التخطي إلى المحتوى

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السادس والعشرون

لقد كنت صادق حين قلت: دائما وأبدا تأسرني برائتك
ولكني كنت أكبر كاذب حين قلت: ارحلي
فياليتك تعلمين أن ما كنه لكِ فؤادي هو صدقي، صدقي فقط.
اعتاد أن يكون صاحب آخر قول يمكن توقعه في موقف ما، كان شاكر على يقين من أن خضوع عيسى وموافقته على التوقيع لن يمرا بيسر أبدا ولكنه تفاجأ بقول: أنا همضي.
استدار يطالع عيسى بشك، ثم علق على موافقته هذه بأن صفق مرددا بابتسامة: براو، اتعلمت ومبقتش تناهد كتير…

ما هو أصل كل واحد دماغه ناشفة الدنيا بتسلط
عليه واحد دماغه أنشف منه علشان يكسرهالوا.
وأشار على نفسه مكملا بزهو: أنا بقى اللي متسلط عليك.
رد عليه عيسى وقد تراقص الغضب في عينيه ليخبر الواقف أمامه كم يمقته: أنت متسلط على نفسك، خليك فاكر الجملة دي كويس.
ابتسم شاكر و علق على حديث الواقف أمامه بعد أن ذم شفتيه بغير رضا: لسه بقول اتعلمت وبطلت مناهدة، بس طلعت غلطان.

أنهى حديثه بأشارة لأحد الرجال فسدد ركلة عنيفة لعيسى جعلته يضم شفتيه من شدة الألم، وقد أغمض عينيه بوجع وحين فتحهما، وجد شاكر يقدم له الورقة والقلم من جديد قائلا: هتمضي ولا؟
همضي.
قالها عيسى بنظرات قاتمة فنبه شاكر رجاله القابضين على غريمه لكي يحرروه، بالفعل تحرر من أيديهم وتناول القلم والورقة، كان يقرأ ما بالورقة ولكن ردعه شاكر بضربة من يده على كتفه قائلا: اخلص يلا.

من قال أن الكثرة تغلب الشجاعة لم يكن كاذب أبدا، ولكن في قاموس عيسى الذكاء يغلب الكثرة والشجاعة، لذلك حاول إبعاد التعقل للخروج بأقل الخسائر الممكنة، لم يرد على قول شاكر الأخير، فقط بدأ في التوقيع بعد أن ألقى نظرة على الورقة.
انتهى من التوقيع فانتشل شاكر الورقة من بين يديه ثم تسائل وقد ضيق عينيه: مش خايف أموتك دلوقتي؟

هز عيسى رأسه نافيا وهو يرد على سؤاله باستخفاف: لا، مش هتعملها، علشان أنا لو موتت دلوقتي المغفلة اللي أنت بتحاول تفهمها إنك ملكش في أي حاجة هتكتشف حقيقتك، لو جرالي حاجة دلوقتي محدش هيلبسها غيرك فمش هتعملها.
ابتسم شاكر وهز رأسه مؤيدا: أنت صح، مش هعملها، على الأقل دلوقتي.
ختم حديثه بضربة طالت ساق عيسى ثم توجه ناحية سيارته وكأنه لم يفعل شيء وأعطى إشارة للرجال معه.

حتى يلحقوا به وهو يقول ملوحا لغريمه: See you later يا عيسى
علق عيسى باستهزاء: الله يرحم.
ألقى شاكر الهاتف على الأرضية من سيارته، ولم يتأخر رجاله قبل رحيلهم عن تدمير سيارة عيسى، فبقى بمفرده بعد رحيلهم التام، بقى مع ألمه فقط، ذلك الألم الذي اشتد عليه أكثر فجلس على الأرضية ومد يده ناحية هاتفه الذي ما إن فتحه حتى تواصل مع
صديقه، سعل بإعياء قبل أن يقول: هبعتلك location تعالالي.

أغلق الهاتف وتأوه بألم ثم أغمض عينيه هاربا من كل شيء.
أتى إلى القاهرة قبل أيام برفقة ملك، أراد أن يبتعد عن المحيط في منزل والده قليلا، ويتفرغ لعمله الذي طال غيابه عنه، لم يرد اصطحابها، ولكن أصرت على مرافقته والآن علم أنها كانت على حق، بعد أن أتى له صديقه واصطحبه إلى مكانه الخاص جوار معرض سياراته، تمدد على فراشه وهو يسمع صوت بشير يقول بانفعال: هو عرف سكتك منين، و…

ردعه عيسى بنظرات محذرة وقاطعه بقوله: بشير أنا مصدع ومش ناقص.
كانت ملك تجلس جواره بلهفة، الأمر واضح إنها مشاجرة، بوجهه كدمات وساقه يؤلمه واصطحبه إلى هنا بشير، قرر بشير الرحيل قائلا بنزق: أنا طالع المعرض يا عيسى، لما ترتاح هبقى أنزلك.
ما إن غادر وأغلق الباب خلفه، حتى استرخى
عيسى على الفراش بتعب شديد، ظن أنها ستلاحقه بالاسئلة ولكنها مسحت على خصلاته بحنان متسائلة: أنت كويس؟

هز رأسه نافيا، فمسدت على جبهته وهي تقول: طب نام واستريح شوية، وأنا هقوم اعملك حاجة تاكلها.
لم يرجح هذا القرار، قبض على كفها طالبا بتشبث: متقوميش، أنا مش عايز أكل.
وافقت وظل كفها يمر بحنو على جبهته وخصلاته، حتى قال: كنت مفكر إنك هتصدعيني أسئلة.
وكزته في كتفه بخفة وهي تقول ضاحكة: لا متقلقش، لما ترتاح هصدعك براحتي.
كنت حاسس.

هذا آخر ما قاله بابتسامة قبل أن يغمض عينيه، ظلت جواره حتى تأكدت من نومه تماما، تركت مكانها واتجهت ناحية المطبخ، وقفت تنظر حولها بحيرة، لم تجد شيء تعده لذلك هاتفت بشير سريعا تطلب منه ما أرادت بحرج، ولكنه قبل طلبها بكل ود وأحضر لها ما أرادت بعد وقت قصير.

وقفت تصنع له الطعام، وكأنها تصنعه للمرة الأولى في حياتها، نست كل شيء، لا تعلم كم من الوقت استغرقت ولا عدد المرات التي تعثرت فيها ولكنها تعلم فقط أنها بذلت قصارى جهدها، انتهت ووضعت الطعام على الحامل المعدني حين سمعت ندائه من الخارج فقالت: حاضر يا عيسى جاية.
خرجت له وما إن رأى ما بيدها حتى هتف بانزعاج: أنا قولتلك متعمليش.
ملكش دعوة، عملت علشاني، معدتي تعبت من أكل الشارع.

هكذا ردت عليه بغيظ، وما إن جلست على الفراش جواره حتى سألها: أنتِ خرجتي؟
هزت رأسها نافية وجاوبته بهدوء: طلبت من بشير الحاجة وهو جبهالي، مكنتش هعرف أخرج واسيبك.
استدارت تطالعه بحنان متابعة وهي تصحح عبارتها التي قالتها سابقا: ده علشانك، كل بقى و قدر تعبي، وخلي عندك دم.
ضحك على جملتها الأخيرة وكرر خلفها بتصنع الدهشة: أخلي عندي دم؟

أكدت ذلك وهي تدس ملعقة الشوربة في فمه، فابتسم بحنان وتناول الملعقة منها قائلا بمزاح: طب هاتي لما ندوق مهببة إيه.
بقت على حالتها تجلس جواره ساكنة، تعبث فقط بهاتفها حتى انتهى تماما فشكرها بامتنان: ملك شكرا بجد، الأكل حلو أوي.

ألقت هاتفها وأعطته ابتسامة ثم بدأت في التصريح عن تعثرها أثناء الإعداد: أنا كنت خايفة يطلع وحش، كنت عمالة أعك وكأني أول مرة أعمل، بس هو الوضع كان كده تقريبا علشان بعمله علشانك أنت.
عبارات متتالية قالتها ببراءة شديدة أنسته ألمه، أكثر الأوقات التي يسعد فيها هي هذه التي تخبره أنها فعلت من أجله، حين اختارته ولم تنبذه في توقيت كان أمامها خيار النبذ فيه، حين وثقت به، حين قالت في كل لحظة أنا هنا.

وقعت عيناه على شيء ما لفت انتباهه في حقيبتها أمس فأشار ناحيته غامزا بابتسامة: دي العروسة اللي جبتهالك أيام الاستعباط مش كده؟
فهمت سريعا أنه يقصد تلك الفترة قبل أن يتفق الاثنان على أن كل منهما يحب الآخر، فضحكت وهي تكمل: اه وبالأمارة قولتلي إنها شبهي.
هز رأسه وهو يترك الفراش متجها إلى المرحاض ثم قال بتأكيد: ولسه عند رأيي.

ابتسمت وتناولت الحامل المعدني تذهب به إلى المطبخ، وضعت الصحون في الحوض وخرجت من جديد لتجده بعد قليل خرج وقد بدل ملابسه، عاد إلى الفراش من جديد بعد أن ضغط على مقبس الضوء، وتأوه أثناء تمدده فقررت أن تسأله أخيرا: ممكن أعرف حصل إيه بقى؟، أنت وبشير كنتوا بتتكلموا بالألغاز.
اتضربت.
هكذا صرح بسهولة فاتسعت عيناها وهي تسأله: مين اللي عمل كده، وايه اضربت دي، اضربت ليه؟

احتضن كفها وهو يخبرها بهدوء: واحد ضربته قبل كده، وحب ياخد حقه فلم شوية وضربني.
ثم علق ساخرا: بس مكانش يعرف إنه بيضرب نفسه.
قطبت حاجبيها بعدم فهم وأخبرته باستغراب: أنا مش فاهمة حاجة.
انتظرت الشرح ولكنها تفاجئت به يطلب: نامي بس كده.
ما إن تمددت جواره حتى احتضنها وقال: لما نصحى بقى، ابقى افهمك.
حاوطته هي الآخرى وأغمضت عيناها بتعب قائلة: حاضر يا عيسى لما نشوف أخرتها.
فل أهو ونايمة في حضني، متبقيش بومة بقى.

كان هذا رده الذي جعلها تضحك، بينما تنهد هو بتعب وشرد في شيء ما، مشهد قديم استطاع فيه سماع صوت طاهر يرفض رفضا قاطعا: لا يا عيسى أنا مش هقبل حاجة زي دي ومن ورا أبوك كمان.
تحدث معه وهو يعيد بإلحاح محاولا إقناعه: يا عم أنا اللي هشيل الليلة، افهمني يا طاهر، شاكر وحماه هيزودوا اللعب الفترة الجاية، ثروت كان عايز الأرض وقالي أبيعله، و شاكر مش ناسي إنها حقه اللي أبوه كتبه لملك.

طب و ملك عملتلك التنازل، هيفيد بإيه لما تتنازلي عنهم.
كان هذا رد طاهر فجاوبه عيسى يوضح نواياه: ملك لما عملته، أنا كنت عايز ارميلهم معلومة إن الحاجة بقت بإسمي، وخلاص عملت ده ووصلتهالهم، لكن دلوقتي أنا طالب منك خدمة، الحاجة دي تبقى باسمك أنت علشان أنا عارف إنهم هيغدروا في أي لحظة.

رفض رفضا قاطعا وهو يطالع شقيقه بانزعاج: لا يا عم، مليش دعوة، أنا مش هكون مرتاح يا عيسى والحاجة دي بإسمي، وكمان من ورا أبوك!
دفعه عيسى بغضب وقد نفذ صبره: في إيه يا طاهر هو احنا عيال، قولتلك يا عم أنا اللي هقف لبابا لو عرف.
رد عليه طاهر بنفس غضبه: وأنا مش هعمل حاجة من غير ما يبقى الحاج عارف.
لجأ عيسى من جديد إلى اللين قائلا: طب علشان خاطري، اعتبر الطلب ده واقف عليه حاجات كتير عندي.

طالعه طاهر بتردد فأكمل هو ضغطه عليه: وهروح كمان أكلملك الست هادية.
رفض مسرعا: لا متكلمهاش.
ثم استكمل موضحا ما ينوي فعله: أنا هكلمها وتابع مضطرا أمام إلحاح عيسى: و هعملك اللي أنت عايزه يا عيسى، بس لما الحاج يعرف بقى ابقى البسها لوحدك.
مط عيسى شفتيه وعلق على جملة طاهر الأخيرة وهو يربت على كتفه قائلا باستهزاء: لا أصيل يا واد أوي.

فاق عيسى من شروده، و بدر لذهنه مشهد آخر، هو مع طاهر في مكتب المحامي لإتمام التنازل، هذا المشهد تحديدا جعل ابتسامة جانبية تظهر على وجهه و بريق لمع في عينيه يتأهب لرؤية ماذا سيحل بشاكر حين يعلم أن الورقة التي حصل عليها منه لا قيمة لها، فهو ليس المالك لأي شيء مما مضى تنازل عنه، باختصار شديد لقد باع له الوهم.

أحضر شقيقته معه لتصلح ما أفسدته، خاصة بعد موقفها الأخير حين تصنعت أنها إحداهن ترافقه وانطلت الخدعة على شهد، رحبت هادية بهما وتركت رفيدة تصعد إلى الأعلى في حين بقى طاهر معها في الدكان الخاص بها و بادر بالسؤال: إيه؟
طالعته باستغراب، فجذب مقعد مجاور للخاص بها متابعا: أنا سايبك فوق الشهرين أهو، كفاية بقى، وعارف كل اللي هتقوليه وخوفك كمان عليها، بس عايزك تعرفي حاجة أنا بحبها وهخاف عليها زيك.

سألته بابتسامة ساخرة: ومخوفتش عليها قبل كده ليه؟
اعترف بخطأه مسرعا قبل أن تستكمل: غلطت، وأنا عارف، مكنش ينفع اللي عملته مهما حصل.
واعتذرت بدل المرة اتنين وتلاتة، و يوم ما احتاجت حد جنبها وقفت خدتلها حقها قدام البلد كلها، حصل ولا لا؟

لم تستطع إنكار ذلك، فقط طالعته ثم وضحت مخاوفها محاولة أن يصله جزء منها: يا بني شهد صعبة، غير اخواتها، هتبقى عايزة منك معاملة زيها زي معاملتك لابنك، و من الآخر الست سهام مبتبلعهاش، شهد وأمك مش هيعمروا بيت.
هو أنا مش وعدتك في المرة الأولى إني هشتريلها شقة لوحدها؟، ولو مرتاحتش هاخدها ونعيش فيها بعيد، أنا لسه عند كلمتي.

هكذا وضح نواياه واستكمل يطمئنها: ولو على المعاملة اتطمني، أنا هحطها في عيني، علشان خاطري وافقي ونكتب الكتاب.
كررت خلفه سريعا باستنكار: جواز ايه اللي بسرعة ده؟، لا، أنا حتى لو وافقت مش هيبقى علطول كده.
تأفف بانزعاج وأبدى ضيقه في قوله: يعني لسه هقعد أعمل خطوبة تاني؟
رفعت كتفيها وهي تقول ببساطة: اه ميجراش حاجة.
ظهر حزنه جليا و عبر عن ذلك بقوله: لا أنا زعلان، يعني بعد كل ده ولسه قارصة خوانة برضو.

تنهدت بهدوء فشعر أنها ستلين لذا واصل ضغطه عليها باقتراحه: طب ناخد رأيها، لو وافقت نكتب الكتاب ونعمل الفرح في أي وقت، ولو رفضت أنا موافق على أي فترة هتحدديها.
طالما قولت الجملتين دول، يبقى أنت وهي متفقين وعارف إنها هتوافق.
رد على قولها هذا سريعا بالنفي: والله ما اتفقنا.
وافقت على اقتراحه بعد جملته هذه، وقد نوت إقناع ابنتها بالتمهل قليلا وعدم الموافقة على طلبه هذا مطلقا.

بينما في نفس التوقيت كانت ندى في غرفتها، تتذكر ما حدث قبل يومين، حين كانت نائمة في غرفتها في منزل باسم، داهمها دوار غريب، وحاولت فتح عينيها بصعوبة، وحين فتحتهما وقعت عيناها عليه يجلس على المقعد المقابل للفراش واضعا الساق فوق الآخرى، انتفضت بذعر وهي تتيقن من أنه أمامها في الغرفة، لم يكن حلم أبدا فتسائلت باتهام وهي تتأكد من أنها بكامل ملابسها: أنت في الأوضة بتعمل إيه؟

ابتسم باستهزاء فأسرعت نحو حقيبتها تبحث عن الأوراق الخاصة بوالدها داخلها بجنون ولكنها لم تجد شيء فصرخت وهي تحاول الهجوم عليه: اه يا حقير، يا واطي، بقى أنا ائتمنك وأنت تخون.
استقام واقفا يصد هجومها هذا، وخاصة حين تسارعت دموعها وهي تصرخ به: عملت كده ليه، ده أنا مخونتكش لحظة، هات الشيكات وإلا أقسم بالله موتك هيبقى على إيدي النهارده، أنا خلاص مستبيعة.

دفعها بعيدا عنه فسقطت على الفراش ووقف هو أمامها متسائلا بنبرة مستهزئة: أنا اللي خاين؟، ولا أنتِ؟
دافع عن نفسه باستماتة متابعا: أنا عمري ما هبقى زيك.
بان الألم في نبرته وهو يستكمل: أنا حتى مش عارف أكرهك.
أغمض عينيه بتعب وفتحهما يلقي على مسامعها البقية: أنتِ عارفة أنا كرهت عيسى يوم ما اختارتيه، مكرهتكيش…

كرهته هو علشان كان مرازيني في شغلي وفجأة لقيته بياخد أكتر إنسانة حبيتها، مكرهتكيش ولا لومت عليكِ، قولت القلب مش بإيدينا، قلبها اختاره هو مش أنت، لكن اكتشفت إني كنت غلطان كبير.

كانت تسمعه بعينين باكيتين تنتظر أن يصرح بالمزيد ولم يطل إنتظارها، حيث التقطت أذنها نبرته المقهورة حين قال: غلطان علشان حتى بعد ما سيبتوا بعض، روحتي اختارتي المرة دي بعقلك، جوازة كلها قايمة على المصلحة، وكان قدامك تختاريني ومختارتيش، قهرتيني وروحتي اختارتي اللي عرفك يعني إيه ذل.
كان المفروض وأنتِ بتحكيلي عن معاناتك معاه ابقى شمتان فيكي، بس لقيتني زعلان عليكي، طب ووجعي أنا؟

استقامت واقفة لتصبح أمامه وسألته بنبرة باكية: ودلوقتي بقى خلاص حققت انتقامك؟، شمتت فيا؟
ضحك ساخرا وهز رأسه نافيا وهو يرد على تساؤلها: حتى دي مقدرتش أعملها، لما جيت أخد الشيكات بعد ما نيمتك لقيتك صعبانه عليا، ودلوقتي لما صحيتي وصرختي لقتني بتقطع مية حتة إني عملت كده…
صاح بوجع حقيقي بان في عينيه الدامعتين: يا شيخة الله يحرقه قلبي اللي لسه حد دلوقتي بيحبك كده ولا كأنك دايسة عليه مية مره قبل كده.

أخرج الأوراق التي تخص والدها من جيبه وألقاها على وجهها قائلا: الشيكات اهي.
طالعته بذهول، هل تراجع حقا، كانت نظراتها متعلقة به ولا تصدق وأكمل هو: أنا حاولت، بس مش هعرف، مش هعرف أكسرك وأدوس عليكِ زيك، علشان أنا حبيتك.
فاقت من كل ذكرياتها مع هذا اليوم على دقات تتابعت على باب غرفتها، هرعت إليه تفتحه، تريد أن تتحدث معه بأي طريقة وما إن رأته حتى بادرت قائلة:
باسم، أنا.

قالتها بحزن شديد ولكنه قاطعها بإشارة من يده مكملا: بنت عمك جاية تاخدك كمان ساعة، وبتقول إنك هتطلقي النهاردة، أنا كده عملت اللي عليا معاكي، واللي أنتِ متستاهليهوش أصلا.
قبل أن تتفوه بأي شيء وضع يده أمام فمها وأكمل هو بملامح مقتضبة ونبرة باردة: مش عايز أسمع حاجة، وبعد ما تخرجي من هنا
تابع بحزم بان في عينيه أولا: مش عايز أشوف وشك تاني خالص.

أنهى ما أراده وتركها وخرج كالإعصار، فهوت على الأرضية تبكي بصمت وقد تراكمت آلامها وزاد عليهم ألم جديد كان السبب به هو.
ذهبت مجبرة على الرغم من تعبها لتقوم بتسليم ما طُلِب منها لأساتذتها في الجامعة، التقت به فور أن خرجت من المدرج وسار هو خلفها مناديا: مريم.
ردت وهي ما زالت تسير: نعم.
اقفي يا مريم كلميني لو سمحتي.
= مفيش كلام بيني وبينك.

كان هذا ردها الذي تابعت بعده خطواتها فسألها محاولا إيقافها: طب سلمتيلي الشغل بتاعي اللي بعتهولك.
ردت عليه بآلية شديدة: تقدر تسأل الدكاترة عندك.
كانا قد وصلا إلى الخارج فقطع طريقها قائلا بتوسل: يا مريم علشان خاطري، أنا أسف طيب.
انفجرت فيه تصارحه بكل ما حملته في صدرها: حسن أنا مش عايزة أسفك، أنا مبقتش فاهماك.
أنا من ساعة ما عرفتك وأنا مش فاهماك أصلا.

ابتلعت ريقها بحزن وهي تتابع تخبره بما حل بها منذ أن قابلته: أوقات أحس إنك بتحبني، وأوقات أحس إنك بتتسلى وأنا زيي زي غيري، هتلعب شوية ولما تزهق خلاص.
أنا مش دي يا حسن ولا عمري هكون دي.
صرح ينكر عنه بقية جملتها بسرعة: لا يا مريم، أنا فعلا بحبك.
هزت رأسها نافية وهي تخبره بنظرات حاسمة: وأنا مش مصدقاك، لو بتحبني بجد اثبتلي ده.

خلص دراستك وخد خطوة في علاقتنا ولحد ما تعمل ده ملكش علاقة بيا نهائي، ده لو بتحبني فعلا يا حسن.
استدارت لترحل من أمامه وقد نزلت دموعها، ولم تكد تسير خطوات قليلة حتى وصلتها رسالة على هاتفها، أخرجته و فتحتها فتصادمت بمحتواها، رقم لا تعرفه أرسل: هبعتلك location مكان بالليل، مكان عام متقلقيش
ولو عايزة تجيبي حد معاكي هاتي، علشان تتفرجي على اللي عمال يلف وراكي، وتعرفي إنه عملها مع غيرك كتير.

تزايدت عبراتها وأسرعت في خطواتها لتبتعد تماما عن هذا المحيط وقد أرادت وبشدة الآن أن تكون بين جدران غرفتها تبكي وتبث همومها لوالدتها وشقيقتيها.

أرسلتها والدتها لمناداة شقيقها من الخارج، خرجت علا بهدوء فاليوم حل شقيقها ضيفا عليهم وبلا زوجته أيضا، لم تهتم لهذا الأمر فقط قررت تنفيذ ما طُلِب منها حتى تعود لغرفتها بسلام، اهتز هاتفها فطالعته لترى اسمه ينير شاشته وقد أرسل شيء ما، فتحت الرسالة سريعا وقرأت بابتسامة واسعة ونبرة مسموعة: طب علشان نفض الكلام ده كله، مش محتاجة تشكريني أنا عملت اللي لو أي حد مكاني كان هيعمله…

ولو احتاجتي أي حاجة أنا موجود.
شجار متواصل منذ مدة، تحججت بالمراسلة من أجل شكره على موقفه معها بالمطعم حين سقطت ومنذ ذلك الحين وهما كالقط والفأر كل منهما يلقي كلمات قاتلة للآخر ويفر حتى وصلا إلى هذه النقطة، ردت على رسالته بقولها: وأنا أسفه لو كان لساني طويل شوية.
ده عايز قطعه، أعوذ بالله.
كان هذا رده السريع فاحتدت نظراتها وهي ترد: تصدق أنا غلطانة إني بعتذر لواحد زيك.

ذكرها بأنها من أرسلت أولا برسالته: أنتِ اللي باعته ال Add لواحد زيي أنا أعرف اللي مش طايق حد بيعمله بلوك مش بيضيفه.
كادت أن ترد ولكنها سمعت صوت استرعى انتباهها…
جعلها تتحرك بحذر تحديدا ناهية ذلك المكان الخاص بهم والمجاور لمنزلهم، سارت بحرص حتى أصبحت جوار الباب الذي كان مفتوح ولكن فتحة صغيرة، استطاعت من خلالها رؤية مشهد واحد جعلها تشهق بعنف ألا وهو شقيقها يشهر سلاحه في وجه محسن.

وكان خطأها شهقتها التي جعلت شقيقها ينتبه لوجودها، ودخلت هي لتصبح الثالثة بينهما وهي تسأل بغير تصديق: أنت بتعمل إيه يا شاكر؟
قول الإجابة عليه تعلمها جيدا وهي أن ما يفعله هو الخراب ولكنها لم تكن تعلم أن المستقبل سيجعل مذاق هذه الإجابة، مذاق لا يُنسى أبدا.

لم تكن ملك تعلم أن أول لقاء بعد عودتها إلى الاسكندرية سيكون مع الطبيب النفسي، وكأن كل شيء مر بسرعة حتى وصلت إلى هذه النقطة، وجودها في غرفة مكتب نصران برفقة والد زوجها وهذا المعالج الذي بادر بالسؤال:
أنا عايزك تهدي وتتكلمي عن كل حاجة.

حثها نصران بنظراته حتى تستجيب لقول المعالج النفسي، ولكنها لم تأخذ الخطوة إلا حين هتف الطبيب: طب قوليلي يا مدام ملك، عيسى بتجيله الحالة دي في أوقات بعينها؟، يعني مثلا حاجات بتدفعه ليها؟، زي انك تعصبيه مثلا، أو تتكلمي في حاجة بتخليه ينفعل فبيروح متعصب
هزت رأسها نافية وهي تشرح له: لا مش في كل الأوقات بيحصل حاجات قبلها، وده اللي بيخوفني، عيسى ساعات بيتعصب على حاجات تافهة من غير سبب.

ممكن تحكيلي موقف مثلا.

ربت نصران على كتفها بابتسامة حانية فأكملت وقد حاربت ترددها: مره ماما كانت بتتكلم معاه عادي، بتقوله على حاجة عملها إنها مكانتش تنفع يعني، بتقوله بهدوء زي عتاب كده ساعتها هو كان رد فعله مبالغ بدرجة كبيرة زعق وكسر كرسي وقعد يقولها تقصدي اني قليل الأدب وكل ما كانت بتحاول ترد عليه كان بيزيد أكتر، أغلب المرات بيكون حصل قبلها موقف كبير عصبه فبتجيله الحالة دي، لكن في مرات بتجيله من غير أي سبب وكأنه بيدور على حد ينفجر فيه.

هز المعالج رأسه ووجه لها ما جعلها تطالعه بغير تصديق: هل في موقف قبل كده جمعك بيه وهو عنده الحالة دي؟، ولو اه، ضربك أو حاول قبل كده؟
لا طبعا مضربنيش، زقني مرة بس، هو ممكن يضربني؟
كان الرد على سؤالها قاتل: وارد جدا، علشان كده لازم أشوفه، ولازم هو يتقبل إن أنا أشوفه…
لم يكد يكمل جملته حتى سمعوا دقات على باب المكتب تبعها سماع صوته الذي جمد ثلاثتهم: هو في حد مع الحاج جوا يا تيسير؟

من المفترض أنه ليس هنا، ولكنه الآن متواجد وتحديدا أمام الباب.
دق الباب ولكن لم يأذن له أحد بالدخول، انكمش حاجبيه باستغراب ودخل، قطب جبينه وبدا التساؤل على وجهه، ماذا تفعل زوجته وهناك ضيف برفقة والده لذا سأل: في حاجة يا بابا؟

كقناص ماهر لم تحد عينا الطبيب عنه منذ اللحظة التي دخل بها، علم منذ دقائق منهما أمور تثير استفزازه، فبدأ بفعل أولها وهو الدق بإصبعه على مكتب نصران تلك الحركة المزعجة بالنسبة لعيسى والتي ما إن فعلها ضيف والده حتى نبهه بأدب: لو سمحت بطل الحركة دي بتضايقني.
قالها و عاد لوالده وكأنه لم يقل شيء ولكن استمر الطبيب في الدق فاشتعل غضب عيسى واستدار يسأل بانفعال: هو أنت مبتفهمش؟

خشت ملك من أي تهور قد يصدر منه فهبت سريعا واقفة وهي تحثه: تعالى يا عيسى نخرج.
مين ده؟
سأل بضجر وقد ساورته الشكوك فجاوب المعالج بابتسامة: دكتور، دكتور نفسي.
تابع ردة فعله، وهو يرى الغضب الذي كاد أن يلتهم وجهه، وتفاجأ نصران من قول الطبيب الذي سريعا ما أكمل: الحاج قالي إن المدام عندها مشكلة ومحتاجة معالج نفسي، فكنت بسمعها.

شعرت ملك بانسحاب الأنفاس، وخاصة ونظرات عيسى تشملها هي ووالده، نظرات حارقة لو كانت تقتل بالتأكيد لقتلتهما، أخيرا نطق موجها حديثه للضيف: روح.
انكمش حاجبي الطبيب فكرر عيسى بحزم: بقولك قوم روح، وبالنسبة للنفسية والمدام اللي عايزة حد يسمعها…
طالع ملك ثم أكمل وهو يسحبها خلفه من ذراعها: فأنا هسمعها.
كادت أن تسقط أكثر من مرة وهي تطلب بألم: يا عيسى سيب إيدى.
تابعت بغضب: عيسى مش كده، أنا معملتش حاجة.

وجدت أنه يتوجه بها نحو الخارج، و تحديدا ناحية الدرج المؤدي للشقة الخاصة بهما في الدور العلوي، توقفت عن السير فاستدار يحثها صائحا بانفعال: امشي
مش ماشية ومتزعقليش كده أنا معملتش حاجة.
انتوى الشر لها وكاد أن يجذبها من ذراعها مجددا وهو يصرخ: لا امشي، خلاص أنا مش عايزك تاني معايا، ابعدي عني، ابعدي عن حياتي كلها، زهقت.

سقطت عليها الكلمات كدلو ماء بارد و هنا تحديدا كان هناك حائل منيع بينهما، كان هناك والده الذي طالعه بنظرات حادة، نظرات خصه بها وحده ولن ينساها أبدا.
وأمام ما تفوه به ووالده على يقين من أنه ليس في حالته الطبيعية لا يدري ما يقول ولكن قرر أن يكون العقاب بنفس طريقته فاستدار لها قائلا: روحي يا ملك عند أمك.

لمعت عيناها بالدموع وهي تطالع زوجها بنظرات قاتلة، كانت ستنخرط في نوبة بكاء عميقة فهرولت ناحية الداخل، لتأخذ كل ما يخصها هنا، عرف البكاء الطريق إليها فبكت بعنف، و سهام تتابع بتشفي وقد راقبت الأمر منذ بداية الشجار، لمحتها وهي تخرج من غرفتها باكية فقالت بنبرة لم يصل لملك منها سوى الشماتة: معلش يا حبيبتي، يومين كده ويهدى ويجيبك…

هي الرجالة كده، أنتِ برضو عصبية أوي يا ملك، مترديش عليه يا حبيبتي، كده ممكن في لحظة شيطان يطلقك، اديكي شايفة اهو اولها قالك إيه.
لم تحتمل سماع أكثر فهرولت ناحية الأسفل وقد زادت العبرات في عينيها في اللحظة نفسها التي رأتها رفيدة التي عادت للمنزل أمس فقط، هرولت خلفها سائلة بقلق: في إيه يا ملك؟
لم ترد عليها فزادت من سرعتها طالبة: يا بنتي اصبري في إيه.

كان خلفها سهام وابنتها وما إن وصلت إلى الخارج حيث الممر الواصل بين المنزل والدرج المؤدي إلى الأعلى، جاهدت ألا تطالعه وهي تمر لتخرج نهائيا من هنا، بدأ في إدراك ما فعله، عرف أنه في مأزق حقيقي حين لمحها ترحل، في مأزق حقيقي وهو المتسبب في الدموع التي ملأت مقلتيها، تخطى والده مهرولا وقطع الطريق أمامها طالبا بإصرار: ملك، استنى هنتكلم.

حاولت تخطيه وقد كان كل إنش بها يهتز إثر البكاء، وترفض رفضا قاطعا الحديث معه فتحدث أمام جميع النظرات المراقبة لما يحدث: ملك أنا أسف، اعملي أي حاجة بس تمشي لا.
لم تنظر لعينيه، هل يطلب الآن منها ألا ترحل بعد أن طلب قبل دقائق أن تبعد عن حياته نهائيا، نجحت في الابتعاد عنه لتكمل طريقها ولكن قطع طريقها من جديد مكررا: ملك بصيلي طيب، علشاني يا ملك.

كان والده يراقب بترقب، و رفيدة تسأل والدتها هامسة: هو عملها إيه؟
علقت سهام بنبرة منخفضة وقد غزاها الضيق: دي بت بتدلع ومكبرة الموضوع، وهو غلطان إنه عمال يحايلها كده، يغورها تقعد جنب أمها.
كادت ابنتها أن ترد بانزعاج من حديث والدتها ولكن انتبهت لعيسى الذي ارتفعت نبرته وهو يقول بإصرار: يا ملك مش هتمشي.
ردت عليه بانهيار من بين عبراتها التي دخلت سباق عنيف: لا همشي، أنت اللي طلبت.

رد سريعا بحزن على الحالة التي وصلت لها: أنا أسف، كنت بقول أي كلام.
أحكم قبضته على كفها مكملا برجاء: متمشيش يا ملك، أنتِ تقعدي وأنا اللي امشي.
حقك عليا.
زاد نحيبها ووضعت كفيها على وجهها فاحتضنها سريعا وقد لمعت الدموع في مقلتيه هو الآخر، وكأنه يخفيها عن العالم بأكمله ويكرر هامسا جوار أذنها: متمشيش علشان خاطري…

دموعها التي بللت قميصه وشهقاتها التي ترتفع جعلته يقول بألم: أنا أكره إنك تكوني موجوعة كده مني أنا…
سمعت صوت نصران من الخلف يأمرها بالرحيل بنبرة حازمة: امشي يا ملك.
في نفس اللحظة التي كانت فيها في حضن عيسى الذي همس لها: قوليه لا مش همشي، قوليله إنك هتفضلي علشاني.

كانت بين نارين، رفع عيسى وجهها ليرى عينيها وقد قتلهما البكاء فمال يقبل إحداهما مكررا اعتذاره بينما والده في الخلف يكرر طلبه عليها، كانت سهام في حالة ذهول تام لما يحدث، و استنكار لكل تلك المحايلات التي يقوم بها ابن زوجها حتى تبقى زوجته، كانت على يقين من أن ملك ستختار صف نصران لتكسب نقطة لديه وبدأت في رؤية هذا بعينيها وخاصة حين قال نصران: اسمعي كلامي يا ملك.

وابنه في ناحية آخرى يمحي تأثير كلمات والده ويطلب بعينيه قبل فمه: ردي عليه وقوليله لا، قوليله مش همشي.
خشى كثيرا الخذلان بينما أراد والده أن توافق وترحل ليضغط عليه في أمر علاجه ولكنها لم تستطع أن تخذل من لم تخذله أبدا، تركت الحقائب على الأرضية وقالت بنبرة حزينة: أنا مش همشي يا عمو.

احتضنها عيسى وابتسمت رفيدة بحنان في اللحظة التي حلت الصدمة فيها على والدتها لرفض ملك لطلب نصران و قرارها بالبقاء، لتشبثه بها وكأنه يخبر الكون بأكمله أنه لن يفرط فيها أبدا، أنها دائما وأبدا ستبقى هنا، ستبقى بحضنه تضيف مزيد من الأقوال التي لا ينساها القلب أبدا كقولها اليوم: لن أرحل وأتركه.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *