التخطي إلى المحتوى

رواية قيد القمر للكاتبة نهى طلبة الفصل العشرون

وضعت نورا سماعة الهاتف بعد ان اطمأنت من والدتها على أخبار منذر. فعلى الأقل استطاع والدها الوصول إليه والحديث معه. ولكنها كانت في غاية القلق على شقيقتها والتي تركت هاتفها في غرفة نورا. ولم تجد طريقة للاطمئنان عليها بعدما قام رؤوف بايصالها إلا بمحادثة عمتها. وهي لم تجد لديها رغبة في ذلك.
ناداها رؤوف برقة وهو يشير إلى الأريكة بجانبه:
تعالي لتستريحي قليلاً. فاليوم كان مرهقاً بالنسبة لكِ.

تحركت لتجلس بجانبه وهي تضع رأسها على كتفه:
أنت محق. لا أصدق أن كل تلك الأحداث مرت في يوم واحد فقط.
قبل خصلات شعرها الثائرة بخفة. وأدارها ليكون ظهرها مستريحاً على صدره وأخذ يمسد لها كتفيها برقة وهي استكانت على وضعها ذلك ومددت قدميها على الأريكة أمامها. تشعر أنها آمنة ومحمية بين ذراعيه. فأغمضت عينيها بوداعة عندما سمعت سؤاله:
نورا. هل تلوميني على ما فعلته نعمات؟
صمتت لحظات شعر فيها بالقلق. فعاد يسألها:.

قمر. هل استغرقتِ في النوم؟
اجابته وهي تتهرب الرد الصريح:
يجب أن تجد حلاً لمنادتي ب قمر. قد تسمعك عمتي يوماً. وتظن أنك تقصدها هي فتشك في قواك العقلية!
وضع رأسه على كتفها ورفع ذقنها بيده وهو يهمس بجوار اذنها:
لا ترواغي. ولا تتهربي من الاجابة.
لفت له وجهها وهي تعبس في وجهه وتبرم شفتيها:
ولماذا يسمح لك أنت دائماً بالمراوغة!
همس بحزم:
نورا!

حاولت نورا التملص من قبضته التي تتمسك بذقنها بقوة، لكنه لم يفلتها. فاستسلمت لتخبره:
نعم. نوعاً ما. أنا ألومك. كما ألوم نفسي. لقد جرحت سهير بشدة بفعل تلك المشاهد. وازدادت مشكلتها تعقيداً. وكل ذلك بسبب انتقام سخيف من امرأة مجنونة.
سمعت صوته منبهاً:
نورا. لا تفعلي.
جذبت ذقنها بعنف من قبضته وهي تعتدل في جلستها على الأريكة هاتفة:.

لا أفعل ماذا؟ تلك السيدة حاولت هدم زواج شقيقتي. وأنت غاضب لأنني دعوتها بالمجنونة.
قطعت نورا كلامها. وهي تضع يدها على بطنها. وتطلق تأوهاً خفيفاً.
جعله يتحرك بسرعة وهو ينزل أمامها على ركبتيه ويضع يده فوق يدها المستريحة على بطنها ويسألها بقلق: ماذا بكِ؟ ما الذي يؤلمك؟

قبل أن تجيبه شعر بيدها تتحرك بخفة تحت يده. فجذب يده بخوف وهو غير مدرك لوصف ما حدث. فما كان من نورا إلا انها سحبت يده لتضعها على بطنها مباشرة. فشعر برجفة خفيفة تحت يده. حركة تشبه رمشة الجفن عندما تستشعرها بباطن يدك. ارتعد جسده بالكامل متجاوباً مع تلك الحركة.
وهمس بتأثر:
هل هذا…
لم يستطع اكمال جملته. فأكملتها له نورا:
نعم. أنه الطفل. إنها ركلة بسيطة.
سألها بخوف:
هل تؤلمك؟
هزت رأسها نفياً:.

