التخطي إلى المحتوى

عاد حمزة إلى الشقة حاملًا بيده حقيبة صغيرة. ما إن عبر الباب حتى نادى بصوتٍ مرتفع:

“ريم… ريم!”

تجولت عيناه سريعًا على هيئتها الأنيقة، ثم غمز لها بمكر، قائلاً:

“زي ما تخيلته عليكي بالظبط، كأنه متصمم ليكي. من وقت ما شوفته وأنا بتمنى أشوفك لبساه. يارب يكون زوقي عجبك.”

لوّحت نظرة إعجاب في عينيها، لم تغب عن حمزة الذي شعر بسعادة تسري في قلبه. لكنها لم تمنحه إجابة واضحة، بل تابعت تسأل بحيرة:

“بس أنا مش فاهمة… هو أنت جايبني هنا علشان ألبس ده؟ أومال إيه؟ هتعاقبني وتحاسبني؟”

اقترب منها بخطوات هادئة، ثم أخرج شيئًا من الحقيبة ومد يده به نحوها قائلاً:

“مين قال إني مش هعاقبك على هروبك مني؟ بس الأول لازم يبقى ليّا الحق في ده. خدي الطرحة دي، البسيها، هتناسب الفستان.”

تناولت منه الطرحة بصمت، وراق لها ذوقه الذي كان يتناغم مع أسلوبها الخاص. أسرّت في نفسها أنه يشاركها تفاصيل لم تكن تعرفها عن ذاتها. وضعتها على شعرها بانسيابية، فتقدّم منها حمزة ليُعدّل وضعها بحذر. وعيناه المشتعلة بعاطفة جياشة، تجول عليها بشغف لم يستطع كتمانه، لتنتهي لحظتهما الحميمة بطبع قبلة خفيفة على شفاها برومانسية حالمة جعلته يذوب بين يديها، أخذت ريم تترنح بين تضارب مشاعرها التي تتخبط بين الرفض والاستسلام لهذا العاشق الحنون. فجأة، انتبهت إلى استسلامها المربك، فابتعدت عنه على استحياء، هاربة من انجذابها نحوه، وسألته بارتباك:

“حمزة، هو إحنا هنخرج؟ طيب كنا ليه طلعنا؟ ثم إيه لازمة كل ده؟”

أمسك يدها وجذبها نحوه بقوة دون أن يلمسها، ثم نظر إلى عينيها المشتتتين وكأنهما تحاولان إخفاء اضطرابها وضعفها، وقال بهدوء مشوب بالحزم:

“أيوه، هنخرج علشان أديلك حقك، وبعدها آخد حقي منك وأعاقبك.”

كان قربه يربكها، وهسيس أنفاسه وهو يتحدث يجعل رأسها يدور. حاولت التحرر من بين يديه وهي تقول بحيرة:

“تديني حقي اللي هو إيه؟ حمزة، انت قصدك إيه؟ وياريت تحررني، أنا مش عارفة آخد راحتي في الكلام معاك.”

أطلق سراحها أخيرًا، لكنه أمسك بذقنها بلطف ليرفع وجهها نحوه، ثم قال بحرارة:

“اتفضلي، اتكلمي، أنا كلي آذان صاغية.”

أنزلت يده عن ذقنها بخجل وابتعدت قائلة بتشتت:

“حقي في إيه؟ مش فاهمة… ثم بجد هتعاقبني؟ ولو هنخرج، هنروح فين؟”

أخذ حمزة نفسًا عميقًا، ونظر إليها بغموض وهو يجيب:

“حقك في إني أعاقبك. ما ينفعش يكون ليا عليكِ أي حقوق وأنا مقصر في حقك. عمومًا، لما نرجع هيكون العقاب. استني خمس دقايق، هلبس وأرجعلك، وننطلق يا جميلة.”

وقفت ريم مكانها مبهوتة، حائرة من كلماته التي غلفها الغموض. ورغم كل ذلك، لم تشعر بالخوف من القادم معه؛ فقد كان وجوده معها مصدرًا للأمان والاطمئنان وسط ضغوطها النفسية ومشاكلها التي كانت تكاد تدمر تفكيرها وتثباتها الانفعالي. كانت تشعر بأن حضوره يمنحها السكينة، لكنه أيضًا يثير في داخلها الحيرة؛ فعندما يقترب منها، كانت تتملّكها رغبة دفينة في الاحتماء بذراعيه، وكأنها تريد أن تهرب من العالم بأسره. وحين تبتعد عنه، تشعر وكأن خواءً قاتلًا يحيط بها ويمتص روحها، فتفقد اتزانها وتتصرف بما لا يعبر عن قيمها أو مبادئها التي لطالما حرصت على التمسك بها.

استفاقت من شرودها على صوته وهو يناديها بقلق:

“ريم! مالك؟ بكلمك وانت مش معايا. إيه؟ خايفة من عقابك؟”

ابتسم بمكر، ثم لمس شفتيها برقة، وقال بشقاوة:

“ما تقلقيش، قبلة لذيذة منك كفيلة تخليني أسامحك… بس لو انتي راضية. ها؟ قلتِ إيه؟”

حدّقت فيه بحدة، تسأل نفسها إن كان يطلب ذلك كنوع من الاعتراف بالذنب أم أنه يدفعها لتتجاوب معه بإرادتها، لا تحت تأثير شوقه ورغبته فيها. شعرت بالخجل يسيطر عليها فجأة، فدفعت صدره بعيدًا وقالت بحزم:

“لو سمحت يا حمزة، دي مش طريقة مناقشة. أنا عايزة أفهم إحنا لابسين كده ورايحين فين؟”

زفر بضيق، ثم أمسك بيدها وجرّها معه إلى باب الشقة، وأغلقه بإحكام خلفهما قائلاً:

“اصبري على رزقك، زي ما أنا صابر على حقي منك يا مستبدة.”

نزل حمزة ويدها في حضن يده بتملك أثار انتباه البواب، الذي دنا منه قبل أن يستقل سيارته وسأله بريبة:

“آسف يا باشمهندس، بس من يوم ما سكنت هنا من خمس سنين، عمري ما شفت معاك واحدة غير أخواتك البنات والست الوالدة. لكن الأنسة دي أول مرة أشوفها معاك… قلت يمكن قريبتك، لكن إنها تطلع بلبس وتنزل بلبس، ده معناه حاجة واحدة!”

صمت فجأة حين طالعته نظرة حمزة الغاضبة. اشتعلت عيناه بشرر يكاد يحرق الأخضر واليابس، فأمسك بكتفه وهزّه بقوة صارخًا:

“كلمة كمان، وهتكون الجاني على روحك! مش أنا اللي أكون مصدر شك أو شبهة. بدل ما ترمي اتهامات جزافًا، اسأل بكل أدب!”

ارتبك البواب من شدة غضب حمزة، ثم قال متلعثمًا:

“مقصدتش أشك فيك يا باشمهندس، بس العمارة كلها عائلات وناس محترمة، وانت أولهم.

بس أنا استغربت لما الأنسة دي جات معاك أول مرة، بعدهاصاحبك جه ومعاه تلات رجالة، وهما نزلوا وهي لأ، لحد ما نزلت الصبح لوحدها… ده تقول عنه إيه؟”

أمسكه حمزة من تلابيبه وكاد يوجه له لكمة، إلا أن ريم أسرعت وأمسكت بيده، متوسلة:

“حمزة، بلاش! الراجل ما ذنبش، هو بس بيعمل شغله، ووضعنا فعلًا يثير الريبة.”

أزاح حمزة يدها ببطء، لكنه لم يضرب الرجل. حدق فيه بغضب وثقة وقال بصوت صارم:

“معناه إن الأنسة دي مراتي. ولو كنت سألت صاحبي اللي كان معايا، كنت عرفت إن الرجالة اللي جم معاه كانوا المأذون والشهود… يا غبي.”

أخرج حمزة حافظة من جيب بدلته، وسحب منها ورقة قدّمها للرجل وقال:

“لو فاكر التاريخ، اتفضل اقرأ. المدام دي تبقى مراتي، بس لظروف خاصة تم جوازنا بسرعة ومن غير ترتيبات. فاهم؟”

تناول البواب الورقة وبدأ يقرأها، وعندما تحقق من صحة كلام حمزة، شعر بالخجل من نفسه ومن سوء ظنه. أعاد الورقة لحمزة، ثم دنا من ريم قائلًا بارتباك:

“حقك عليا يا ست هانم، والله الباشمهندس من أحسن الناس. انتِ ربنا بيحبك إنك اتجوزتيه. ربنا يسعدكم. سامحيني، وخليه يسامحني.”

