هنا! هذا الهواء الذي نستنشقه. في الواقع لا يبدوا بأن جزء من ذراته قد خلق لنا! وكأننا اخترقنا مساحة ليست لنا! أو انعكس الحال بطريقة ما. أنا وأنت كنا في الفراغ.
أوقف تحريك الكأس ووجه نظره نحوي: وهذا الفراغ دفعنا إلى هنا. إلى حيث مكان لا ننتمي إليه منذ البداية!
أنا لا أفهم شيئاً!
ولن تفهمي. لأنه لا يفترض بي أن أرهق نفسي في إيضاح أي حرف لك.
اتبع جملته ذلك الصوت المزعج الذي أصدره الكأس الشبه فارغ بعد ان وضعه على الطاولة بقوة ووقف بدوره مبتعدا عن الطاولة، تسمرت في مكاني بعدم فهم الاحقه بعيناي حتى سمعته يهمس: بقائك معي في المكان ذاته لا يجلب لي سوى الأفكار السوداء.
هاه! مهلا! انتظر.
قلتها وانا اسرع لأمسك بذراعه بكلتا يداي بقوة لأجبره على التوقف بعد ان اتجه لغرفته، سحبته بصعوبة لنقف في منتصف غرفة الجلوس وقلت بحزم: لا تعتقد بأنك ستلقي بقطعة أحجية ثم تنتظر مني حلها هكذا! لا تتحدث معي بالألغاز وكن واضحا ولو قليلاً!
هل أنت حقا راغبة بشدة بمعرفة جوهر علاقتنا يا شارلوت؟
قالها بنبرة لا تخلوا من السخرية فأملت برأسي بحدة: بالطبع!
بسيط جدا. لنغادر مع جيمي إلى حيث يجب ان نكون عائلة واحدة وحينها ستأتيك الإجابات واحدة تلو الأخرى.
انت لا تزال تعرض الزواج!
تذكري بأنني لا أرغب فيه منك.
انهى جملته وهو يبعد يداي عن ذراعه بعنف وازدراء فزميت شفتاي بغيض: إذا لا تنسى أنت أيضا ان عرضك مرفوض رفضا باتاً.
تبادلنا النظرات لثوان حتى تغيرت نظراته للجفاء وتحرك نحو الطاولة التحضيرية بخطى عصبية بوضوح، لمحته يمسك بحقيبتي فعقدت حاجباي متسائلة بحذر وانزعاج: ما الذي تفعله؟ إنها حقيبتي!
استدار نحوي ممسكا بورقة ما ورفعها أمامي ليقول بهدوء: قد لا أكون قادرا على اجبارك بموافقة قبول عرضي حرفيا ولكنني قادر على ذلك باللجوء إلى الكثير مما سيقودك للبكاء والرجاء عزيزتي شارلوت.
هاه! انا أرجوكَ أنت؟ أضحكتني.
قلتها بسخرية شديدة ولكن تلك السخرية قد تبددت تماما حين جمد وجهه ورفع يده الأخرى نحوى الورقة وتعالى صوت تمزيقها في المكان!
تسمرت في مكاني بعين متسعة على أقصاها، أحدق إلى حلمي الذي يتمزق أمامي!
أ. أنا.
أنا لم أقم بنسخ الورقة للإحتياط! ورقة التقييم. قد مزقها بكل برود؟!
كيف يجرؤ على فعلة كهذه؟ بل لماذا! هل هناك ما فعلته ويستحق فعلته هذه؟
اجفلت حين القى على بالورقة التي تناثرت في الهواء على وجهي وكل جزء صغير منها على حدى في طريق يسلكه!
نظرت للأرض بعدم تصديق ولكنه لم يمهلني فرصة للإستيعاب حتى إذ وقف أمامي فجأة ورفع وجهي ممسكا بذقني بحدة!
حدقت إلى عيناه بذهول إلى أن همس: لا أنصحك بالعبث معي، لا بإستفزازي أو بخوض حرب الكلمات معي. شارلوت، أنا قادر ببساطة على أن أدمر كل بقعة تخطو عليها قدميك، وعلى تمزيق أي ورقة أنت بحاجة إليها. والأهم من هذا. أستطيع ان أقودك إلى زاوية مغلقة لا تجدي فيها خيارا سوى ان تهمسي بنعم.
ما هذا!
ما هذا الشعور!
علي الرغم من أنه يهمس بتهديده ذلك بصوت عادي.
ولكن.
عيناه هاتاه! تجبرانني على الإرتجاف دون توقف! ما الذي يحدث لي بحق الإله! لماذا أشعر بالخوف هكذا؟
أنا. حقا عاجزة عن الوقوف بثبات! ما الذي. دهاني للوقوف هكذا بلا حول أو قوة أمامه؟
يقول بأنني لن أهمس سوى بنعم. أقول نعم لشخص مثله؟ شخص مثل كريس!
في لحظة بدت أقل من الثانية أبعدت يده بغضب ورفعت يدي لأصفعه بقوة!
المحرك الوحيد لي في هذه اللحظة لم يكن سوى كبريائي الذي رفض جملته المليئة بالإهانة والتسلط تلك!
التف وجهه لليمين جراء صفعتي، واتضح أثر أناملي على وجنته، وهذا ما أشعرني بالرضى!
لوى شفتيه و حرك رأسه لينظر إلى بحدة، فصرخت بغيض: ماذا؟ سترد الصفعة لي؟
لن أضرب امرأة.
قالها فوراً ثم أطلق صوتا خافتا ساخراً وهو يبتعد عني متجها إلى الغرفة ولكنه قبل ذلك وقف وقال دون ان يستدير نحوي: ستدفعين الثمن. تذكري صفعتك هذه.
أكمل طريقه للغرفة وصفق الباب خلفه، هل قال أدفع ثمن صفعتي؟
ولا زال يجرؤ على تهديدي؟
حينها تجاهلت كل شيء ونظرت للأرض بخيبة أمل وإحباط يصحبهما شعور بالقلق.
جثيت على ركبتي التقط الأوراق الممزقة.
سأكون كاذبة لو قلت بأنني لا أزال أحافظ على رباطة جأشي. فانا الآن. لا أريد سوى البكاء والإستمرار في البكاء وحسب.!
ليس لدي نسخة لهذه الورقة! لم أجد وقتا لأقوم بتصوير نسخة منها، مزقها وكأنها لا شيء. مزقها وهو لا يدرك كم بذلت من جهد!
دمعت عيناي حين التقطت إحدى الأوراق الصغيرة الممزقة المكتوب فيها إسمي.
شارلوت ماركوس.
أبي. سيصاب بالحزن بلا شك!
ما الذي على فعله؟ لقد كان يأمل دائما ان يراني أحقق طموحي، لقد.
زميت شفتاي بقوة وقد تقوستا للاسفل وعقدت حاجباي محاولة الا أذرف المزيد من الدموع أو اسمح لها بأن تخرج من وكرها الذي بات قابلا للإنهيار في أي لحظة.
لن أسامحه. أنا لن أسامحه على ما فعله الآن.
ولكن. لا يجب ان أجلس هكذا! على ان أخرج وأعود إلى معهد التدريب الذي استلمت منه الورقة قبل أيام في هذه المدينة، لو طلبت منهم نسخة فلن يمانعوا.
لذا على ان اسرع.
بالرغم من انه كان قراري المندفع ولكنني ظللت أجلس على الأرض أحدق في الأوراق.
رفعت عيناي قليلا نحو باب غرفته. هالة غامضة تحيط به وبكل ما يتعلق فيه!، لم أعد اعلم ما الذي ينبغي على فعله!
بصراحة. في هذه اللحظة لا أرغب سوى في العودة إلى منزلي، ربما سأتخذ قراري اليوم فعلاً.
ولكن. عودتي هكذا فجأة. لن تأتي بنتيجة!
سأعود إلى منزلي؟ هل هذا كل شيء؟ سيبدو الأمر وكأنني فتاة جبانة قد هربت دون سابق إنذار!
ليس وكأنني أريد البقاء هنا لثانية واحدة مع كريس ولكن.
قال أمور كثيرة غامضة! عناء دام لسبعة وعشرون عاما؟ ما الذي من المفترض ان يعنيه هذا!
ما الذي على أن أدفع ثمنه وقد عانى منه؟ وما شاني أنا في شخص لم اتعرف عليه سوى منذ أيام معدودة؟ لا أفهم. أنا حقا لا أفهم أي شيء!
طلبه الغريب والمفاجئ للزواج بالرغم من ايضاحه لي بأنه لم يكن ليفعل ذلك برغبة منه دليل على غموض أسبابه!
رفعت يداي نحو رأسي لأمررها على جبيني محاولة تخفيف توتري وانفعالي، لحظات فقط حتى وقفتُ معتدلة وما ان فعلت حتى لفت انتباهي طرقات على باب الشقة وقبل أن أتجه إليه فُتح ليطل منه جيمي وتلك المرأة المدعوة أماندا.
كان جيمي ممسكاً ببعض الأكياس الصغيرة وكذلك اماندا التي حملت أضعاف الأكياس الأكبر حجما.
حدقت إليهما حتى دخلا وكلاهما يضحكان ويتبادلان الحديث إلى ان انتبه لي جيمي وقال فوراً بحماس: آنسة شارلوت! أ. أقصد أمي! لقد عدت.
أمي؟ لا زال ينادني بهذا! حماس هذا الطفل يجعلني استاء كثيرا لتصرفات كريس في اقحامه لصغيره في امور كهذه، إنه يزيد همومي أكثر وعادت الرغبة في البكاء تنتابني.
ابتسمت بلطف وتساءلتُ بحيرة: مرحبا بعودتك يا جيمي، أخبرني والدك انك خرجت للتسوق. أرى الكثير من الأكياس معكما!
اجابني بحماسه: سأرى ستيف قريبا لذا اردت شراء شيء يسره، وكذلك أنتِ يا أمي.
ارتفع حاجباي: أنا!
أضفت مقتربة: وما الذي اشتريته لي؟
وقفت أمامه مباشرة فابتسمت أماندا واغلقت الباب لتدخل قائلة: كان متحمسا جداً وهو يبحث لك عن شيء مناسب يا عزيزتي، هيا يا جيمي أسرع وأخرج ما قمت بشرائه.
هذه المرأة. تبتسم وكأنها لم تفعل شيئاَ! ولكن. لماذا القي عليها اتهاما دون دليل؟ فلم تكن تمسك بشيء آنذاك. إلا إن كان هناك طرف آخر في الموضوع في ذلك الوقت وهو من التقط تلك الصورة خفية.!
طرف جيمي بعينيه الواسعتان بسرور وأمسك بأحد الأكياس الصغيرة واخرج منها علبة دائرية سوداء مخملية فاحترت كثيراً متسائلة: ما الذي يوجد بداخلها!
رفع يده نحوي فتناولتها ليقول مترقبا: افتحيها.
وضعت أماندا الأكياس بجانب الأرائك ووقفت تنظر إلينا، ابتسمتُ بلطف وفتحتها وحينها ضحكت بخفوت واعجاب: هذه المرآة لطيفة، هل انت من قام باختيارها؟
أومأ بسعادة: اليست جميلة؟ أخبرتني السيدة اماندا ان النساء يحبون الاعتناء بأنفسهن طوال الوقت ولم يخطر في بالي سوى مرآة! هل أعجبتك؟
جثيت على ركبتي أمامه وانا انظر إلى المرآة التي كانت دائرية الشكل وفوقها ورود بلون ذهبي وأبيض بارزة والتي كانت بالفعل ذات شكل لطيف، ثم وجهت نظري إليه بإمتنان: اسعدني كثيرا انك فكرت في شراء شيء لي يا جيمي! إنها جميلة، لقد اعجبتني!
هذا جيد.
سأستخدمها كلما احتجت إليها.
ظهرت السعادة والمرح في عينيه حتى تساءل: أمي. أنظري لقد اشتريت لأبي شيء كذلك.
قالها وهو يرفع الكيس الصغير الآخر وفي هذه اللحظة فُتح باب الغرفة المقابلة لنا وخرج كريس ممسكاً الهاتف ويتحدث بإندماج، لمحت في يده الأخرى مغلف بني اللون وعليه ملصق أبيض.
أسرع جيمي يركض نحوه بحماس: أبي. أنظر إلى ما قمت بشرائه.
ولكن كريس أكمل طريقه نحو الأريكة ليجلس واضعا المغلف على الطاولة أمامه ويقول للطرف الآخر على الهاتف: هذا صحيح، ينبغي ان يكون كل شيء جاهز في الموعد المناسب.
اتجه جيمي نحوه وهو يحدق إليه بترقب وعاود يقول: أبي؟ هل تريد ان ترى ما قمت بشرائه؟
رمقه كريس بنظرة سريعة وهو ينفي برأسه وكأنه يخبره بأن يؤجل الأمر لوقت لاحق.
في هذه اللحظة تحركت أماندا ومرت بجانبي فاستقمت لأقف، قالت هامسة بلطف: سوف أعود إلى شقتي. كان جيمي متحمسا جدا وهو يشتري لكما الهدايا، إنه طفل لطيف ومن السهل اسعاده.
ارتفع حاجباي بحيرة ولكنني اكتفيت بالإبتسام متمتمة: شكرا لك على اهتمامك.
لا داع لشكري، حسنا إذاً إلى اللقاء، يبدو كريس مشغولا لذا لن أزعجه.
قالتها وهي تغادر فبلاحقتها بعيناي بشك ولا يمكنني نفض تلك الأفكار السوداء من رأسي، من قام بتصويري برفقة كريس؟ هي. أم شخص آخر؟
أغلقت الباب خلفها فتنهدت بعمق وعاودت انظر إلى جيمي الذي لا يزال يقف أمام كريس.
انه يمسك بالكيس الصغير ويحدق إلى والده بنفاذ صبر وشفتين مطبقتان.
حتى قال بتردد: أبي؟
تمتم كريس وهو يفتح المغلف بحيرة: أتقولين بانهم وافقوا على ذلك؟ ماذا عن قرارهم السابق! اتذكر جيدا أنهم طلبوا مهلة للتفكير!
انه لا يستمع إلى جيمي ويبدو مندمجا كثيراً في هذه المكالمة، لذا وجدت نفسي اتجاهل الأمر برمته واتجه إلى غرفتي.
ولكنني ولسبب ما وقبل أن أدخل إليها وقفت بتردد واستدرت انظر إليهما مجدداً، لأجد جيمي يستمر في النظر إليه وقد تغيرت ملامحه وحل مكان الحماس ضيق واضح.
حسنا بات الأمر يزعجني قليلاً!
أعلم بأنه لا شأن لي ولا أريد التدخل ولكن.
فليأخذ منه الكيس على الأقل! أو ليتظاهر بالفرح أمامه! أو ليدعوه للجلوس بجانبه ريثما ينتهي!
هذا الكريس. يغضبني حقاً! نظرت إلى الهدية بين يداي وابتسمت دون شعور، كنت لا أزال أقف امام باب الغرفة عندما أغلق الهاتف، استعاد جيمي حماسه حين انتهت المكالمة ولكن كريس سرعان ما حدق إلى أوراق المغلف باهتمام وانهماك بالغ!
أبي. سأريك ما قمت بشرائه لأجلك، لقد كان هناك الكثير من الأشياء الجميلة في ذلك المركز التجاري الجديد، اعتمدت على نفسي في اختيار الهدايا حتى أ.
جيمي ألا ترى أنني مشغول الآن؟
آ. آه! ولكنني أردت ان أريك ال.
امهلني لحظات.
عقد جيمي حاجبيه ولمعت عيناه العسليتان بالإستياء هامسا: أبي.
ولكنه أردف بسرعة وبرضوخ وهو يجلس على الأريكة المقابلة له وقد ارتفعت كلتا قدميه الصغيرتين عن الارض: حسناً.
زفرت بضيق رغما عني واستدرت لأدخل غرفتي، لا أريد الإهتمام بأي شيء ليس من شأني. ولا سيما انه يتعلق بكريس الوغد.
لازلت بحاجة لتصفية حساباتي معه، وأرغب في فهم تلميحاته الكثيرة وما يحاول قوله!
الغموض الذي يلفه بات أكثر فأكثر.
ما سأفعله الآن هو تبديل ملابسي الرسمية هذه.
حينها تذكرت أمر المقابلة واصابني الإحباط بشدة، وما زادني إحباطا وغضبا هو تذكري لفعلة كريس بشأن ورقتي قبل قليل.
يا الهي.
أريد تفجير غضبي هذا بأي طريقة!
لا بأس. أنا لست عجولة، ولست جبانة لأهرب منه.
أسرعت في تغيير ملابسي وغسل وجهي لأستعيد نشاطي، ثم جلست على السرير أنظر إلى هاتفي بضيق.
لا يمكنني اخبارهم بما حدث، لن أخبرهم الآن، على أن أتريث وأرى ما سيحدث حتى نهاية اليوم على الأقل.
هذا ما كنت أفكر فيه حين تعالى رنين هاتفي بين يداي فاجفلت واوقعته دون قصد! إ. إنه يرن! أيكون أحد أفراد عائلتي؟
رصيت على أسناني بقوة، ما الذي على قوله لهم؟ لابد وانهم سيسألونني عما فعلته في المقابلة، يا الهي ساعدني أرجوك!
ساعدني وأعدك بأنني سأكون ألطف وأعمل بجد أكبر ولكن لا ذنب لهم في خيبتي هذه!
انحنيت وانا لا ازال اجلس على سريري لأتناول الهاتف بيد مرتجفة، هاه!
جوردن!
عقدت حاجباي باستغراب شديد! فأنا لا اتذكر أخر مرة قد اتصل بها جوردن.
إنه جاري الذي يسكن في المنزل المجاور لنا وصديق سام أيضاً. علاقتي به عميقة نوعا ما، ولكنني لم أره منذ فترة طويلة لأنه كان مشغولا في دراسته.
اسرعت أجيب بحيرة: مرحباً.
أتى صوته الهادئ وشعرت به يبتسم: مرحبا يا شارلوت، ها أنت ذا أيتها الممرضة المجتهدة.
الممرضة المجتهدة؟! ليته يعلم بأن ذلك الطفيلي قد اقتحم حياتي وافسد كل شيء.
ابتسمت وقلت ساخرة: دعني أخمن، هل تتصل بي لأجل مقابلة العمل؟
تماما!
كما توقعت، حسنا ودعني أخمن مجددا. هل فم سام الكبير قد تفوه بذلك؟
ضحك بخفوت: هذا صحيح، أخبرني بحماس أنك ذاهبة لمقابلة العمل اليوم لذا أردت الإطمئنان، كيف تسير الأمور معك؟
انقبض قلبي وانتابني الغيض الشديد ولكنني تمالكت نفسي وقلت بهدوء: لقد تأجل الموعد.
ها انا ذا أكذب بسبب كريس. سيدفع الثمن ليجبرني على الكذب هكذا.
هاه! لماذا؟!
لا أعلم، ربما طرأ أمر ما في المشفى، لا بأس هذا أفضل فلقد كنت أشعر بالتوتر.
هكذا إذاً، لا تقلقي سيكون كل شيء على ما يرام.
ساد صمت بيننا للحظات حتى استنكرت الأمر وقلت بحيرة لصمته: جوردن؟
متى ستعودين إلى المدينة؟
أتى سؤاله بنبرة خافتة قليلا فأجبت بتفكير: بصراحة لازلت لا أعلم. مازال على القيام ببعض المهام.
آه. حسناً.
استرسل بعد ثواني: لم أرك منذ وقت طويل.
هذا صحيح، كيف حالك العم مارتن؟ هل هو بخير؟ اعلم بأنك تعتني بوالدك جيداً ولكنه كان يبدو متعبا في الآونة الأخيرة لذا كن أكثر حذراً.
إنه بأفضل حال، انهيت كل ما يتعلق بأمور الدراسة وسيكون حفل التخرج بعد أسبوعان تقريباً. سأعوض والدي عن كل الأيام الماضية.
ابتسمت بلطف: هذا جيد.
لا أدري كم مر من الوقت وانا اتحدث معه حتى انهيت المكالمة واستلقيت على السرير أنظر للسقف بشرود.
جوردن يعيش هو ووالده معاً، انتقلا إلى حينا منذ أكثر من خمسة سنوات.
والده رجل كبير طيب ولطيف جداً، جوردن كذلك شاب طيب ويعمل بجد لأجل والده. لقد كان دائما يدرس في الجامعة ويعمل بدوام جزئي ولكنه الآن سيتخرج ويرتاح من ضغط الدراسة.
إنه يكبرني بسنوات قليلة، أعتقد بأنه في السادسة والعشرون. انهى دراسته قبل سنوات ولكنه أكمل مجددا ليأخذ شهادة أعلى.
بتر أفكاري صوت قادم من خارج الغرفة، لم يكن عاليا ولكنه كان ملفتا فاعتدلت باستغراب ووقفت لأفتح الباب بهدوء.
حينها رأيت كريس يقول بحزم: أخبرتك يا جيمي بأنني مشغول الآن! ألا يمكنك الإنتظار لدقائق فقط؟
كان جيمي لا يزال يجلس على الأريكة المقابلة له ولكن عيناه ووجهه قد توردا وهو يعقد حاجبيه بحزن واضح.!
مظهره هذا جعلني افتح الباب أكثر واقف امام الغرفة بترقب ليقول جيمي بصوت ضعيف: انت دائما مشغول يا أبي. في كل وقت وفي كل مكان تخبرني بأنك مشغول! ألا يمكنني الجلوس معك و.
ها أنت ذا!
قالها كريس بإنزعاج ثم أكمل وهو يزفر: سيأتي مايكل ليقلك إلى المنزل بعد قليل، كن مطيعا ولا تت.
لا أريد العودة إلى المنزل!
قالها بإندفاع فاحتدت نبرة والده: توقف عن مجادلتي!
و. ولكنني اريد البقاء معك! أخبرتني بأننا سنعود معا إلى المنزل!
لست في مزاج يسمح لي بإحتمال هذا الجدال لذا كف عن ازعاجي يا جيمي واستمع لما أقوله وحسب!
انهى جملته بكلمته العالية تلك فأطرق جيمي برأسه بخوف وخضوع وهو يشد بقبضتيه على الهدية التي اشتراها له.
هذا كثير جدا! لا يمكنني تجاهل ما يفعله هذا الأحمق! ولن أتحمل ملامح جيمي البائسة هذه!
اقتربت منهما بخطى واسعة وقلت بحزم وغضب بعد ان وقفتبجانب جيمي عند الأريكة: طفح الكيل لقد تجاوزت حدودك!
التعليقات