كلا. أنني اعتبرها وسيلة اتصال بيننا. ولكن أحياناً تؤلم قليلاً.
ابتسم لها:
وماذا أخبرتك ابنتي الآن؟
عاندته بقوة:
ابني يتحالف معي. فهو شعر بصياحك عليّ لأنني دعوتها بالمجنونة. أنا لا أفهم. إذا كانت مشكلتها تنحصر بييننا نحن. لم تحاول ايذاء سهير. فزواجها لا يحتمل تلك التدخلات.
عاد ليجلس على الأريكة وهو يسحبها بين ذراعيه ويريحها في نفس وضعها الأول وهمس لها:.

وهذا ما أقصده. أقصد لا تفعلي. أي لا تلومي نفسك. فأنتِ لم تجبري منذر على الذهاب إلى تلك الممرضة. وأيضاً لم تكوني السبب في ايذاء سهير له بالكلمات. ما يحدث بينهما هو مسئوليتها. وما قامت به نعمات، غلطتها وستتحمل مسئوليتها…
أراحت راسها على كتفه وهي تخبره بهمس:
هل تعتقد ذلك؟ أتمنى أن تفكر سهير بتلك الطريقة.

ساد الصمت لفترة ظل رؤوف فيها يمسد بطن نورا برقة وكأنه يبحث ركلة أخرى. عن وسيلة الاتصال تلك التي أخبرته عنها.
قالت نورا بهدوء: لقد أخبرتني أمي أن تلك الحرباء قد رحلت. ولكني لا أعلم هل رحيلها هذا دليل على خسارتها. أم خسارة سهير. جدي لم يوضح ما حدث لأمي. كما أنه منعها هي وعمتي قمر من الحضور إلى القصر ليتفاهما مع نعمات.

واطلقت ضحكة صغيرة: يتفاهما معها! تلك ما أخبرتني به أمي. جعلت الأمر يشبه تدابير عصابات المافيا.
صمتت مرة أخرى ثم عادت تسأله: هل تعتقد أنه فعلها؟
زاد من ضمها وهو يقبل قمة رأسها: كلا. لا أعتقد أنه فعلها!
همست بذهول: حقاً! لقد رأيت الصور والمقاطع المسجلة.
أجابها بثقة: أنتِ أخبرتني بقصة عشقهما الطويلة. لو كان ما أخبرتني به صحيحاً فهو لم يفعلها.
سألته: أمممم، تبدو واثقاً جداً.

حملها ليضعها في الفراش وهو يهمس لها: جداً. جداً.
وتمتم لنفسه. أنا أعرف تماماً ما أتحدث عنه
ورفع صوته قليلاً:
وشقيقتك أيضاً واثقة. وإلا ما كانت عادت إلى بيته. هيا. لتنامي فأنتِ يبدو عليكِ الارهاق جداً. وأنا سأنهي بعض الأوراق في المكتب. ثم أنام.
غمغمت برقة:
كلا. احتضنني حتى أنام. ثم أذهب لأوراقك.
لف إلى الجهة الأخرى من الفراش وصعد إليه ليضمها بين ذراعيه. ويحتضنها بقوة. وهو يخبرها:.

حسناً. كما تريدين يا طفلتي.

جلست سهير في نافذتها كالعادة تتأمل اختفاء الخيوط السوداء من الأفق وظهور آشعة الشمس على استحياء وكأنها تشعر بمدى الألم الأسود الذي تراكم بداخل سهير حتى ظنت أن خيوط الشمس نفسها والتي تغمر الكون بضيائها عاجزة عن كشف ولو جزء صغير من ذلك الحزن القاتم والذي سكن روحها وقلبها. عندما لفت انتباها صوت الباب الخارجي للجناح فرفعت عينيها لتلمح منذر يدخل الغرفة وهو يجرجر قدميه وقد بدا الإرهاق على ملامح وجهه. وما أن رآها حتى ظهرت الدهشة على وجهه. فيبدو أنه لم يتوقع وجودها في المنزل. أربكه مظهرها لوهلة. ثم حاول الحفاظ على هدوئه وهو يتجاهل وجودها تماماً. فبدأ بخلع ملابسه بهدوء.

ألقى قميصه على الفراش بإهمال. وفتح خزانته ليلتقط ملابس نظيفة. ثم دخل إلى الحمام في صمت تام.
ظلت سهير ترقبه حتى أغلق باب الحمام خلفه. وهنا سقطت دموعها بغزارة. لقد تجاهل وجودها تماماً، صحيح أنه لم يستطع اخفاء دهشته لرؤيتها في البداية إلا أنه تصرف بعد ذلك وكأنها غير موجودة. كأنها طيف غير مرئي. أو شبح خفي لامرأة اعتاد على وجودها.
تحركت لتقف أمام مرآتها، فصدمت من تلك التي تطالعها في المرآة.

متى قامت بتحويل مظهرها إلى تلك المرأة التي تطل عليها من المرآة. أنها لا تتذكر. مهلاً. إن آخر ما تتذكره هو إصرارها على دخول منزلها بمفردها ومنعت رؤوف من اصطحابها للداخل. لا تدري من أين اتت بتلك الإرادة الحازمة. ولكنها وجدت نفسها تأمره بحزم بأن ينصرف وأن يمنع والدتها من اللحاق بها. ثم دخلت منزلها وحيت عمتها قمر بشرود لتصعد إلى غرفتها بعد ذلك. وماذا بعد؟ أنها لا تتذكر.

أغمضت عينيها وهي تضغط على خلايا عقلها وتجبرها على التذكر. فرأت نفسها تملأ مغطسها بالماء والكثير. الكثير من العطور القوية لتغرق نفسها بداخل تلك المياه ذات الرائحة النفاذة والخانقة حتى أوشكت بالفعل على الاختناق. ثم أنهت حمامها لتذهب وتقلب بين غلالات نومها لترتدي أكثرهم كشفاً لجسدها. التفتت نحو منضدة الزينة وبدأت تضع زينة لوجهها ولكنها وجدت أصابعها ترسم ملامح امرأة مختلفة. فبدلاً من أحمر الشفاه الوردي الهادئ استخدمت الأحمر الداكن. وبدلاً من ظلال جفونها بلون السماء الصافية. استخدمت آخر له لون رمادي يكاد يقترب من الأسود. ووجدت يدها تقترب من الكحل الأسود لأول مرة لتحدد عينيها ببراعة لم تعتقد أنها تمتلكها. وأخيراً بعدما انتهت رمقت تلك التي تقابلها في المرآة وقد تحولت إلى امرأة ذات أنوثة متوحشة.

لم تدري لما قامت بذلك. من الممكن أنها أرادت دعم ثقتها بنفسها. أو أنها رغبت في أن تكون سهير مختلفة عن تلك المتخاذلة التي لم تعرف كيف تدافع عن بيتها. بل دفعت بزوجها إلى أحضان امرأة أخرى. أم أنها أرادت أن تبهر عينيّ منذر فيدرك ما فاته بترك نفسه يسقط بين أحضان الخيانة.

كل ما أدركته وأرادته أنها أرادت أن تخرج من عباءة المرأة الطفلة. لتصبح أنثى تدافع عن كرامتها التي أضاعها زوجها بخيانته لها. هي لا تنكر أنها ضغطت عليه وأهانته بشدة برغم أنها لم تتعمد ذلك، ولكن هل رده عليها يكون بالخيانة. لقد أباح لنفسه الخيانة حتى يسترد رجولته التي جرحتها بغبائها. ولكنه لم يفكر في كيفية جبر كسر أنوثتها المهدرة وهي تصارحه بأنها زوجة عاجزة وفاشلة. لم استمع فقط إلى كلماتها التي انتقصت من عنفوانه ولكنه اختار صم أذنيه عن ما قالته في حق نفسها.

لقد ازداد الموقف تعقيداً. ولم تعد تعرف ما الحل. هل تتغاضى عن خيانته، مقابل أن يسامحها على زلتها في حق رجولته؟ هل هذا هو الحل؟
تشعر أنه حل مشوه وملوث. ولن يغير في الوضع الحالي شيئاً. سيستمران في اداء تمثيلية سخيفة أمام الجميع حتى يسأم أحدهما من لعب دوره فيهدم كل شيء مثلما حدث اليوم.
أخرجها من أفكارها انقطاع صوت المياه بداخل الحمام. مما يعني قرب المواجهة.

مسحت دموعها بهدوء. وتحركت ناحية الفراش لترفع ملابس منذر الذي ألقاها بإهمال، فلفت انتباهها لطخة حمراءعلى ياقة قميصه. تأملتها قليلاً، ثم أدركت ماهيتها. فجعدت القميص وألقت به بقوة نحو باب الحمام في نفس اللحظة التي خرج بها منذر من الحمام. فالتقط القميص الطائر بإحدى يديه وهو يحاول اخفاء ارتباكه بعودتها والتغلب على ما يعتريه لرؤويتها بذلك المظهر المهلك. لقد فوجيء بعودتها. لم يظن أبداً أنه سيعود ليجدها في انتظاره. كان يتمنى أن يمدد جسده فقط ليحصل على قسط بسيط من الراحة. ويرتب أفكاره جيداً. ثم يذهب ليراها ليحاولا معاً تحديد مصير زواجهما ومقدار التنازل المطلوب من كلاهما ليستطيعا النجاة بحياتهما معاً بعد أن جنحت علاقتهما وكادت أن تتحطم على صخور الواقع. الواقع الذي ظلت تهرب منه سهير لشهور. ولابد من مواجهته الآن.

حسناً فعلت بعودتها إلى المنزل فالمواجهة ستتم حتماً. والأفضل أن تكون عاجلاً وليس آجلاً. ولكن هل يجب عليها أن تبدو بتلك الروعة! همس لنفسه بغيظ.
يا الهي. هل تحاول قتلي بمظهرها ذاك. هل من الممكن أن تكون تلك الأنوثة الصارخة غير قادرة على الشعور بشيء. أنها تبدو مهلكة. برغم زينة وجهها المبالغ فيها والتي حاولت بها الظهور بمظهر مبتذل إلا أنها لم تنجح. فهي تبدو كما ينبغي أن تكون الأنثى الكاملة.

ابتلع لعابه بصعوبة محاولاً السيطرة على انفعلاته فتبنى أسلوباً ساخراً من قذفها لقميصه:
حسناً فعلتِ. ذلك القميص قذر بالفعل ويجب غسله.
أجابته بقوة وهي تحاول التمسك بقناع المرأة الواثقة:
بل يجب حرقه.
ألقى القميص من يده بإهمال وهو يلتفت إليها متسائلاً وهو يحرك سبابته لأعلى وأسفل مشيراً إليها محاولاً ألا يبدو متأثراً بها:
ماذا فعلتِ بنفسك؟
أجابت بثقة واهية:.

تغيير لا أكثر. فهذا القناع هو ما يعجب الرجال على ما يبدو.
تخلى منذر عن هدوئه وهو يصيح بها:
لا تقلبي الأدوار يا سهير. مازالت كلماتك تدوي في أذني ولم يخف تأثيرها بعد.
قررت مصارحته. فتحركت حتى وصلت إلى القميص الملقى أرضاً. وتناولته لترفعه في وجهه وهي تشير إلى بقعة أحمر الشفاه:
أعرف أين قضيت ليلتك. فلا داعي للعب دور الضحية.

فوجئ بمعرفتها، بل صدم. هل علمت أنه ذهب لخيانتها. خيانتها فعلاً. ورغم ذلك عادت إلى بيته. عادت إليه. هل من الممكن إنه يوجد بصيص من الإمل لتلك العلاقة بعد كل شيء.
سألها بحيرة:
تعرفين. ولكنكِ هنا.
همست بألم:
نعم. أنا هنا.
ذاهلاً سألها:
هل تستطيعين الغفران؟
سقطت يديها إلى جانبها فسقط معها القميص أرضاً وجرت دموعها على وجنتيها:
لا أعلم.
سألها ثانية:
وإلى أين يؤدي بنا ذلك؟
همست ثانية:
لا أعلم.
أجابها بنفس همسها:.

ولكنكِ هنا.
أومأت بعجز:
ولكنني هنا.
تحرك مقترباً منها يختصر المسافة التي بينهما فخطى فوق قميصه الملقى أرضاً. وحاول أن يتمسك بيديها إلا أنها أبعدتهما وهي تخبره:
لا تقترب. لا تلمسني.
لم يستمع لها وهو يمسك بيديها ليخبرها:
تعرفين أنني لم أفعلها.
اندفعت العبرات من عينيها وشعرت أنها ستختنق بشهقاتها وهي تجهش بالبكاء:
أعرف.
ارتفعت يديه إلى ذراعيها ليقربها منه وهو يهمس بعذاب:.

لكنكِ لا تعلمين أن وجودك هكذا قريبة مني أكاد أشعر بدقات قلبك تعانق دقات قلبي. وأنافسي تداعب جبهتك فتطاير خصلاتك لتداعب وجنتي. هذا القرب. هذه النظرات الحائرة التي تصرخ بحبك لي. تؤثر بي. اكثر من الآلاف من قبلاتها.
آآآآآآآآآه
صرخة انطلقت من اعماقها وهي تتهاوى ارضاً على ركبتيها. دافنة رأسها بينهما. جسدها ينتفض من عنف بكائها. تسأله وهي تكاد تختنق من شهقاتها:
قبلتها!

هبط منذر أمامها وهو يحاول ضم جسدها المنتفض لصدره وأراح رأسه فوق خصلاتها المنتشرة:
سهير. لا تفعلي ذلك بنا. دعينا نبدأ من جديد. وننسى كل ما فات.
رفعت رأسها فكانت جالسة على ركبتيها في مواجهته:
كلا. يجب توضيح كل شيء. لا يمكن أن نبدأ من جديد وهناك خيوط قوية تشدنا للخلف. لن يستقيم الأمر.
أمسك منذر بوجهها بين يديه وهو يمسح دموعها بإبهاميه:
أنا أعلم.
شهقت متفاجأة:
تعلم! كل شيء؟
أومأ برأسه موافقاً:.

كل شيء. كل ما أردتِ اخباري به. ولكن غروري. منعني من الاستماع. فزعك ليلة زفافنا. نظراتك الضائعة ونحن معاً. لقد فهمت. كل شيء. وهذا ليس خطأك.
دفعته عنها بقوة وهي تتماسك وتحاول النهوض:
كيف ليس خطأي. لقد دفعتك بعيداً. ألقيتك بيدي إلى امرأة أخرى لتمنحك ما عجزت أنا عنه. وبعد كل ذلك. تخبرني أنه ليس خطأي. خطأ من اذاً؟
نهض هو الآخر ليواجهها:.

حسناً. كلانا أخطأنا. ولكننا نستطيع تعديل الأمور وإصلاحها. نحن من نتحكم بحياتنا وليس أحداً آخر.
هزت رأسها بعجز:
أنك تجعل الأمر غاية في السهولة.
أمسك وجهها بين كفيه ثانية ليرفعه له:
كلا. إن الأمر لن يكون بتلك السهولة. وسنواجه عقبات ومصاعب عدة. ولكنه يستحق. زواجنا يستحق. فأنا لن أرغب بامرأة غيرك. ولن أسمح لكِ أن تكوني مع رجل سواي. لذلك لا حل أمامنا إلا أن نصلح من حياتنا ونعمل على انجاح زواجنا.

سألته بحيرة:
ماذا تعني؟
اجابها بحماس:
لقد قضيت الساعات الماضية اتصفح على شبكات النت كل ما يتعلق بموضوع الختان.
قاطعته وهي تبتسم وسط دموعها الغزيرة:
قضيت ليلتك بالمكتب.
سألها بلوم:
أين تظنين أنني قضيتها؟ لقد أخبرتك. لا امرأة لي سواكِ.
أومأت برأسها في سعادة:
كم أحبك. أنت وحدك من تملك سعادتي وشقائي. أحبك. ومستعدة أن أبتعد عنك. أن أضحي بوجودي إلى جوارك، لو كان في ذلك سعادتك.

ضمها لصدره بقوة فشعرت كأنه يريد زرعها بين دقات قلبه. وهمس لها بحب جارف:
لن أتركك تبتعدين عني أبداً. اصلاح ما أفسدناه في حياتنا سهل جداً. ولكن التزامنا بخطواته هو التحدي.
أبعدها قليلاً وهو يسألها بتردد:
حبيبتي. تعلمين أن الخطوة الأولى هي اللجوء لطبيب نفسي.
أومأت موافقة:
أعلم. وأمي منتظرة إشارة مني حتى تحدد لي موعد مع طبيبة مؤتمنة وهي على علاقة طيبة بها.

زفر بارتياح. فقد هونت عليه نصف المسافة. شكر بينه وبين نفسه خالته شموس. أنها سيدة رائعة بالفعل.
ابتسم بسعادة:
لقد ارحتني بشدة. ولكن الخطوة الأخرى هي التحدي الفعلي.
اخفضت رأسها بحرج وهي تغمغم:
أعلم. لقد بحثت أنا أيضاً طويلاً في الموضوع. وأعلم مدى التضحية التي ستقوم بها لنخطو تلك الخطوة.
رفع ذقنها بأصابعه:.

هل تعلمين. وأنا جالس في مكتبي أفكر في الأمر وكيف أنني سأدع شخصاً آخر. حتى ولو كان مختصاً يخبرني كيف أعامل زوجتي. انتابتني الهواجس وترددت كثيراً. ولكن ما أن دخلت إلى جناحنا لأجدك بتلك الروعة. في كامل زينتك وروعتك. ولكنكِ قمتِ بذلك لكل الأسباب الخاطئة. حتى تبخر كل ترددي واختفت كل هواجسي. فأنا أريدك بكل تلك الروعة. ولكن لتكوني. سهير وليس أي شخصاً آخر تختفين خلف قناعه.

رمت نفسها على صدره وهي تبكي قائلة:
ماذا فعلت لأستحق رجلاً بمثل روعتك؟
اجابها ببساطة:
لقد أحببتني لدرجة أنكِ سمحتِ لي بجرحك. حتى لا تكوني أنتِ البادئة بجرحي. كيف تريدين مني الاستغناء عنك!
ثم رفع رأسها عن صدره وهو يتناول إحدى المناشف النظيفة. ليمسح زينتها الكثيفة. ويخبرها بهدوء:
هكذا. أريد استعادة سهير خاصتي.

ابتسمت له بحب وهي تساعده بإزالة القناع المخادع الذي حاولت الإختفاء خلفه. فهي لم تعد بحاجة إلى الإختباء بعد الآن. فقط تحتاج للدعم والحماية الأمان والحب. الكثير من الحب. وهو ما يمنحه لها منذر بلا حدود.

بعد مرور أربعة أشهر…
كانت سهير تسير بجانب منذر وهما متشابكي الأيدي. على كورنيش الأسكندرية. وهي تشعر براحة لا حد لها. راحة لم تتصور يوماً أن تعرفها.
أغمضت عينيها بارتياح وهي تسأل منذر:
هل سنسافر إلى بلدتنا في نهاية هذا الأسبوع؟
ترك يدها ليحيط كتفها بذراعه:
كما ترغبين يا حبيبتي.
اجابته بابتسامة:
نعم. فأنا أفتقد نورا بشدة.
قهقه ضاحكاً:
نورا فقط!

كلا بالطبع، ولكنك تعلم كم أنا مرتبطة بها. ولا تنسَ أن لها الفضل الأول في نقلك إلى فرع الأسكندرية.
ضحك وهو يشاكسها:
أنتِ مخطئة. فانتقالنا إلى هنا كان بفضل رؤوف وأفكاره.
هتفت بذهول:
حقاً.
اجابها بموافقة من رأسه. فعادت تعانده:
ولكنه فعل ذلك من أجل نورا. إذاً هي صاحبة الفضل.
رفع يديه باستسلام:
حسناً ومن أنا لأعارض. كما تشائين.

ابتسمت له بسعادة لم تظن أنها ستجدها يوماً. حتى بعد مصارحتهما، بل مواجهتهما الأخيرة. لم تكن تعتقد أنها من الممكن أن تعود لتبتسم بسعادة حقيقية وليست ادعاء أو تظاهر.

استرجعت في ذهنها أول لقاء مع طبيبتها النفسية. تلك المرأة الهادئة صاحبة الابتسامة الدافئة والنظارة ذات الإطار الفضي الأنيق. والنظرات التي تمنحك إحساس بأنك في بيتك. لقد فهمت لحظتها لما أصرت والدتها على مقابلة تلك الطبيبة. فهي تدعى حنان وهي بالفعل ينبوع من الحنان والاطمئنان. بالإضافة لمهارتها الطبية. ففي لقاءها الأول أدخلتها الطبيبة وطلبت من منذر الانتظار بالخارج.

كانت سهير خجلة ومحرجة للغاية. لكن الطبيبة. امتصت كل ذلك في سرعة وسهولة غير عادية. حتى وجدت سهير نفسها تبوح بكل ما في نفسها. حتى ما خجلت عن الإفصاح عنه لإمها أو منذر.
تذكرت معها تجربتها المؤلمة في الختان. وأخبرتها الطبيبة بحزم:.

أولاً يجب أن تعلمي. أنه لا عيب أن تكوني انثى جميلة. بل ذلك يدعو إلى الفخر. مرتان وليس مرة واحدة. مرة لكونك أنثى ومرة لكونك جميلة. لا تجعلي ملاحظة جدتك حول جمالك وربطك لما قامت به بذلك الجمال. لا تخشي جمالك. اتركي زوجك يتمتع به. حتى بمتعة النظر له. لا تخفيه. أو تداري أنوثتك خلف ملابس فضفاضة. وأنا اتكلم عن وجودك في منزلك ومع زوجك بالطبع.
ثم التقطت. أنفاسها. وهي تخبرها بجدية:.

نأتي للنقطة الأهم. حادثة الختان. وما سببته لكِ من آلام. لكن ذلك كان بسبب اتباع جدتك لذلك الأسلوب البدائي. بينما لو لجأت لطبيبة أو جراحة. لمر الأمر بدون أي ذكريات تذكر من جانبك. إن تخطيكِ لتلك الذكرى بالذات يعتمد على قوة إرادتك. ورغبتك الحقيقية في وضعها في الحجم البسيط الذي تستحقه. مجرد تجربة وإن كانت صعبة. ولكنكِ أقوى من تدعيها تتحكم بحياتك. أو تفسد علاقتك مع زوجك.

لقد تكلما معاً لساعات. حتى انتبهت الطبيبة فجأة. وهي تخبرها بمزاح:
لقد خصصت اليوم لكِ بالكامل. وذلك من أجل عيون والدتك فقط. لكنني في المرة القادمة سأعاملك كسائر مرضاي. فلا يمكنني اهمالهم جميعاً. أليس كذلك؟
ضحكت سهير بحرج وهي تغمغم:
أنا آسفة.
ابتسمت لها الطبيبة وهي تخبرها بمودة:
ماذا بكِ يا فتاة أنني أمازحك فحسب!
أنا اعلم. ولكن لماذا تقولين أن هناك مرة أخرى؟
سألتها الطبيبة بطريقتها المرحة:.

هل سئمتِ مني بتلك السرعة!
ثم تحولت لجدية دافئة ولكن حازمة:
سهير لقد بدأنا اليوم أول خطوة في طريق العلاج. مازال أمامنا طريق طويل. يجب الالتزام بمواعيد الجلسات. وعلى زوجك أيضاً أن يكون في مثل التزامك. فسأطلب منه أحياناً. الإنضمام إلينا. هل هذا واضح؟
أومأت سهير بموافقة صامتة. لتكمل الطبيبة:.

هناك أيضاً مستشارة العلاقات الزوجية. وهي طبيبة صديقة لي. ومن حسن حظك أنها تقيم بالاسكندرية. أنتِ أخبرتني أنكِ على وشك الإنتقال الى هناك. ستبدآن تلك الجلسات بعد فترة بسيطة. فأنا أفضل أن نمر بعدة جلسات نفسية أولاً. حتى تكوني في وضع أفضل لتقبل نصائح تلك الطبيبة.
أومأت سهير مرة أخرى. فربتت على كتفها الطبيبة برقة:
حسناً. أراكِ الأسبوع القادم.

عادت سهير من ذكريات ذلك اللقاء لتمسك بيد زوجها بقوة. ذلك الرجل الذي أثبت لها قوة حبه بكل طريقة ممكنة. لقد تعاهدا على أن يبدآ من جديد. وهو مازال بجوارها إلى الآن. يتحمل خجلها الذي لم تستطع التخلص منه بالكامل. حتى بعد مرور شهرين على وصولهما للأسكنرية ومقابلة الطبيبة التي رشحتها الدكتورة حنان.

لقد ترددا يومها في الذهاب. حتى أنها اتصلت بالعيادة حوالي خمس مرات لتلغي الموعد ثم تعود وتتصل لتأكيده. كان منذر أيضاً متوجساً. يراقبها وهي تلغي الموعد تارة وتأكده تارة أخرى وهو صامت. متخوف من الذهاب، ولكنه في المرة الأخيرة التي حاولت فيها إلغاء الموعد. منعها. وطلب منها بحزم أن تستعد للذهاب.

وكان الموعد الأول نقطة تحول. في حياتها. فالطبيبة كانت تحاورهما بسلاسة. وكانت في غاية الإحتراف. وهي تضع معهما بضع قواعد لتجعلهما يتبعانها بحزم. يومها ابتسمت باحترافية وهي تنظر لمنذر:
أنا لن أفرض عليك. طريقة تعاملك مع زوجتك. أو أضع لك لائحة بما عليك القيام به.
لحظتها اصطبغ وجه سهير باللون القرمزي. فنظرت لها الطبيبة. ثم عاودت النظر لهما معاً:.

يجب أن اتأكد في رغبتكما القوية في التمسك بزواجكما. وتخطي أي عقبات تقابله.
اندفعا معاً في الاجابة:
بالطبع.
ابتسمت الطبيبة بدفء:
حسناً. لقد درست ما أرسلته لي الطبيبة حنان بكل دقة. واستطيع أن أخبركما الآن. أن المشكلة. ليست عويصة كما تتخيلان. والحل منحه لنا الله سبحان وتعالى في كتابه الحكيم. وقدموا لأنفسكم.
رمقت منذر بنظرة فاحصة:.

أعتقد أنك بدأت تفهمني يا سيد منذر. إن تلك الآية الصغيرة. تعددت تفسيراتها. ولكن ما يهمنا الآن هو ما يختص بحالتكما. هل تفهما ما أتكلم عنه؟
أومأ منذر برأسه. بينما التفتت الطبيبة إلى سهير:.

والآن يا سهير. إن تقرير الطبيبة النسائية مبشر جداً. لكنني أريد منكِ بعض التعاون مع منذر. حاولي أن تسترخي. لا تراقبي ما يحدث بينكما. تذكري دائماً أنكِ طرف فاعل. وليس متفرجة على ما يقوم به زوجك. والأهم. انسِ أن لتلك التجربة القديمة أي أثر على مشاعرك الحالية. ولا تجعلي من خجلك حاجز منيع بينكِ وبين زوجك. تذكري أن الحياء أمر مرغوب في الرجل والمرأة. ولكن الإفراط فيه غير مطلوب كأي شيء آخر. و.

كانت سهير تشعر بلونها يتحول إلى الأحمر القاني. ولكنها كانت منتبهة لحديث الطبيبة ومشدودة له بقوة. فهي أخذتهما في رحلة بسيطة ولكنها مفيدة لتساعدهما على تكوين علاقة زوجية ترضيهما معاً.

وهذا ما حدث تقريباً. لقد توطدت علاقتهما الروحية قبل الزوجية. واتبعا تعليمات الطبيبة بدقة. وتستطيع الآن أن تقول أنها حقاً سعيدة. هذا لا يعني أن حياتهما كاملة. فهما مازالا يتابعان مع كلتا الطبيبتين ولكن عدد مرات ترددهما أصبح أقل بكثير عن البداية.

لا تنكر أنه تمر بينهما بعض الأوقات يشعران فيها بالقلق. والخوف من العودة إلى الوراء. إلا أن الصلة الروحية التي زادت بينهما بشدة نتيجة تشاركهما تلك المشكلة. كانت ما ينقذهما من الوقوع في براثن الفشل. فهما مصران على إنجاح زواجهما. وتقوية علاقتهما مهما كلفهما الأمر من مجهود. ووجودهما هنا في الأسكندرية وحدهما وبعيداً عن الجميع. ساعدهما على ذلك كثيراً.
التفتت لمنذر بسعادة:
منذر. أنني أريد بعض الترمس!..

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *