رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الأول للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع والعشرون
- وأعترف رغم كل هذا الحب الذي كنّا نعيشه، و رغم كل الوعود بالثبات كنت أعرف أنني سأمضي في الطريق وحدي وسأجيب على كل الأسئلة بمفردي وسأحلم من جديد بدونك، كنت أعرف أنك ستفلت قلبي ويدي معًا ومع ذلك لم أفرّط في لحظة حب واحدة معك.
الوقت غير مناسب كي أعرفك، أنت شخص رائع على مايبدو، وأنا متهالكة، أو في حياة متهالكة، أعيش بعالم لا انتمي إليه، لا أدري و لكني أشفق عليك مني، رُبما لو تقابلنا بزمان آخر لكان هناك فرصة جديدة للحياة معًا.
تنزهت أصابعها فوق سياج صدره الصلب بتردد، بمحاولة فاشلة منها لتذكر أي ريح أتت بها إلى هنا! أغتنمت نظرة طويلة من ملامحه النائمة، وأنامله المُتغلغلة بشعرها كمن يهدأ من قلق صغيرته ويحسسها بوجوده، كانت أنفاسه خارجة بارتياح شخص حقق مقاصده حتى خلد في نومه أمنًا.
فزعت عالية كالملدوغة من جوار ذلك الجسد الذي لم يفصله الهواء وهي ترجع شعرها المُبعثر للخلف، نهض مراد إثر حركتها الغريبة عكس الهدوء الذي كانت عليه بقربه، ما أن تفتحت جفونه بثقلٍ: -صباح الخير!
-أي خير ده! أنا بعمل أيه هنا!
كانت ملامحها مُغلفة بالتيه، والشرود، تصمت للحظات بين كل جُملة والثانية، تبدلت نبرتها لأعلى: -هو أيه اللي حصل أنا مش فاكرة أي حاجة!
اعتدل مراد من نومته بضيق: -ممكن تهدي طيب، وانا هفهمك، أنتِ مكبرة الموضوع ليه، أهدي ممكن!
-أنت استغليت الحالة اللي أنا كنت فيها امبارح، وقلت، قلت أما.
ثم صرخت جازعة: -أنتَ ازاي تعمل كده، وازاي سمحت لنفسك تقرب مني وأنا مش في وعيي!
كتم سيل الاتهامات المتدفق من شدقها بأصابع كفه المُلتصقة ببعضهم، وبرقت عيونها التي لم تكف عن العتاب، اطلق زفيرًا قويًا كي يتخلص من الشحنات السلبية التي شُحن بها وأشار بعينه ثم تفوه متسائلًا: -أنتِ أيه مزعلك دلوقتِ! أنا عملت أي حرام ولا غلط للعصبية دي كلها؟ هاه!
ثم رفع كفه عن ثغرها كي تتحدث، أحست بالقلق قبل أن تسرد أوهام رأسها الغريبة: -استغلتني! استغليت الحالة اللي كُنت فيها، ويا عالم ايه اللي حصل بعد كده!
هز رأسه مشفقًا على الحالة التي وصلت إليها حيث أردف بحنو مجبرًا ألا يثير رياح غضبها أكثر: -استغليت أيه بس! شوفي هو ياما أنتِ حلمتي بحاجات محصلتش أصلًا، أو لسه نايمة وده كله تخاريف!
-كمان! قصدك تقول إني اتجننت!
ربت على كتفها كي يفض تلك الحملة التي شنت عليه فجأة: -لا أنتِ عاقلة وست البنات، بس أنا مش عارف أنتِ مكبرة الموضوع ليه؟
-والله! لما اصحى وألقى نفسي في حضنك ده عادي!
-اه عادي يا عالية، فين المشكلة!
زفرت باختناق حد البكاء، حيث لا تجد سببًا مقنعًا لتلك الحالة التي بها غير وصف الجنون، ولكن الأمر خرج عن السيطرة، حيث ثارت بوجهه: -الاستغلال! أنت سمحت لنفسك تعمل حاجة بدون رضايا!
تمتم لنفسه سرًا: -هو يوم مش فايت، أنا حاسس.
ثم مسح على شعرها برفق وهو يشير لها ناحية المرآة: -عالية، ممكن تبصي على نفسك في المرايا! دا أنتِ حتى لسه بهدومك!
تفقدت صورتها المعكوسة بالمرآة مما أحست بسنابل الخجل تترعرع بداخلها، طالعته بنظرة الهزيمة والاعتذار ولكن غرور الأنثى التي خلقن منه بنات حواء، باغتته بعتب أخر: -وتبرر أيه وجودك جمبي! مش ده بردو استغلال يا بيشمهندس!
-أنتِ شكلك مش فاكرة كُنتِ عاملة ازاي بالليل، وبعدين أنا جمبك لانك أنتِ اللي طلبتي ده، ورفضتي إني امشي عشان اسيبك على راحتك.
لطخت وجنتيها بحمرة الخجل مع الإنكار: -أنا مستحيل أعمل كده! أنت بس بتحاول تبرأ نفسك قدامي.
-والله أنا مش محتاج أبرئ نفسي عشان أدي أسباب واضحة تقنع مراتي انها صحيت لقيتني نايم جمبها!
قال جملته وهو يتأهب ليغادر الفراش التي شنت فيه الحروب النفسية بدل من الجسدية، ولكنها لم تمنحه الفرصة وتمسكت بذراعه، لتسائله بخفوت: -يعني أنتَ نمت جمبي وبس! محصلش حاجة مش كده!
أسبل عيونه بحماقة مفتعلة: -حاجة زي أيه مثلًا!
شعرت بالارتباك ثم بررت بحسم: -طيب دي أول واخر مرة ده يحصل، ولو حصل تاني أنا مش هعديها.
تحمحم بخفوت متعمدًا العزف على ثورتها المشتعلة بدون سبب: -هتعملي أيه يعني؟
تردد كثيرًا حتى قالت: -انا مستحيل أقعد معاك في نفس الأوضة، ومن هنا ورايح كل واحد في حاله لحد ما أحدد أنا عايزة أيه!
-بس أنا عارف إنتي عايزة أيه بحالتك دي؟
ألتفتت إليه باهتمام: -أزاي؟
-عايزة مختص لحالة التهيؤات الغريبة اللي بتجيلك دي! ولا أقولك خليها ممكن تنفع في يوم من الأيام.
توقف عقلها عن الاستيعاب للحظات أردفت فيها بحيرة طفلة: -يعني أيه!
غير مجرى الحديث كي لا يزداد الأمر سوءًا: -قصدي تسافري أي بلد يومين تغيري جو!
تشبثت برأسها التي طقطقت بوجع الصداع: -حاسة دماغي هتتفجر، أنا مالي! مش مظبوطة في حاجة غلط.
تبسم مراد قائلًا في سره: -لسه اللي واخدة بالك!
ثم وثب قائمًا: -هعملك قهوة معايا واشوف لك حاجة للصداع ده، ارتاحي بس دلوقتِ. أحم وبلاش تهيؤات من اللي بتجيب صداع دي.
ليه يا قلبي ليه ليه ياقلبى ليه. بتحلفنى ليه أخبي الحكايه. و أداري عليه ماوصفلوش عذابي. وحيرة شبابى وحبه ال خدنى. من اهلى وصحابى
تلك كانت الكلمات المُغردة بصوت فايزة أحمد من شاشة التلفاز الذي أضاءته حياة ثم توجهت إلى ركن صناعة القهوة بجناحه الكبير، أخذت تدندن مع الموسيقى بانسيجام تام حتى تذكرت تفاصيل ليلة أمس.
-أنا مستنية رأيك في المكرونة على فكرة!
أردفت بتلك الكلمات بعد انتظار طويل لرأيه ولكنه احتفظ به لنفسه دون الكشف عن إعجابه الشديد بصنع يديها، خاصة أنها احترفت أكثر الأنواع المُحببة لنفسه وهو الجمبري، اكتفى بهز رأسه مرغمًا: -اه عادي.
رمقته بخيبة أمل: -قصدك أكلي مش حلو! يعني مش عاجباك؟ طيب بتاكل منها ليه!
-بجبر بخاطرك.
تناول بالشوكة قطعة من الجمبري ووضعها بفمه وما أن مضغها كإنه يريد أن يبتلع بقية كلماته التي يظنها تعبر عن ضعفه، قطب حاجبيه متعمدًا تجاهل النظر إليها وبمجرد ما ارتشف من كوب الماء فاجئته بسحب المائدة من أمامه بعناد طفلة:
-مش مجبر تاكل حاجة مش عاجباك، تقدر تتبع قوانين الست عبلة هانم وتكمل نوم.
لم ينكر طيب مذاق الوصفة خاصة أنها المفضلة إليه، حاول أن يأخذ شوكته ليواصل أكله ولكنها أمتنعت عن ذلك بإصرار وقالت: -هنزل الأكل تحت، ما دام مش عاجبك!
رأى بعيونها شرارة التحدي، فأخمدها بغيث التجاهل: -براحتك! زي ما تحبي.
ثارت زعابيب غضبها أكثر، حملت المائدة الخشبية ووثبت قائمة وما أن خطت خطوتين ثم توقفت لأنها تذكرت ما تقوله: -ولعلمك بقى أنا مش مستنية جبر خواطر من حد.
وجوده في حياتها مثل القمر، قادر على أن يحرك بحر غضبها ورضاها حسب حالته المزاجية، فاقت من شرودها على صوته الذي يطاردها أينما ذهبت وهو يقول: -ده أيه الروقان ده على الصبح!
-ومبقاش رايقة ليه، أصلًا محدش يقدر ينكد عليا.
أغلقت التلفاز ثم وثبت قائمةً بعد ما تركت فنجان قهوتها فوق الطاولة الزجاجية وخربشت على باب التشاجر معه، كأنها تريد الانتقام منه والثأر كبريائها الذي أهانه وقالت بحدة: -بعد كده تلبس هدومك جوه، وتراعي أنك في الأوضة دي مش لوحدك.
كانت سجيته قلة الكلام، قفل زر بنطاله ثم دار إليها بهيئته الفخمة وعضلاته البارزة: -خايفة تضعفي!
تمالكت أعصابها بأعجوبة ثم قالت بسخرية: -لا خايفة أحسن تستهوى.
اكتفى بابتسامة خبيثة طرف شفته ثم عاد ليكمل لبسه، زفرت باختناق كي تتخلص من وجهها الغاضب وترتسم وجهًا مُزيفًا: -تحب أعمل لك قهوة!
تبدلت ملامحه للدهشة وهو يلقى عليها نظرة سريعة من طرف عينه، بعدها أكمل ارتداء قميصه، فركت حياة كفيها بإحراج ثم قالت بعصبية: -طيب على فكرة أنا قدمت لك خدمة بتاعة الوفد الإيطالي، فاكر!
-مش فاهم!
عقدت ذراعيها أمام صدرها بتوجس: -يعني بقول اني مخدتش مُقابل وكده!
أخذ يقفل في زر قميصه ثم قال: -وأيه المُقابل اللي عايزاه!
دنت منه خطوة ثم أردفت: -توافق على خروجة الملاهي، وأنا أوعدك مش هطلب منك حاجة تاني!
-أممم، لما أفضى هشوف الموضوع ده!
وقفت أمامه معاندة: -هما عايزينه النهاردة ف الويك آند!
-أنا في دماغي ألف حاجة لازم احلها وقلت لما أفضى!
هزت كتفيها بلا مبالاة: -خلاص، هاخدهم أنا ونخرج سوا، عشان واضح أنك مش فاضي تفرح بناتك!
قبض على معصمها بشدة: -لو فكرتي تخطي خطوة بره البيت ده من غير أذني هتبقى أنتِ اللي اخترتي تشوفي الوش التاني!
ثم ترك معصمها عندما رأي بريق الدمع بعينيها واخفض نبرة صوته: -أنا بقول فكك من الجو ده وتنزلي تشتغلي معايا! على الأقل عيني هتبقى عليكِ 24 ساعة. بدل ما شايفك فاضية كده.
تمسكت بمعصمها بتأوهٍ وهي ترمقه بسخط، ثم زفرت: -انا بعد الأيام هنا يوم بعد يوم عشان أخلص من طريقتك المتعجرفة والمستبدة دي!
تجاهل تلفظها به ووقف أمام المرآة لعقد رابطة عنقه وقال باختصار: -قبل ما انسى، معادك عند الدكتورة يوم السبت.
-دكتورة أيه؟
-أنتِ لازم متابعة وعلاجات تساعدك أنك تفتكري بسرعة. خليت مديرة مكتبي تحجزلك، وهنروح سوا.
هنا طَرقت سيدة الباب، فسمح لها بالدخول، تقدمت إليه حاملة مائدة الإفطار: -فطورك يا سعادت البيه.
-حطيه عندك يا سيدة.
وضعت سيدة الطعام مكان ما أشار إليها ثم دنت منه تلك العجوز وقالت بانبهار كمن يطالع حورية البحر خارجة من عالم كرتوني: -تسمح لي يا بيه أقول لك، إن ست حياة زي القمر ويا زين ما اخترت والله، هي الست مها كانت جميلة بس الست حاجة حاجة تانية خالص.
ثم اندفعت نحوها بغزل: -يا طعامتك!
أتاها صوت عاصي المتعجرف: -سيدة، انزلي قولي لهدير تجهز عشان في اجتماع مهم النهاردة.
انكمش وجه سيدة حتى غمغمت لنفسها سرًا: -حد يسيب المهلبية دي ويروح للملوخية!
ثم ارتفعت نبرتها بارتباك: -حاضر حاضر يا بيه…
هزت حياة رأسها بغضبٍ تسرب من شقوق حروف جملته وقالت باستهتار: -اااممم هدير! أحم أنت ناوي تسمع كلامي وترجعها، يعني مجرد سؤال مش أكتر! أنا يهمني مصلحة ابنك ف الأول والآخر.
ارتدى جاكت بدلته السوداء وقال بخبث بعد ما قرأ سطور الغيرة بعيونها: -يمكن وليه لا! لسه بفكر.
ثم اتجه نحو المائدة وقال بمكر: -تعالي نفطر، ولا أنتِ مالكيش غير في الجمبري!
أحتلت الغيرة والغرابة رأسها فقالت بضيقٍ: -وأنت مزعلك في أيه الجمبري!
رفع حاجبه مع ابتسامة خفيفة وهو يبدأ في تناول طعامه الصحي: -مش مزعلني في حاجة، بس ممكن يزعلك أنت بعدين!
-سيدة، سيدة!
تلك الكلمات خرجت من شدق كريم بهمسٍ وهو يركض إليها، ألتفتت نحوه حتى اقترب منها: -الفطار ده لمين؟
-ده بتاع سي تميم، دي الست عبلة بنفسها اللي حضرته!
حك ذقنه للحظات ثم قال: -طيب هاتيه واجري أعمله غيره! بس يكون سر يا سيدة.
هزت رأسها بالرفض: -لا طبعًا، ست عبلة مأكدة عليا أني لازم أوصله لأوضة سي تميم.
عقد كريم حاجبيه بامتعاض: -طيب هاتيها وأنا هقنع خالتي بأسبوع أجازة تروحي لأختك بورسعيد، وأنا بنفسي اللي هوصلك!
ردت الروح بوجه سيدة بحماس: -ده أنت تأمر. خد أنتَ الصنية دي وأنا هنزل اعمل غيرها لتميم بيه، صحة وعافية على قلبك.
حمل المائدة عنها ثم انتظر أن تهبط لأسفل حتى تفقد الساحة حوله بحذر وهو يتسلل نحو الغرفة التي تُقيم بها نوران ، دق الباب برفق كانت نوران خارجة من المرحاض تنشف وجهها، ثم فتحت الباب شاهقة: -يخرب بيتك هو أنتَ!
-هي دي صباح الخير! أنتوا الذوق ما عداش عليكِ يا بنتي!
ارتبكت نوران بخوفٍ: -أش وطي صوتك، شمس أختى نايمة جوه!
غمز بطرف عينه وسألها بفضول: -هي مش المفروض تنام ف أوضة جوزها ولا هما متخانقين! قولي لي أي الحوار!
زفرت نوران باختناق: -أنتَ بترغي كتير ومش هتستريح غير لما حد يشوفنا! امشي بقى.
مد لها صينية الفطور قائلًا: -ده أنا جايب لك الأكل بنفسي وقلت نفطر سوا.
أتاها صوت شمس من الداخل المُفعم بالنوم: -نورا، واقفة عندك بتعملي أيه!
حملت نوران المائدة منه وهي تدفعه لبعيدٍ ثم عادت إلى الغرفة وقالت بتردد: -دي الست اللي بتشتغل، قصدي تميم باعت معاها الفطار ووصاها أنك لازم تاكلي كويس.
اعتدلت شمس من نومتها وهي تطوي شعرها على هيئة كعكة عبثية: -نورا، أحنا ملناش عيش بعد النهاردة في البيت ده!
-بصي سيبيني أفطر كده الأول عشان أعرف اتناقش مع قراراتك المفاجأة دي، وبعدين نشوف.
في الغردقة
-الصبر، الصبر وهتبقي ليا لأخر العمر يا رسيل، وعاصي بتاعك ده أنا هفرمه!
يقف كطائر النورس على الشط يتلذذ بضحاياه، واحد تلو الأخر، ينفث دخان سيجارته حتى أصبحت كغيمة مُنعقدة من الظُلم فوق رأسه، اقترب أحد رجاله قائلًا:
-فريد بيه المراكب هتتحرك كمان نص ساعة.
أومئ رأسه بالإيجاب وهو يدهس عقب سيجارته بمقدمة حذائه: -عايز اسم فريد المصري يغرق البحر والبر. مش عايز مركب واحدة تنزل تصطاد غير بإذني.
-أوامرك يا بيه، اه والمحامي اللي طلبته مستنيك في المكتب.
-قدم له حاجة يشربها، لحد ما أجي له!
ثم ألقى نظرة في شاشة هاتفه كأنه ينتظر أمرًا هامًا وقال: -يلا جر عجلك أنتَ.
انصرف المساعد الخاص به وآتى قاسم من الخلف قائلًا: -يعني فات يوم والتاني ومفيش لا حس ولا خبر يا ابن المصري!
عقد فريد ذراعيه وراء ظهره وهو يفرد قامته ويملأ صدره من هواء البحر وأجاب: -مش كُل حاجة هتتحل بسرعة! في حاجة اسمها حكمة!
ثم ألتوى ثغره ساخرًا: -نسيت! الحكمة دي من ثمة القادة اللي زيي، مش الشيالين اللي زيك.
لعق قاسم شفتيه متقبلًا شعور الإهانة كي يصل لمراده وبعد ذلك كل شخص سينال عقابه: -أنا لازم ارجع إيطاليا أول الشهر! ومش هينفع أرجع من غير رسيل.
شرع فريد أن يجيبه ولكن توقف إثر رنين هاتفه بالاتصال المنتظر، رد بلهفة حتى آتاه خبر اليقين: -يونس ورشيد المصري تعيش أنت يا حوت، ومن الساعة دي أنت الكبير يا كبير. أنت حوت البحر الأحمر.
اتسعت ابتسامته لما اخترق آذانه ثم هتف فارحًا: -عفارم عليك يا مرسي، عدي عليا عشان أديك حلاوتك.
قاسم باستغراب: -ماتفرحني معاك!
ضحك فريد بانتصار: -بهد كل الحيطان اللي ممكن رسيل تتسند عليها، عشان اسلمها لك لوزة مقشرة، شوفت أنا بفكر في مصلحتك أزاي!
ثم ربت على كتفه وأتبع: -تعالى نشوف المحامي عشان نبدأ مشروعنا الجديد.
تطالعه من وراء النافذة بعيون نرجسية، وبدهشة من رماد، وبشهقة البحر التي ثارت بجوفها عندما رأته بصحبة هدير وصعودها السيارة بجواره، أخذت تقطم في أظافرها بغلٍ وتقول لنفسها:
-وأنا مالي! مالي أزاي! ده شخص نرجسي عايز يمتلك كل حاجة لنفسه! هو مش وصل للي عايزه واتجوزني! دلوقتِ بقى يروح يجر ناعم مع الهانم! وقال أيه مش عايز حاجة تربطه بيها!
أطلقت زفيرًا قويًا وأكملت: -الشهر المتفقين عليه قرب يخلص، وخلاص كل واحد فينا هيروح لحاله! استحملي.
شدت الستائر وعادت إلى التلفاز وأمسكت بالريموت: -وبعدين هو عرض عليا الشغل! فيها أيه لو نزلت اشتغلت معاه! فرصة كويسة بردو، جايز أعرف أفهمه، وبعدين أنتِ مالك مركزة معاه كده ليه هو حر! عايزة تفهميه ليه خليكِ في حالك.
اختلط الأمر برأسها حتى رمت الريموت بضجر وتفوهت محتجة: -وقال أيه أكلي مش عاجبه! ومتخرجيش ومتروحيش! طيب يا سي عاصي هوريك أنتَ بتتعامل مع مين، عشان أنا مش الجارية بتاعتك.
نيران مندلعة بأعلى ونيران نشبت بالأسفل، حيث أخذت نوران تتلوى كالطائر الذييح من شدة الوجع مستغيثة بأختها: -ألحقيني يا شمس، بطني بتتقطع.
ركضت شمس نحو أختها بلهفة: -نورا مالك؟ ردي عليا في أيه!
صرخت نوران بألم: -سكاكين في بطني يا شمس الحقيني!
تناولت شمس كوب المياة من فوق المائدة وأخذت لمونة عصرتها بالماء وبكف مرتعش قالت: -آكيد من اللانشون اللي أكلتيه، اشربي الليمون يفسد مفعول أي حاجة متسممة دخلت جسمك، هكلم الإسعاف حالًا…
ركضت شمس كالمجنونة مقتحمة غُرفة تميم الغارق في عقد اتفاقيات شغله المجهول، عند دخولها قفل جهاز الحاسوب، فلم تمنحه الفرصة ليسألها عما بها ولكنها سبقته قائلة: -نورا أكلت حاجة متسممة كلم الإسعاف بسرعة.
هنا أحس كريم الذي يترقبها من بعيدٍ بحركة مريبة خاصة صوت نوران المتعالي، ركض إلى الغرفة فوجدها تتلوى وجعًا، اندفع إليها بلهفة وحملها بين يده، خرجت شمس وتميم من الغرفة فالتقى الجميع في ساحة الطابق، هتف تميم: -كريم خدها على اقرب مستشفى وانا جاي وراكم.
ركض كريم على الفور ثم تابعته شمس وهي تناجي ربها أن لا يُريها سوءًا بأختها، خرجت عبلة من غُرفتها إثر ذلك الصخب المنتشر بساحة القصر، ف تبدلت ملامحها عندما رأت تميم يصيح مُناديًا على سيدة كي تخبر السائق أن يأتي إليه، دوما ما يحوم القاتل حول مسرح الجريمة، اقتربت منه عبلة حائرة تتمايل مُتسائلة بخبث: -هو في أيه!
رد مجبورًا: -أخت شمس أكلت حاجة متسممة.
ثم صاح بجزعٍ: -يلا يا سيدة.
ازدرى أعينها وهي تلعن ذلك الحظ في نفسها سرًا حيث صاح بوق شيطانها الآثم بداخلها: -فلتت منها المرة دي يا تميم بس على مين!
انتظرت حتى رحيل تميم ثم هرولت إلى غرفة عالية وسرقت طبق العسل من فوق المائدة وعادت إلى غرفتها كي تسكب محتواه وتمحو آثار جريمتها.
في تلك اللحظة نزلت حياة إلى غُرفة الفتيات، دخلت الغرفة بهدوء فوجدتهن غائصات بسبات عميق، شرعت في إيقاظهن ومداعبتهن حتى تسألت تاليا بصوتها النائم: -أنطي! هنروح الملاهي زي ما وعدتينا!
فكرت حياة للحظات ثم قالت بتوجس: -هنروح يا روحي، أنا جايه أصحيكم عشان نكسب وقت وناخد اليوم من أوله.
انقض عليها الفتيات بحماس ثم هتفت أحداهن: -يس، تحيا أنطي حياة، بابي جاي معانا صح؟
أطرقت بخفوت: -هو بيعتذر منكم لانه عنده شغل، بس قال لي إنه معندوش مانع نخرج سوا، وكمان ساب لنا فلوس كتير عشان نجيب كل اللي نفسنا فيه…
داليا بفرحة وهي تعانقها: -أنطي أنا بحبك أوي، ممكن متمشيش تاني، خليكي معانا هنا.
تاليا بتوسل: -بليز يا أنطي خليكي معانا، متمشيش خالص…
لم تمنحها داليا فرصة للوعود الكاذبة بل أطرقت بحماس طفولي: -هنروح فين.؟
تشجعت تاليا وقالت: -نروح الأول الملاهي نلعب كتير، وبعدين نروح المول نشتري حاجات كتيرة وألعاب، وبعدين نروح ماك نتغدى، وبالليل نروح سينما. أيه رأيك يا أنطي!
تحمحمت حياة بقلق وتمتمت: -اتفقنا وربنا يستر على اللي هيعمله أبوكم فيا…
اقتحمت عبلة الغُرفة، فتبدلت ملامحها إلى آخرى غاضبة عندما رأت حركة عجيبة بالغرفة، تسللت للداخل متسائلة: -علي فين كده!
هتفت داليا: -هنخرج نروح الملاهي. بس سوري حضرتك مش هينفع تيجي معانا.
طالعت حياة بحقد ثم رسمت ابتسامة مزيفة: -ليه يا حبيبتي!
تقدمت تاليا واضعة كفيها في خصرها بجزل طفولي: -عشان أحنا حابين نكون بنات مع بعض وهنلعب سوا، وحضرتك ست كبيرة مش هينفع.
كتمت حياة فم الصغيرة برفق ثم قالت مبررة لعبلة التي بدا الانزعاج عليها: -أممم قصدها هنتحرك كتير وممكن تتعبي.
رمقتها عبلة بحقد: -عاصي يعرف أنكم خارجين.؟
أجابتها بثقة: -أكيد يعرف، مش هخرج من غير أذن جوزي يا عبلة هانم أنا بردو بفهم في الاصول.
هزت رأس الحية أفكارها ثم اقتربت من حياة وسألتها: -قوليلي يا حياة، باباكي بيشتغل أيه! حد معروف في الوسط يعني! أعرفه.
تخبطت أطرافها بلون الحيرة وظُلمة الاستجواب الذي وقعت فريسته بدون سابق إنذار، كادت أن تجيبها بأي قصة وهمية ولكن أنقذتها تاليا قائلة بعفوية: -ناناه أحنا مستعجلين أوي، ممكن نأجل الكلام دا لوقت تاني!
ثم شدت حياة من كفها وقالت بمرح: -تعالي يا أنطي قوليلي ألبس أيه، يلا يلا مش عايزين نتأخر.
-أحنا جينا هنا ليه؟
ذلك السؤال الأخير الذي أردفته هدير بعد وقوف السيارة أمام المشفى، رفع عاصي حاجبه بهدوء: -محتاجين نطمن على صحة البيبي.
تعربدت الغصة بصدرها: -ولا قصدك تتأكد إذا كُنت حامل ولا لا!
تحمحم برزانة وثبات: -أنتِ مالك خايفة كده ليه!
للكلمة وقع أحد من السيفِ على قلبها، انفجرت هدير بوجهه: -أنتَ مكذبني وكمان مستغرب أنا كده ليه! مش بعيد لما تتأكد تقول مش ابنك.
-أنا كلامي واضح يا هدير! أنتِ اللي بتلفي وتدوري. ومتعصبة من مفيش.
وقفت على نصل كلماته الحادة: -الهانم بتاعتك امبارح تغلط فيا، وأنت جاي دلوقتِ تتهمني في شرفي وإني بتبلى عليك، وعايزني مبقاش متعصبة!
تجاهل كل ما قالته وتوقف على أعتاب جُملتها الأولى: -قصدك حياة! وهي حياة مالها بيكي؟
-مالها؟
أردفت كلمتها ثم أتبعتها بضحكة ساخرة وأكلمت: -أنت بس دلعتها لحد ما ملكت البيت وعملت نفسها صاحبة مكان، وبعدين أنتَ اللي متلفش وتدور عليا، أكيد حكت لك هي قالت أيه بالليل!
هز رأسه وبداخله فضول لا يوصف خاصة إن تعلق الأمر بتلك القطة المُشاكسة، زفرت هدير باختناق: -يلا يا عاصي، أنا همشي معاك للأخر لحد ما تعرف مين اللي بتحبك ومين اللي جاية تغفلك!
قالت جملتها ثم هبطت من السيارة بغضب فرغته في بابها وهي تدفعه بقوة وانتقام، دلف الأخير من سيارته مُتبعًا خُطاها حتى وصلت إلى قسم النسا والتوليد بالمشفى، مجرد ما أدلى اسمه للممرضة، سمحت له بالدخول على الفور.
مرت عدة دقائق على الفحص وإجراء التحاليل اللازمة، كان يجلس على فوهة بركان ثائر، يتوسل إلى ربه أن يكون خبر حملها أكذوبة من صنعها، مرت العديد من الدقائق حتى جاءت الطبيبة وبعدها هدير بوجهها الضاحك، أردفت الطبيبة برسمية: -هو الحمل مش مستقر، فلابد من حقن التثبيت دي، ومع الراحة التامة طبعًا، بس متقلقيش، وأسبوعين كده وأشوفك تاني، أهم حاجة الراحة ثم الراحة، مش هوصيك بقى يا عاصي بيه، دلع المدام ونفسيتها أهم شيء.
وضعت هدير ساق فوق الأخرى وقالت بانتصار: -وصيه عليا بقى يا دكتور، عشان دايمًا مزعلني، ولا أيه يا حبيبي!
بات كلماتها تغتصب غضبه المكبوت، حتى فزع فجأة متأهبًا للرحيل بدون أي مقدمات، أخذت هدير الروشتة من الطبيبة ثم لحقت بخطواته الواسعة، فلم يتحمل سماع المزيد حول موضوع حملها، هنا جاءه اتصالًا من عبلة وهو توبخه:
-أنتَ أزاي تسمح بالمهزلة دي ياعاصي!
-حصل أيه!
-يعني أيه الهانم تاخذ البنات ويخرجوا مع السواق لوحدهم! أنت ناسي أن أعدائك في كل حتة! يا خسارة فكرتك أذكى من كده! اتحمل بقى نتيجة ثقتك العمياء في الهانم بتاعتك.
التعليقات