شعرت ريم بالارتياح؛ فقد رد حمزة اعتبارها، وأثبت لها أنه الملاذ الآمن لها من كل إساءة أو خطر. ابتسمت للبواب قائلة بلطف:

“ما حصلش حاجة. انت راجل بتشوف شغلك، وما تقلقش من حمزة، أنا هخليه يسامحك.”

طالعت حمزة بنظرة متسائلة، وكأنه تستشيرها فيما إن كانت قد أحسنت التصرف أم أنها تسرعت في الصفح. لكنها لاحظت كيف أشاح بنظره بعيدًا، وكأنه يرفض منح الرجل الغفران بسهولة بعد كل الإهانة التي طالت سمعته وسمعتها.

أخذ يدها برفق، وفتح لها باب السيارة، وأجلسها بجواره في المقعد الأمامي، بينما البواب يجري خلفه متوسلًا:

“وحياة الهانم تسامحني يا باشمهندس. كنت أعرف منين إنها مراتك؟ انت عارف إن العمارة كلها عائلات محترمة، وأنا بخاف على سمعتها. سامحني، أنا غلطت. الواجب أسألك، مش أتهمك وأغلط في حق الهانم.”

توقف حمزة للحظة، نظر إليه بضيق، ثم قال بنبرة باردة:

“خلاص، يا خلف. غور من وشي دلوقتي، عكرت مزاجي. والله لولا المدام، كنت عرفت مقامك. إزاي تجرؤ تشك فيا وأنت عارف إني زائر لبيت الله، وخلال خمس سنين ما صدرش مني حاجة تسمح ليك إنك تفكر كده… يا غبي!”

أطرق البواب رأسه، وقال بحزن:

فعلاً، عندك حق يا باشمهندس. أنت راجل محترم وما يطلعش منك الغلط أنا اللي غلطت. بس وحياة الهانم، سامحني… ربنا يكرمك بيها ويجعل ليك منها الذرية الصالحة.”

أخذ حمزة نفسًا عميقًا، ثم طالع ريم بنظرة مليئة بالتساؤلات. بدا وكأن غضبه يتلاشى تدريجيًا، وعاد إلى هدوئه. فجأة، ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة وقال بمرح:

“مدام حلفتني بالهانم… خلاص، يا خلف. سامحتك. بس أقسم بالله، لو خيالك المريض سمح لك تشك فيا تاني، وقتها هتعرفني كويس! فاهم؟”

ابتسم البواب بخجل وقال:

“فاهم، باشمهندس. إن شاء الله، على ما ترجع، العمارة كلها هتعرف إنك اتجوزت.”

استقل حمزة السيارة، وانطلق بها بعيدًا. لكنه فجأة نظر إلى ريم وقال بصوت يحمل مزيجًا من الحيرة والاستياء:

“غريب أمرك يا ريم… الراجل غلط فينا، وبيسبك في شرفك قدامي وبسهولة تطلبي مني أسامحه بصراحة، صدمتي فيكِ فاقت صدمتي فيه.”

رمقته بنظرة حائرة متسائلة:

“هو فعلاً مغلطتش الغلط؟ كان غلطي من البداية؟ ولا ناسي إنك استغربت ازاي امنت على نفسي معاك لما جيت شقتك قبل ما نكتب الكتاب؟”

حمزة، أنا مش ضعيفة ولا متهورة، لكن فعلاً خبرتي في الحياة قليلة وضعيفة.

أولاً لأنني كنت بهرب من ابن عمي، حبست نفسي. وكمان، لأن مفيش حد أقدر أسند عليه وأتّقوى بيه غير أمي اللي أنا ليها دنيتها. يمكن ده سبب لضعف قدرتي على المواجهة وارتباكي في اتخاذ القرار بسرعة. لكن مش ضعيفة ولا هشة زي ما إنت متخيل. أنا عندي القدرة على النهوض وتعديل المسار بسرعة لما تحتاج الظروف.

ترك حمزة عجلة القيادة وصفق بيده بانبهار، وقال واثقًا في حديثها رغم أنه غير مقتنع تمامًا:

“برافو عليكي! أتمنى فعلاً إنك تتدراكي أخطائك بسرعة علشان شخصيتك تقوى وتكوني قادرة على مواجهة الصعاب. وأول حاجة لازم تواجهيني وتقوليلّي سبب طلبك للجواز؟ بنت جميلة ومثقة وبريئة زيك، إزاي تكون فريسة سهلة لراجل ما تعرفيش عنه حاجة؟”

“اتخيلي لو كنتٍ مش مراتي، كنت زمانك مرات أي راجل تاني؟ يمكن أنا رعيت ربنا فيك، لكن غيري الله يعلم كان ممكن يعمل إيه. ياريت يا ريم، تفهميني سبب تهورك في طلبك للجواز. أوي يكون رهان خايب، وقتها هتسقطي من نظري أوي.”

نكست رأسها للأرض وقالت بهدوء :

“كان رهان بس مش عليك، على أخلاقي. واحدة من اللي كنت معاهم أخدت مني حاجة غالية على قلبي وبتخص مستقبلي. ومقابل ردها، طلبت مني ألقي نفسي في حضن راجل. ابتزتني على أخلاقي ومبادئي. اتخيلت لما اتجوزك، أكون في حضنك كده وأحافظ على أخلاقي وأثبت ليها إن مش كل الناس مهما ضغطت عليهم الظروف هيتخلوا عن مبادئهم. لكن زواجنا دمّر كل فرصة إني أفرح بانتصاري في الحفاظ على أخلاقي.”

“ممكن تقول إن ده غباء أو تهور. ولو كنت صراحتك كان أفضل. لكن سؤال: كنت هتعمل إيه؟ كنت هتمثل إنك بتحضني؟ كنت هترفض حتى إنك تلمسني. أنا كنت بستغفر ألف مرة لأنني كلمتك وقعدت معاك ولمست إيدك.”

ابتسم حمزة بخيلاء وهو ينظر إليها، كأنما يراها فتاة لا تفهم شيئًا في الحياة سوى الخوف من الله في كل أفعالها. هل فتاة كهذه يمكن أن تقع في شرك الخطيئة أو تصبح فريسة لذئب يفترس براءتها؟ شعر حينها أن الله كافأه بها، وساقها القدر إليه لتكون شريكة حياته.

فجأة أوقف السيارة، وجذبها إليه، ضمها من كتفها. انهارت ريم باكية، فحمزة استطاع اختراق حاجز الخوف لديها وصار أمامها السند الذي تبحث عنه.

استقرت رأسها على صدره، تنعم بحنانه واحتوائه لمصيبتها، لتتذكر خالد، فقالت له بخجل:

حمزة، أنا ظلمتك وظلمت نفسي. ياريت تطلقني وكل واحد يروح لحاله.”

سمع ضجيجًا قويًا من سرعة تنفسه وضربات قلبه التي ارتفعت فجأة كأنه يحارب نفسه لوقف غضبه، وقال لها بصرامة وجدية لا تلين:

طلاق؟ مش هطلق. إنت خلاص بقيتي مراتي. ممكن اللي حصل بينك وبين صاحبتك هو السبب في جوازنا، لأن ده قدرك. أنا مرتاح جدًا معاكي وفرحان بيكي. خلاص، هيأت دنيتي ليكي، وعايز أستقر معاكي. هنبدأ من النهاردة إني أفي حقوقك علشان يكون ليّ الحق في أخذ حقوقي منك. انسي يا ريم إني أتنازل عنك، إنت خلاص بقيتي ملكي، ونصي الحلو، يا بقلاوة وبسبوسة بالقشطة.”

صدمة ريم من تصميم حمزة على إكمال زواجه بها جعلتها تشعر وكأنها سقطت في متاهة ليس لها منها مخرج. أخذت تفكر: هل تصارحه بأنها فعلت ما فعلت من أجل رجل آخر؟ أم يعتبرها إهانة لكرامته ويتمسك بها لينال منها، ومن كبريائه الذي تحطم بعد لعبها بمشاعره؟ ظلّت شاردة لفترة تفكر في ماذا تقول له ردًا على إصراره على عدم تطليقها، والتمسك بها.

وفجأة، سمعت حمزة يقول لها بسرور:

وصلنا يا قمر. يلا انزلي واستنيني علي ما اركن العربية.

نظرت ريم حولها لتصدم بما رأت أمامها. كانت تقف أمام أحد محلات المجوهرات المشهورة. قبل أن تسأله، رآته يترجل من السيارة، ويذهب إليه من الاتجاه الآخر، ويفتح الباب، ساحبًا يده:

هتفضلي مصدومة كده كتير؟ قولتلك علشان أخد حقي منك لازم أديلك حقوقك. وأولها شبكتك وفستان زفافك ومهرك. كل ده هيكون النهاردة. وبكرة إن شاء الله، هتاخذي معاد مع والدتك علشان أحدد ميعاد أقدم لك رسمي. ولما توافق واهلي ييجوا يخطبوك رسمي، هخطفك ليلتها وأعاقبك بطريقتي. لأنك خلاص هتكوني ملكي باردتك، وليا كفة الحقوق عليك، فهمتي يا ملكي الجميل ولا أكرر تاني؟”

فغر فاهه بدهشة وعدم تصديق، فحمزة ينفذ ما وعد به. ورغم أنه زوجها شرعًا وله كافة الحقوق عليها، لم يستغل ذلك بل شعر أنه ليس حقه إلا بعد أن يفي بوعده ويعطيها حقها كاملاً حتى تصبح حقوقه عليه حقًا أصيلاً.

جذب يدها ودلفا إلى المحل، فاستقبله أحدهم ورحب به وسأله عن طلبه. قال له حمزة بفخر:

عايز أفخم وأجمل شبكة عندك لعروستي الجميلة.”

اجلسها أمامه، وطلب منها إحضار كل ما هو غالي ونفيس ومميز. هرعت الفتيات اللاتي يعملن بالمحل بإحضار ما طلب حمزة، وهم يحسدون ريم على نظرات العشق التي يرسلها إليها. ظلّت الفتيات يعرضن عليها تشكيلات كثيرة من المجوهرات، إلى أن وقع اختيار حمزة على أحد الخواتم الماسية المطعمة بالياقوت، الذي كان أكثر من مجرد خاتم، بل تحفة فنية. حينها، تذكرت خاتم خالد، الذي كان السبب في كل ما حدث. ارتجف جسدها حين لامس حمزة أصابعها ليضع الخاتم عليها، ثم ابتعدت يده عنها.

استغرب حمزة رد فعلها، ورمقها بريبة قائلًا:

إيدك يا ريم علشان الصايغ يظبط الخاتم.”

استشعرت ريم الحرج من فعلتها، فابتسمت له كي تخفي توترها وارتباكها، ومدت يدها إليه. دخل حمزة الخاتم في إصبعها، فظهر جماله ورونقه. جذب يده إلى شفتاه وقبلها قائلاً:

“مبروك عليك يا حبي، عقبال ما نجيب لأولادنا.”

ابتسمت الفتيات وزغردت إحداهن مباركة لهما، بينما غمرتها الأخرى قائلةً بغيرة حميدة:

يا بختك بيه، الظاهر إنه بيحبك قوي. ربنا يتمم لكم على خير.”

تركها حمزة مع الفتيات وطلب من الصائغ دبلتين، إحداهما من الفضة الإيطالي والأخرى دبل سوليتير. طلب منه أن يحفر عليهما حرفين: “H&R 10/9”.

طلب منه الصائغ بعض الوقت لتلبية طلبه، فقال له حمزة بحماس:

تمام، نصف ساعة وراجع لك. تكون خلصت. عايز أعملها مفاجأة لعروستي. عن إذنك.”

تم تعديل النص لتحريره أدبيًا مع الحفاظ على الحوار باللهجة العامية:

———-

تركها حمزة وهو يشد يدها بلطف، بينما كانت ريم في حالة صدمة من تصرفاته. كان يصعب عليها تصور وفاءه بما وعد به، فقد جاء بكل ما أرادت، لكنه في الوقت نفسه جعل الأمور أصعب عليها. هي التي أرادت أن تخلص نفسها من هذا الزواج الذي وجدت نفسها فيه.

خرج حمزة من الصاغة متجهًا إلى أحد المولات الكبرى، حيث اشترى لها بعض الملابس النسائية الجذابة التي جعلت ريم تحمر خجلًا من اختياره. ثم اختار لها فستان زفاف فاخر، لم تستطع الاعتراض على أي شيء فعله، فهي كانت تشعر وكأنها داخل حلم جميل تمنت أن تعيشه مع شخص تحبه. ولكن حمزة لم يكن حبيبها، بل زوجها، ليصبح الحلم كابوسًا ترغب في الاستفاق منه.

بعد عدة جولات تسوقية قام بها، عاد حمزة إلى الصاغة لاستلام الخاتم والدبلتين، ولكنه لم يكتفِ بذلك. اختار لها سوارًا مرصعًا بالعقيق الأسود، غاية في الأناقة والجمال. ابتسم حمزة بسعادة عندما لاحظ نظرة الإعجاب التي رآها في عينيها. ضمها إليه من كتفها وقال:

لو بايدي كنت اشتريت المحل كله ليكي، لكن جوزك فلس، وضاعت تحويشة العمر كلها في ساعتين، مش خسارة فيكي يا زوجتي الغالية.

عضت ريم على شفتها، محتارة بين مشاعرها. هل حقًا تنازل حمزة عن كل شيء لأجلها؟ كيف تستطيع أن تطلب منه الطلاق بعد كل ما فعله؟ كيف لها أن تكون قوية بما يكفي لاتخاذ قرار صعب كهذا؟

لم تترك حمزة لها فرصة للتفكير، إذ أخذ بيدها وأجلسها في السيارة، ثم انطلق بها إلى شقته. ما إن وصلوا إلى العمارة حتى هرع البواب لمساعدته في حمل الحقائب والهدايا التي جلبها. حمل البواب الأغراض، بينما تبعهم حمزة وريم حتى وصلوا إلى الشقة. دخلوا، فطلب حمزة من البواب أن يضع الأغراض على الأريكة، ثم غادر.

أغلق الباب خلفه، ثم ضم حمزة ريم إلى صدره قائلاً:

ممكن تدخلي تغيري وتلبسي فستان الزفاف؟ نفسي أشوفه عليكي. يمكن كده أحس إن لي حق ليلة معاك زي ليلتنا الأولى. أنا بصراحة مشتاق ليكي جدًا، ونفسي في مكافأة على صبري معاك، ها يا ريم، قلت إيه؟

لم يتوقع حمزة رد فعل ريم المفاجئ، فقد صرخت فيه بكل ما في قلبها من ألم:

لأ لأ! أنا مش عايزة أتجوزك ولا أكمل معاك. كفاية! حرام عليكي! أنت بتعمل معايا كده ليه؟ أنا عارفة إني غلطت، بس عقابي بيك أكبر من قدرتي على الاحتمال. أرجوك يا حمزة، طلقني، أنا وانت مش نعرف بعض، جوازنا كان خطأ، ونتيجة تهور مني.

فجأة، انهارت ريم في يديه وأغشي عليها، قبل أن يستطيع حمزة أن يفهم سبب ثورتها.

حملها حمزة بين ذراعيه بسرعة، واتجه بها إلى غرفة النوم. وضعها على الفراش، ورش قليلًا من العطر بالقرب من أنفها. استنشقت رائحته، ففتحت عينيها ونظرت إليه بحزن، شاعرة وكأن الله يعاقبها على لعبها بمشاعرها دون قصد. فجأة، احتضنت وجهه بيديها، وانهارت بالبكاء. تركها حمزة لتفرغ طاقتها السلبية، حتى هدأت. ثم ضمها إليه بحنان، وربت على ظهرها قائلاً:

ليه يا ريم تحملي جوازنا كل هذا الفشل؟ وهو لسه في بدايته. أنا مش هلومك ولا هعاتبك، عارف إن جوازنا تم في ظروف صعبة، لكن خلاص أصبح واقع، وحقيقة لازم نتعايش معاها. اديني فرصة أعرفك، وادّي لنفسك فرصة تعرفيني قبل ما تفرضي علينا الفراق والفشل قبل ما نجرب.

أخرجها حمزة من حضنه وضم وجهها بين كفتي يديه، ثم نظر إليها وقال:

إيه رأيك أجي أخطبك تاني؟ وبيها نعرف بعض أكتر ونقرر نكمل أو لأ، أظن ده حل يرضيني ويرضيكي، ويعوضني عن اللي حسيت بيه من ظلمك ليا زي ما بتقولي.”

تلفّتت ريم حولها بذعر، هل حقًا يقول ما يقول؟ هل يعتقد حمزة أنه يستطيع أن يكون خطيبًا لها بعدما أصبح زوجها؟ وماذا يقصد؟ فوجهت له سؤالها:

ازاي تبقى خطيبي وأنت جوزي؟ هتتنازل عن حقوقك؟ يبقى إيه؟ وحشتيني؟ ونفسك؟”

وضع حمزة يده على شفتيها ليُسكتها، ثم أكمل بصوت منخفض:

أيوه، مشتاق ليكي ووحشتيني جدًا، فوق ما تتخيلي. ليه مش عايزة تفهمي موقفي تجاهك؟ في يوم ليلة دخلتك جنتك، وتاني يوم طردتيني منها، ورجعت وقفت على بابك، وحاليًا عايزة ترميني في النار بحرماني منك. يبقى الحل إنني أقبل أقف على بابك، يمكن تفتحي لي وتدخلي جنتك تاني، ولا أقبل أني أنطوي على نار جحيم البعد عنك.”

تنفس بعمق، وهو يشعر بضيق شديد. كان يضغط عليها بكل قوته ولا يترك لها مجالًا للهرب. ردت ريم، وكأنها في حالة من الارتباك:

صعب أقبل إنك تكون خطيبي، أنا واثقة إنك مش هتتحمل. وزي ما طلبت دلوقتي أكافئك على صبرك، هتطلب تاتي، وأنا هتحمل الذنب. لاء يا حمزة، مش هقدر.”

ضحك حمزة بشفتيه وقال:

“ومين قال إني كنت هلمسك أو أقيم معاك علاقة؟ أنا قلت، لكن ما طلبتش. انتِ ليه حساسة كده معايا؟ مع العلم إن الظروف هيأت لنا نعرف بعض من غير تجميل. مش واخدة بالك إن حائل الخجل بينا انقشع؟”

أخذ نفسًا عميقًا وزفره بقوة ثم أكمل:

ولنفترض يا ستي إني هتقرب منك، هتكون شقاوة وغزل، ده وعد ها؟ قلتِ لي، هتحددي لي معاد مع والدتك إمتى؟ أظن أنا كده جدع معاك.”

هزت ريم رأسها برفض تام وقالت:

مش هينفع يا حمزة، أنا مقدرش استمر معاك أسبوع، تقولي شهر أو شهرين، آسفة. أنا عايزة أنفصل عنك. ده قراري، أرجوك بلاش تضغط عليا.”

تجمدت ملامح حمزة، وظهر عليه الامتعاض. جلس أمامها وفي عينيه نظرات غضب ووعيد، لكنه فجأة أخذ نفسًا عميقًا ومسح على وجهه قائلاً:

تمام يا ريم، إنتِ اللي طلبتي. لو عايزة تطلقي، يبقي تعيشي معايا أسبوع كزوج وزوجة بكل ما تحمله الكلمة، وتقومي بكل واجباتك نحوي، وأنا بالمثل. بعدها، أوعدك لو كان قرارك الطلاق لسه زي ما هو، هطلقك. ولعلمك، ده آخر ما عندي. بعد كده، إذا كنتِ مصرّة، اخبطي رأسك في الحيط، خروج من هنا مش هيحصل. ووالدتك، أنا هروح ليها بنفسي وأبلغها بجوازنا. أظن كده أنا عملت اللي عليا.

تسارعت أنفاسه بغضب مكتوم وأكمل بحدة:

مدام الجواز لعبة بالنسبة ليك، هعرفك أصول اللعبة. تبقي إزاي؟ يا مدام ريم….؟!”

*********

يتبع…..

التاسع من هنا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *