رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل التاسع عشر
جرس المنزل؟
لا بد وأنهم عادوا. أخيراً سأجد ما يخرجني من هذا المزاج الغريب الذي سببه لي كريس.
نزلت الدرج بقفزات واسعة متجاهلة بعض الدرجات لأنزل بسرعة، وصلت إلى الباب لأفتحه مبتسمة فوراً.
ولكن ابتسامتي تلك قد بهُتت كثيرا وأنا أحدق إلى الطارق!
حتى فغرت فاهي بدهشة: أ. أنتِ!
همستُ بها باستغراب شديد لأقابل عيناها التركوازيتان المميزتان وقد تساءلتْ ببرود: هل سأقف هنا كثيراً!
عقدت حاجباي انظر إليها وهي تمرر يدها في شعرها الأصهب القصير فلويت شفتي بغيض يجوبه استنكار: ما الذي تفعلينه هنا؟!
بللت شفتيها مجيبة بابتسامة واثقة: اسمعي يا صغيرتي ليس وكأنني أتيت إلى هنا شوقاً إليك أو رغبةً مني، أنا مضطرة لتعكير مزاجي في هذا الصباح بالحديث معك وهذا كل شيء.
امتعضتُ هامسة وانا افتح الباب لأسمح لها بالدخول: توقفي عن استفزازي، يكفي أنني تحدثت مع كتلة وقاحة حية للتو على الهاتف بالكاد قد احتملته خطوط الإتصال!
أردفت على مضض: تفضلي.
دخلت بكل برود ترفع رأسها بشموخها الذي يذكرني كثيرا بذلك الوقح كريس، نظرتْ يمينا ويسارا فأشرت لها نحو غرفة الجلوس، أغلقت الباب وتبعتها متسائلة بهدوء: كيف علمت بعنوان منزلي؟
جلستْ على الأريكة الفردية ووضعت حقيبتها السوداء فوق الطاولة، ثم وضعت ساقا على الأخرى قبل ان تقول: أعدي لي كوباً من الشاي.
تصرفاتها تقودني للجنون ولا يمكنني مجاراتها أبداً! لا عجب في انهما أصدقاء ومن يعلم ربما يكون مجرد هراء وتكون علاقتهما أقوى بكثير وتحمل في طياتها المزيد من الأسرار التي لا أريد معرفتها!
اتجهت للمطبخ بخطى واسعة مقتضبة من تصرفاتها المتعجرفة.
كنت أعد الشاي مفكرة بحيرة وبانزعاج، عن سبب تواجدها الآن. ما الذي أتت لتتحدث بشأنه؟!
إنها تيا وحوارها معي لن يخلو من توجيه إهانات أو محاولة استفزازي كلما سنحت لها الفرصة. فهي لا تختلف عن ذلك اللص في أي شيء. الغرور والتعالي ذاته!
من اين لها بعنواني على أي حال؟ إنها آخر شخص توقعت أن أراه.
أخذت كوب الشاي وصحن فيه قطعة كعك جاهزة قد اشتريتها مع باقي الأغراض بالأمس، واتجهت نحوها بملامح هادئة وخطوات لا مبالية ووضعت الكوب والطبق على الطاولة ثم اتجهت للأريكة المقابلة لها.
رمقتني بنظرة سريعة وهي ترتشف من الكوب ثم همست: ليس سيئاً.
شكراً على الإطراء.
قلتها بتهكم وانا اسند وجنتي على كفي بملل.
لم أكن أطريك، كنت أشير فقط إلى أنك تبدين قادرة على صنع شيء ككوب شاي!
أنا لست عديمة الفائدة كما تعتقدين، أنا أطهو وأقوم بكل الواجبات المنزلية ولستُ فتاة تتنفس الهواء بلا حيلة!
فليكن.
شعرت بالغضب ورغبة عارمة في تهشيم الطبق فوق رأسها ولا سيما حين ابتسمت وفي عينيها محاولة ناجحة لإزعاجي وهذا ما دفعني لأقول متمالكة نفسي: لا تعكري صفو مزاجي أكثر من الحالة التي أمر فيها الآن! الإله وحده يعلم كم أرغب في ضرب رأسي في الحائط وأوقف ذاكرتي عن العمل.
تجاهلتني وهي ترتشف كوب الشاي ثم احتضنته بين يديها لبرهة، حتى وضعته على الطاولة وازاحت خصلات شعرها الأصهب ونظرت نحوي بعينيها ذات اللون التركوازي هامسة: لقد علمت بما حدث.
ألا وهو؟
أتحدث عن ما حدث قبل أسبوعان. عن كلارا ومغادرتك.
أردفت بهدوء: هل كان عليكِ المغادرة حقاً؟
هاه!
ارتفع حاجباي وقد بدأت أوجه اهتمامي لحديثها فوضَحت بنبرة جادة: هل كنتِ ترغبين في الخروج من حياة كريس إلى هذه الدرجة؟
ولما لا! لم أصدق أن الفرصة قد سنحت لي وكان على أن أستغلها.
هل أنتِ صريحة معي الآن؟
هل سأضطر للكذب؟
لن تضطري مستقبلا فأنتِ تكذبين الآن.
اتسعت عيناي قليلا وقد تملكني الغيض من ثقتها هذه وقبل ان افتح فاهي سبقتني القول مشيحة بوجهها بتبرم: أنتِ حقا ذات رأس متحجر. لماذا لم تنتظري حتى يهدأ كريس بعد ما اكتشفه عن كلارا آنذاك! لماذا لم تستوعبي أنه قد فقد أعصابه حينها وسيقول أي شيء حين يغضب!
وما دخلي أنا بكل هذا؟ أخبرتك للتو بأنني لم أكن لأتجاوز فرصة قد اتت إلى مجاناً.
نظرت إلى بتقييم حتى ابتسمتْ ساخرة: وجهك لا يقول هذا أبداً. تبدين شاحبة كالجثة الهاربة من قبرها، هل هذه هي الراحة التي تدعينها؟
ما الذي تقصدينه!
أقصد بأن ابتعادك عنه لم يكن خطوة جيدة في حقك.
تبدين موقنة بما يتفوه به فمك الثرثار آنسة تيا! هل أنتِ واثقة بأنكما لستما شقيقان! أكاد أثبت لك أن الحمض النووي في خلايا جسديكما متطابق تماماً.
كفاكِ سخفا ومراوغة، لقد كان واضحا جداً الغيرة التي تكبتينها تجاهي كلما رأيتِ فيها وجهي.
غ. غيرة!
غيرتك على كريس كانت أمر سهل القراءة. ووجهك الحالي يخبرني بأنك مجرد حمقاء تنتظر ان يظهر الفارس المغوار في حياتها ليخرجها من الظلمة التي تعيشها. مثيرة للشفقة.
من الواضح أنكِ تملكين وقت فراغ كبير، وإلا ما كنتِ لتقطعي هذه المسافة لأسمع هذا الكلام الفارغ. عذرا ولكنني مشغولة.
طرفت بعينها ببطء حتى باتت تحدق إلى وكأنها تفكر بعمق بل وان نبرتها كانت غريبة جدا وهي تهمس: لا بد وأنه خائب الأمل كثيراً.
عقدت حاجباي بعدم فهم حتى زفرتْ وعاودت ترتشف من كوب الشاي فقلت بضجر وملل: سأكون سعيدة لو انهيت هذا الكوب وغادرتي. على أن.
ولكن لساني قد ألجم عن الكلام وانا أرى البريق المستاء المفاجئ في عينيها!
احتضنت الكوب بين يديها وقربته من وجهها وبدت شاردة الذهن مما جعلني احتار كثيراً!
ظلت تنظر للكوب قائلة بهدوء: لم أكن أنوي قولها بطريقة مباشرة. ولكنه أضعف مما تتخيلين.
ظهرت تقطيبه بين حاجباي وسألتها وقد اعتدلت في جلستي: لماذا تقولين هذا فجاة!
أعقبت بشيء من الحذر: أخبريني. هل طلب منكِ المجيء إلى هنا!
رفعت عينها نحوي بإنزعاج: لم يفعل ولا يعلم بأنني هنا أصلاً. ولا يهمني إن كنتِ ترغبين في العودة أو لا ولكنني لن أسمح لكِ بتحطيمه أكثر هل تفهمين هذا!
ما الذي.!
أعلم بأن تصرفاته غير معقولة ولن يحتملها أحد ولكن. ولكنه يظنكِ.
ظلت تتلعثم وتوقفت عن الحديث وقبل أن أبادر بمحاولة الفهم اجفلت لصراخها الغاضب وهي تضع الكوب على الطاولة وقالت: اللعنة ألا تعلمين كم أثرت مغادرتك به! أنصتِ أيتها الحمقاء لم أكن أريد التعمق في التفاصيل ولكنك ترغمينني على هذا، كريس كان ثملاً قبل أيام معدودة وتفوه بأمور كثيرة ولكنه خصص جزءً كبيرا منها في الحديث عنك بلا وعي.
ارتخت ملامحي بينما أكملت بحزم: إنه في انتظار عودتكِ لستِ بحاجة لدعوة منه! عليكِ أن.
ولكنها بترت حديثها وهي تحدق إلى بإستنكار ما ان انفجرت ضاحكة غير متمالكة نفسي وقد قلت من بين ضحكاتي بصعوبة: يا الهي! ما هذا؟! ربما لو أتيت لي بنظرية تثبت أن الأرض مستطيلة الشكل لصدقتك بدلا من هذا السخف! كريس في انتظار عودتي؟ أقسم بأنه لا يسعني سوى الضحك.
أضفت ضاحكة غير قادرة على التوقف: هذا الذي تدعين بأنه في انتظاري اتصل بي للتو ولم يترك تهديداً أو إهانة إلا وقام بتوجيهها. يا الهي. أضحكتني بالرغم من تعكر مزاجي!
لم تبتسم، لم تسخر، بل أطرقت برأسها تنظر للأرض بضيق فاجأني كثيراَ واجبرني على التوقف عن الضحك تدريجياً!
كم يدهشني أن أرى نظرة كهذه في عينا تيا شخصيا!
نظرة ضعف واضح بل وقلة حيلة وكأن عيناها لم تعرفا ذلك التغطرس والتعجرف الذي اعتدت عليه!
توترت وشعرت بالقلق انظر للفراغ تارة وإليها تارة أخرى، فهمست بدورها: من المتوقع ان تقولي شيئا كهذا!
أكملت بنبرة غريبة: إسمعي وافتحي أذنيك وعقلك جيداً، صحيح بأنني لا أطيقك ولكن.
اطبقت شفتيها ثم أردفت: لا يجب أن تعاملي كريس بهذه الطريقة مهما فعل. ليس أنتِ.
ارتفع حاجباي: عن أي طريقة تتحدثين؟
عن تجاهلك له وعن رفضك العودة إليه!
تابعت الحديث بشرود ونبرة منخفضة: صداقتنا أقدم وأقوى مما تتخيلين. ولكنني لا أذكر فيها مرة بوحه لي بسر واحد على الأقل.
ادهشني قولها متسائلة باهتمام صادق: ولا مرة واحدة!
نفيت هامسة: لم يبدو لي بأنه مستعداً أبداً في التحدث عما يقلقه أو يزعجه يوماً. جعلني هذا أشعر دائماً بحاجز غريب من نوعه! فهذا الحاجز لا وجود له في باقي الأمور سوى في الأشياء التي مرَ بها قبل صداقتي به وكأنه لا يسمح لي في اكتشاف كريس القديم. إنه كتوم بدرجة مزعجة ولا يمكنني ألا أتضايق مما يفعله! لماذا لا يمكنني التخفيف عنه عندما يكون منزعجاً! لماذا لا يمكنني الإنصات له؟
بللت شفتاي بصمت للحظة ثم تساءلتُ بتردد: كيف أصبحتِ صديقته إذاً؟
هذا ليس موضوعنا الآن. أنا قلقة جداً! إنه في منزله منذ أسبوعان ولا أستطيع التوقف عن التفكير في الوقت الذي سينفجر فيه! كيف لا وهو يرفض الحديث إلى أحد أكثر من دقائق معدودة! لقد بدأ يربط بين حياته الشخصية وعمله والضحية الوحيدة في هذا كله هو الموظفين اللذين لا شك بأنهم بدؤوا يرغبوا في الهرب من العمل تحت يده!
وما شأني أنا!
تنهدتْ وبدت تحاول السيطرة على أعصابها ولكنا أُتلفت تماما وهي ترص على اسنانها بغيض: إلى أي مدى أنتِ غبية!
تجاهلت ما قالته وتمتمت بجفاء: لا أريد رؤيته او سماع صوته، يكفي ما قاله لي على الهاتف والإهانات التي لا حدود لها معه. شخص مثله لا يستحق أن أفكر فيه أو اقلق بشأنه، ما المشكلة في جلوسه في منزله وما المقلق بهذا أصلاً!
أقول لك بأنه تحدث عنك أثناء ثمالته وغيابه عن الوعي وتقولين ما شانكِ أنتِ!
أضافت بغضب أفزعني: أخرجي من عقله إذاً لو كنت ترفضين التدخل!
أ. أخرج من عقله!
فكرت في جملتها كثيرا حتى انني تناسيت وجودها!
ولكنها رفضت تركي أغوص أكثر فانتشلني صوتها الحازم: أنا صديقته الوحيدة. ومع ذلك لم يخبرني منذ أسبوعان بأي شيء بل ويتظاهر بأنه يتصرف على سجيته! في الآونة الأخيرة بدى كريس مختلفا وأكثر عفوية بطريقة ما، ولكنه منذ أسبوعان. يُشعرني بأنني أنظر إلى كريس الذي عرفته في المراحل الدراسية! لا أريد لجفائه المبالغ به ان يعود!
أردفت نافية برأسها رافضة: لا اريد! لقد تمسكت به وتعلقت به كثيراً بالرغم من تصرفاته الصعبة ولكن. أن يعاملني الآن بهذه السطحية أمر لا يمكنني احتماله! كريس يعني لي كل شيء. إنه صديقي وأخي وعائلتي. ربما كنتِ السبب في تغيره في الآونة الأخيرة لذا لا تصعبي الأمر وعودي وحسب!
عقدت حاجباي ولم أعلم بما على قوله!
لا أريد تكذيبها فهي تبدو صادقة جداً ولكن. أن أصدق بأن كريس يريد عودتي لهو أمر لا أستطيع تجاوزه وأدخله عقلي أبداً! لا زلت أرى الأمر مجرد طرفة! كيف لا وأنا لم أسمع منه يوما ولو كلمة لطيفة عن طريق الصدفة أو الخطأ؟
تصرفاته واضحة وكفيلة بإيضاح كل شيء! لو كان يريد عودتي لما مررت بهذه المكالمة قبل قليل.
لو كان يريد عودتي لما تجاهلني طوال الأسبوعان الماضيان!
لو لم يكن يريد مغادرتي منذ البداية لما طلب مني الرحيل ببساطة!
فكيف لي أن أصدق هذا بحق الإله؟! وحتى لو كان واقعاً. فلماذا سأعود وبصفتي من!
حين كنتُ في المرحلة المتوسطة في المدرسة توفي والدي.
قالتها بهدوء فاتسعت عيناي وهمست بلا شعور: آ. هذا مؤسف.
لست أقول هذا لنيل شفقتك، لا اريدها وفريها لنفسك.
أضافت بنبرة ساكنة ومتزنة: والدي كان موظفا مجتهدا في شركة السيد ماكس. بل وأنه عمل بها منذ ان كان السيد إفليك يديرها. كان المعيل الوحيد لي ومع ذلك فلقد توفي وأنا لا أزال صغيرة مما أجبرني على التعود المبكر على تحمل مسؤولية نفسي، على الدراسة بجد حتى أستطيع الوقوف على قدماي دون الحاجة إلى أحد. ومع ذلك لم أكن بهذه القوة أو بهذه الصلادة! لم يكن لي كتفا اتكؤ عليه حين احتاج دعماً، ولا يداً تمسك بيدي حين اسقط واحتاج قوة تدفعني للوقوف على قدماي. بل وبدوت ضعيفة مثيرة لشفقة من حولها مما دفع الكثيرون من الطلاب والطالبات إلى حشري في زاوية الطالبة الغير مرغوب فيها والتي لا داع لتواجدها، فكل ما أفكر به هو الدراسة دون حاجة لتكوين صداقات مما دفعني لتجاهل الجميع. لم أكن لأتخيل أن يتطور الأمر لأعاني من إزعاجهم لي لأكون مصدر متعتهم وتسليتهم.
ضاقت عيناي باستياء ولم أستطع منع نفسي من احتضان الوسادة بقوة مستمعة إليها.
هذا حقاً. مؤسف! من الصعب تخيل هذا. ومع من! مع تيا؟
تركتها تكمل دون مقاطعة: وبينما أنا كذلك، كان هناك شخص آخر مصدراً لخوفهم ولحذرهم طوال الوقت. ليس لأنه قد قام بإيذائهم أو إخافتهم، بل لأسباب كثيرة. شخصيته المتغطرسة، نظرة التعالي التي كان يرمق فيها الآخرون من حوله بل وبطرف عينه وكأنه يرفض إهدار طاقته في التحديق إليهم كمن لو كانو لا يستحقون ان يجهد عيناه عليهم!
رشفت من الشاي ثم تنهدت: ولعدم انخراطه في الحديث معهم واسم عائلته المشهورة ومنصب والده وجده بل وشفتيه التي لم تتفوه بكلمة لطيفة حانية!
عقدت حاجباي هامسة: لهذه الدرجة! ما الذي جعل كريس هكذا بحق الإله!
تجاهلت سؤالي متمتمة وقد ظهرت تقطيبة بين حاجبيها: لا يمكنني إحصاء عدد المرات التي كان ينظر إلى فيها بإزدراء لكوني فتاة ضعيفة اسمح للجميع بإضطهادي بكل بساطة لأكون عبدة للدراسة والتخطيط للمستقبل فقط متأثرة بوفاة أبي بل وحتى قبل وفاته. لن أنسى حين تعرضتُ للضرب من مجموعة فتيات توقفن فورا حين كان يمشي في المكان ذاته. نظر إلينا بلا اكتراث وحدق إلى مطولاً وكأنه يقول تستحقين أكثر من هذا !
اتسعت عيناي بعدم تصديق: لم يحاول مساعدتك! ياللفظاعة.
تيا:
بدت الدهشة على ملامح وجهها وهي تسألني. لمعت عينيها الخضراوان بعدم تصديق فنظرت إلى كوب الشاي الذي كنت قد نويت ان ارتشف منه ولكنني قد انهيته!
أكره الحديث عن نفسي كثيراً، بل وأنني لم أفعل هذا سوى مع شخص واحد فقط وقد اختفى من حياتي ولم يعد لي مكانا في ذاكرته على الأغلب منذ تلك الحادثة المشؤومة في الشركة.
عاودت أنظر إليها وهي تترقب التكملة فلم أمنع نفسي من العودة إلى الماضي الذي اعتمد عليه حتى اليوم.
أحن دائما إلى كل لحظة قضيتها مع كريس حتى لو كانت لحظات بائسة او سيئة ومضجرة.
وجدت نفسي أهمس بشرود تام: أنتِ تجبرينني على العودة للوراء كثيراً. فأنا الآن أرى نفسي من جديد مرتدية الزي المدرسي ولا أزال في العام الثاني من المرحلة المتوسطة أربط شعري الأصهب الذي كان طويلا آنذاك وارتدي نظارة طبية قبل ان اعتمد الآن على العدسات اللاصقة التي لا تفارقني.
إنه العام الثاني ولازلت لم أكون أي صداقة تُذكر، أكاد أكون طالبة خفية في هذا الفصل، بل أن لا أحد منهم يتذكر إسمي.
إنني أجلس على الطاولة الموجودة في الصف الثاني من جهة اليسار في نهايته، صف الطاولات على يساري بجانب النوافذ مباشرة، والمقعد المجاور لي تحديدا كان فارغاً حتى الآن.
الجميع يتحدثون بمرح وحماس حول ما قضوه في اجازة فصل الصيف، والكثيرون يفتخرون بأننا الآن أقرب للتخرج من المرحلة المتوسطة بعام فقط. وآخرون يقفون كثنائي قد اشتاقوا إلى بعضهم ولم يلتقوا منذ فترة متناقلين أخبارهم وآخر انباءهم. على خلافي أنا التي أجلس بصمت احدق إليهم ولم أرى ولو شخص واحد فقط يجلس وحده عداي. الكثيرون وجوههم مألوفة. درستُ معهم في قبل ان التحق بهذه المدرسة قرب نهاية العام الماضي ولكن يوجد أيضا وجوه لم أرها من قبل أو أنني بالأحرى لم أكن أهتم بالتعرف على ملامحهم منذ البداية.
هدأَ الفصل بشكل مفاجئ ليلتزم الجميع الصمت بطريقة لفتت انتباهي فنظرت إليهم بحيرة.
كلهم يوجهون أعينهم نحو شخص ما.
انه فتى قد دخل الفصل بملامح جامدة ويمشي بخطى واثقة جداً!
بل ويرفع رأسه بشموخ كنسر ينظر للأسفل من أعلى قمة جبلية مما اعطاه هالة غرور غريبة!
لماذا صمتوا فجأة حين دخل!
حدقت إليه وهو يمشي متجها إلى صف الطاولات المجاورة للنافذة، وتحديدا نحو الطاولة الشاغرة بجانبي.
جلس بكل هدوء دون حرف واحد وكأنه يرى أن تحريك لسانه مجرد فعل لا يستحق إهدار ولو مقدار صغير من الطاقة عليه!
لديه مظهر. مميز! تفوح منه رائحة الثراء، إنه وسيم كما لديه جاذبية خاصة.
ألا تندفع الفتيات عادة نحو هذا النوع من الفتيان الوسيمون؟ لماذا أرى العكس تماماً إذاً؟
بدأ الجميع يتهامسون وهم ينظرون إليه بأطراف أعينهم فاستغربت كثيرا وعاودت أسترق النظرات نحوه، ليس اهتماما وإنما مجرد فضول لا أكثر. فأنا لا أكترث بأي شيء يحدث في محيطي ولو على بعد متر واحد فقط.
اجفلت في مكاني حين التقت عيناي بعينه ولا أدري لماذا أسرعت اشيح بنظري بعيداً عنه كمن لو تعرضت لإلتماس كهربائي عنيف!
وحينها التقطت اذناي صوتا بعيدا خافتا جداً: أكره المتعجرفين أمثاله. فقط لأنه يحمل اسم عائلة إفليك يعتقد بأنه علينا الإنحناء له.
حادثه صوت خافت أخر بنبرة حذرة: أصمت، ماذا ستفعل لو سمعك أيها الأحمق! ألم تسمع ما حدث في العام الماضي؟ لقد خاض شجار عنيف مع مجموعة جانحة وخرج من الموضوع كما تخرج الشعرة من العجينة. لستَ نداً له دعه وشأنه.
لا عجب في أنني لا أعرف شيئاً عنه فلقد كنتُ قد التحقت بهذه المدرسة في الفصل الأخيرة من العام الماضي مما سبب لي بعض الصعوبات في مجاراة الدراسة هنا.
نظرت إلى من يحمل اسم عائلة إفليك والذي لم يكن إسما غريباً أبداً. فأبي يعمل في شركة تحت رئاسة شخص يُدعى بإفليك وله وريث يدعى ماكس.
الراتب الذي يحصل عليه أبي جيد بل ومناسب جداً ويبدو سعيدا بعمله هناك في تلك الشركة.
نظرتُ لليسار غير قادرة على تجنب اختلاس النظر فرأيته يسند وجنته على كف يده بوجه بلا تعبير واضح.
في النهاية لم أولي إهتماما خاصاً وتساءلت فقط في نفسي إن كان ابن إفليك أو حفيده أو أحد اقربائه.
بصراحة كان يومي كأي يوم عادي أقضيه وحدي كما اعتدت، فأنا الأسوأ على هذه الأرض حين يتعلق الأمر بتكوين الصداقات. بل وأمضيت باقي الأيام التالية كالمعتاد ولكنني اعترف بأنني بدأت اكتسب اهتماما نحو ذلك الفتى الذي اكتشفت مؤخرا أنه يدعى كريستوبال ماكس إفليك. أي انه الحفيد لرئيس الشركة التي لا تخلو مدينة من أفرعها.
مقارنة بوضعي فيوجد ما هو أسوأ! على الأقل يمكنني القاء التحية صباحا ومساءا على الآخرون في الفصل، بل ويمكنني الإستئذان ورمي بضعة كلمات عند الضرورة ولكنه لا يكلف نفسه بذلك حتى! بل أنني لم أسمع صوته حتى الآن مما جعلني أتساءل إن كان أبكماً! أنا لا أراه يتحدث ولو حديثا ذاتياً!
إنه الشتاء الآن، لقد حل الفصل المفضل لي في السنة بالرغم من كوني أكثر الناس خوفا من معالمه، كالبرق وصوت الرعد الذي هو أكبر مخاوفي منذ صغري بلا سبب واضح أو مبرر مقنع. مجرد خوف اكتسبته مع الوقت.
خرجت كأي يوم للمدرسة أقطع مسافة تبلغ ما يزيد عن النصف ساعة سيرا على الأقدام.
وعندما وصلت إلى بوابة المدرسة رأيت تلك السيارة السوداء اللامعة والفارهة التي تتوقف كل يوم في هذا الوقت لينزل منها المدعو كريستوبال بل وتنتظره في المساء لتقله إلى المنزل.
نزل منها وسار بخطواته الواثقة المعهودة مرتديا معطفا ثقيلا ووشاحا يلفه حول عنقه ويرفعه نحو فمه قليلاً ولطالما تساءلتُ لماذا يبالغ كثيرا في سمك الأوشحة أو المعاطف التي يرتديها!، مشيت خلفه كذلك وانا انظر لأحد الكتب تارة وإليه تارة أخرى.
إلا أنني توقفت بشكل مفاجئ حين لمحت الموقف الذي شهدته عيناي الآن!
بينما كان يمشي انزلقت إحدى الفتيات بسبب الثلج الذي ذاب ليترك أثرا سائلا فلم تستطع التوازن مما اجبرها على السقوط أمام قدميه مباشرة.
بصراحة توقعت كما سيتوقع أي شخص أن ينحني ليساعدها على الوقوف، ولكنه ظل واقفا ينظر إليها بطرف عينه من الأعلى مما أجبرها بسرعة على لملمة كتبها واوراقها والوقوف متأوهة لتغادر معتذرة بسرعة.
رفعت كتفاي بلا اكتراث ورأيته موقفا عادياً جداً حتى أصبحت اسمع الهمسات من حولي: ياللوقاحة! لم يكلف نفسه عناء مساعدتها وهي واقعة تحت قدميه.
لا تستبعدي هذا، أنظري إلى نظرات الإستحقار والتعالي التي لا تختفي من عينيه.
ليس باليد حيلة. حتى المعلمين هنا ليسوا على استعداد للتحدث معه ولو بشأن أخطاء يقترفها تفاديا للمشكلات معه شخصياً. سمعتُ بأنه قضي اجازة الصيف في المشفى. لا أعرف التفاصيل ولكنه خاض أمراً ما. يوجد الكثير من الإشاعات ولا ندري ما هو الصحيح من عدمه.
تجاهلت الحوارات من حولي واكملت طريقي وكان قد اكمل طريقه مسبقاً، لم أجد أمراً يستحق التفكير أو ان اوليه اهتماماً وفضولاً، أريد ان امضي أيامي بسلام.
ولكن هيهات.
ها قد ظهرت المجموعة المزعجة المتطفلة.
إنهن فتيات في الفصل المجاور لنا، تتراوح اعدادهم بين الخمسة والستة ولديهم قائدتهم ذات الملامح العدائية والتي تنظر إلى الآن وانا اصعد الدرج بغية التوجه للطابق الثاني ولكنها استوقفتني مستندة على الجدار وحولها مجموعتها، فوقفت ببرود وبلا تعبير واضح وانا احدق إليها بصمت ليأتي سؤالها بغطرسة: نحن في انتظار الواجبات المحلولة عزيزتي تيا. سننتظرك في الساحة الخلفية في وقت الإستراحة، لا تجرؤي على التأخر.
حقا لا شيء جديد، ولا شيء قد يؤثر بي.
اتساءل متى ماتت مشاعري وتجاوبي مع البيئة المحيطة بي!
أومأت برأسي وذهبت للفصل، وعندما حل وقت الإستراحة أخرجت الأوراق التي كتبت فيها الواجبات المنزلية لهن لأتخلص من إزعاجهن. أو لأقي نفسي شرهن وحسب فأنا في غنى عما يفعلهن دائما منذ التحاقي بهذه المدرسة، ففي الفصل الاخير كنت وجبة دسمة وشهية بالنسبة لهن.
نظرت للمقعد المجاور على يساري، هو ليس هنا.
ليس من عادته الخروج من الفصل في فترة الإستراحة، لم أره يوما يتناول طعامه هنا في المدرسة مما جعلني أتساءل كالبلهاء في وقت سابق إن كان يعيش معتمدا على الطاقة الشمسية أو تخزين الغذاء في معدته! ربما اراد كسر القاعده اليوم.
وقفت متجهة للساحة الخلفية وفي يدي الأوراق التي أمرنني بالقيام بها.
ولم أبحث كثيرا او انتظر وقتا طويلا فلقد كنت اجلس على مقعد خشبي بينما المساحة حولي فارغة من الطلاب، حتى أقبلن نحوي.
وقفت أمد الأوراق لزعيمتهن دون كلمة فانتزعتها مني مبتسمة وتمتمت: ألا يوجد كلمة تفضلي في قاموسك؟
رفعت عيناي نحوها ولم أعلق على سؤالها بل قلت مبتعدة: سأعود للفصل.
ولكنني استنكرت وقوفهن أمامي يمنعنني من الإبتعاد، تكتفت الزعيمة مبتسمة بشر يجوبه انزعاج: ما هذه التصرفات الجافة؟ لستِ في موقف يسمح لكِ بالتمرد يا عزيزتي.
تنهدت بهدوء: لقد اردتِ الواجبات فقط. هل من شيء آخر؟
اقتربت مني ممررة يدها على وجنتي هامسة بلطف مزيف: صهبائي الجميلة اللطيفة لماذا تعامليننا بهذه العدائية!
اغمضت عيناي ولم أعلق فابعدت يدها متنهدة: الواجبات مهمة كما تعلمين، لن أسمح بوجود خطأ فيها.
نظرت إليها بترقب فأكملت مبتسمة: ولكن يوجد أمر أهم بكثير. أمر عاطفي يهمني شخصيا! أشعر في الآونة الأخيرة ان قلبي المرهف لن يحتمل ما يحدث وراء ظهري.
عقدت حاجباي بعدم فهم لتحيط كتفي بذراعها واجبرتني على المشي بجانبها لتقول موضحة: يوجد عاهرة لعينة في فصلك يا تيا. إنها تحاول الإلتصاق بديريك! لن أجعل جهودي نحوه تضيع هباءً!
وما شأني أنا؟
سألتها ببرود فأجابت متظاهرة بالحزن: عليك أن تسدي إلى بخدمة. علمتُ بأنها وضعت رسالة اعتراف سخيفة في حقيبة ديريك الرياضية. هذه الحقيبة يضعها في غرفة تبديل الملابس الخاصة للأولاد.
أكملت بهمس مريب: تعلمين ما عليكِ فعله.
لن يكفي الوقت لأصف حينها كم اعترضتُ على اقتراحها حتى وصلنا إلى جدال كنت الخاسرة فيه وقد انتهى بتهديداتها المعتادة. ولكن هذه المرة بتهديد لم أضعه في الحسبان!
ففي إحدى المرات عندما أُجبرتُ على نسخ بعض مراجعات الإمتحان الذي خاضه فصلنا لأجلها ولأجل مجموعتها قمنَ بتصويري وبطباعة هذه الصورة.
نظرت إلى الصورة في يدها بعين متسعة ولكنني سرعان ما سمحت للدهشة بالتلاشي ليحل مكانها الهدوء.
لا حيلة.
حقاً لا حيلة.!
ولكن. أن اذهب إلى غرفة تبديل الملابس؟! ماذا لو رآني أحد هناك؟ ما الذي ستفعله فتاة هناك! سيكون الأمر محرجاً وقد اقع في المشاكل.
يبدو انها علمت ما يجول في خاطري لتبدد سحابة الأفكار من حولي قائلة: لا تقلقي يا تيا، لن نسمح بتوريطك ثقي بنا. لا يوجد حصة رياضية بعد فترة الإستراحة، لذا اطمئني.
وكيف سأثق بها! إنها ثعلبة ماكرة أكثر ما تجيده هو حياكة القصص والكذب واختلاق التسويغات بأقل من لحظة.
همستُ ببرود: كيف أثق بك؟
أوه! ياللقسوة! حسنا من حقك الشعور بالأمان. سنرافقك جميعنا وننتظرك في نهاية الممر.
ثم اضافت وهي تدفع كتفاي تجبرني على السير: هيا لنسرع قبل ان تنتهي الإستراحة.
بينما أسير معهن، أو الأصح يتم جري رغما عني. كنت أفكر فقط في مدى سذاجتي أو ادعائي لها.
اعلم جيداً كم يتظاهرن واعلم بنواياهن. لماذا لا انتزع نفسي إذاً من كل هذا؟
هذه الفتاة ومجموعتها لسن محلا للثقة ولن يصبحن. الجميع يعلم بحقيقتهن ولطالما حاولن توريطي في الكثير من الأمور.
إلى أين أقود نفسي ببرودي بكل ما يحدث حولي ولي خصيصا!
عندما صعدنا للطابق الثاني وقفن عند بداية الممر وسرت بدوري إلى غرفة تبديل الملابس بخطى هادئة تكاد تكون بطيئة وكأنني أرجوا ان يسعفني صوت الجرس.
ولكنني وصلت لغرفة التبديل التي وُضع عليها علامة الفتية، نظرت من حولي لكل الطالبات والطلاب الذين يمشون او يأكلون ويضحكون.
لا أحد منتبه لي ولكن.
سألفت النظر لو دخلت!
سيرونني أدخل بوضوح!
لم أكد أفكر أو أتعب عقلي أكثر إذا تظاهرت المجموعة بأن إحداهن قد سقطت مما دفع الجميع لتوجيه انظارهم نحوها وحينها كانت فرصتي لأفتح الباب بحذر وادخل.
كل ما على فعله هو البحث عن خزانة المدعو ديريك وحسب.
أغلقت الباب ببطء لئلا أصدر صوتاً، الغرفة ليست بصغيرة، إنها مقسمة إلى عدة أقسام بفضل الخزائن التي وضعت على شكل صفوف مقابل بعضها.
مشيت عند الصف الأول باحثة عن اسم ديريك ولم أجده.
ثم الثانية حتى كدت أصل للثالثة واستوقفتني عيناي مستئذنة تخبرني بأنها لمحت شيئاً. ربما ما كان على رؤيته!
كنت أقف مختبئة خلف نهاية الخزانة أنظر إلى الواقف على بعد أمتار قليلة.
لم أمنع نفسي من الشعور بالدهشة والقلق وأنا أرى ظهره الذي تملؤه العلامات الحمراء وكأنه قد تعرض للتعذيب قبل أيام فقط! بل وكدمات زرقاء داكنة وبعضها تحولت إلى لون أخضر دلالة على بداية زوالها!
أعرفه جيداً.
لا يجب أن أستدير لأكتشف هويته. هذا الشعر العسلي والقامة الطويلة والهالة ذات الهيبة الخاصة معروف صاحبها جيداً!
ما الذي يفعله!؟
رأيته ممسكا بيده قارورة ماء مثلجة، كان يضع الماء البارد على قطن سميك ويمرره على ظهره بصعوبة ولم تفتني التأوهات الخافتة التي فلتت منه ومن الواضح انه يحاول الحفاظ على هدوئه!
من فعل أمراً كهذا! شخص ثري مثله لماذا يتعرض لهذه الضربات بحق الإله؟! من الواضح أنها مؤلمة جداً وتركت أثراً عميقا بداخل جلده. من المستحيل ان تختفي هذه الآثار ولو بعد عشر سنوات!
لا أدري كم طال الوقت وانا أسمع خفقات قلبي القوية والتي أوشكت على ان تبدو كصوت قرع الطبول! حتى وجدته يرتدي قميصه ويغلق الأزرار.
أسرعت اختبئ واخطو بحذر مبتعدة قبل ان يتحرك ولكن.
ما هذا الصوت!
يوجد شخص. بل اثنان. لا. ثلاثة وأكثر!
يوجد من دخلوا إلى غرفة التبديل! ما الذي يفعلونه بحق الإله؟!
آه. لقد كذبت تلك اللعينة. يبدوا أنه يوجد حصة رياضية وأتى الطلاب حتى لا يتأخروا وهم بلا شك فريق السلة فهم الملتزمون بأوقاتهم دائما!
تراجعت للخلف خطوات لم أستطع اخفاء الخوف والتوتر فيها ولكنني توقفت ما ان اصطدم ظهري بشيء ما لم يكن خلفي للتو!
استدرت بشيء من الهلع لأرى صدره أمامي! رفعت رأسي نحوه لأجد عيناه العسليتان تحدقان إلى ببرود وجفاء معتاد!
حسناً. أنا في ورطة!
لقد سمعت الجميع يقول بأنه لا داعي للتورط معه في أي شكل من الأشكال!
انتفضت عندما اقتربت الأصوات أكثر واصحابها يضحكون بسخرية الفتية الخشنة المعتادة ولكنني دهشت كثيرا حين امتدت يده ليمسك بيدي ويجرني خلفه نحو المكان الذي كان يقف فيه للتو، فتح إحدى الخزانات والتي لمحت اسمه عليها كريستوبال إفليك . دفعني بداخلها بخشونة وهمس بصوت أجش: تجرَأي وافتحي فمك بحرف واحد.
أغلق الخزانة تحت وطأة صدمتي وعدم استيعابي!
ما هذا!
هل. ساعدني أم. أم ربما يخشى حدوث سوء فهم عندما يجدونني معه وحدنا في هذه المكان! ولكن. ليس وكأن سمعته تهمه فهي في كل الحالات سيئة!
بإمكاني مراقبة الوضع من هنا، أستطيع رؤية الجهة المقابلة لي بفضل الفتحات الطولية على باب الخزانة.
وجدته يخرج هاتفه من جيبه ويعبث به بوجهه البارد الذي مللت برودته ورغبت فقط في تخيل كم سيبدوا مختلفا عندما يبتسم او يضحك!
من الصعب الإنكار فهو ليس جذابا وحسب. إنه وسيم وله هالته المميزة ومع ذلك هو الأسوأ سمعة في هذه المدرسة! يا تُرى ما الذي حدث تحديداً قبل التحاقي بها؟!
اجفلت عندما ضحك احد الفتية وشعرت بأن اعدادهم قد زادت وبات المكان مكتظا بل وأن بعضهم قد لمحته يغير ملابسه أمامي مما دفعني لأغمض عيناي بسرعة!
كان كريستوبال لا يزال جالسا على المقعد الطويل وينظر لهاتفه حتى سمعت همسات أحدهم: شخص مثله لا يجب ان يكون له خزانته الخاصة في غرفة التبديل. إنه يتعمد عدم اللعب في أي أنشطة ويتسبب بخسارة فريقه دائماً.
أردف بسخرية: هل تتذكران ذلك الفريق الذي سحقناه بداية العام الماضي؟
اتى صوت الآخر محذرا: اصمت أيها المتهور يمكنه سماعك! أنت تعلم ما حدث لجماعة ليو عندما خاضوا شجارا معه ليتعرض صديق ليو المقرب لكسر في مرفقه. لقد تم إيقافهم عن الدراسة ونقلهم إلى مكان آخر لذا لا تحفر قبرك بنفسك، لديه عائلة ذات شأن كبير ولن تكون بخير لو تورطت معهم.
لمحت كريس ينظر إليهم بطرف عينه بهدوء ثم عاود ينظر لهاتفه، أسرعوا يلتزمون الصمت وبعضهم قد غير مجرى الحديث، دقائق حتى خرجوا واحداً تلو الآخر وبات المكان هادئاً.
وقف مبتعدا عن المقعد واضعا الهاتف في جيبه وتمتم: لستِ صماء من الواضح بأنهم غادروا.
فتحت الباب وخرجت اتنفس بعمق وعندما استوعبت امر ابتعاده اسرعت اتبعه قائلة: مهلاً!
وقفت خلفه مباشرة فوقف دون ان يستدير لأقول بهدوء: شكراً جزيلاً على.
لم أفعل هذا لأجلك. أنا في غنى عن الإشاعات التي ستمتد لسبعة عقود لو رأى أحدهم تواجدك في مكان كهذا.
ومع ذلك شكراً.
لم يعلق او يلتفت وإنما اكمل طريقه ولكنه سرعان ما وقف مجددا والتفت نصف التفاته نحوي ببرود: لا تتحدثي معي. أكره أمثالك الضعفاء.
لم تتسع عيناي او أدهش بما قاله، فهو لم يقل شيئا جديدا او خارجا عن المألوف. وبالرغم من هذا فهي حقيقة لا أود سماعها أو ان يقوم أحدهم بتذكيري بها.
وجدت نفسي أتساءل: هل أنتَ قوي إذاً؟
بدى أن السؤال لم يكن متوقعا ولا سيما حين ارتفع حاجبه الأيسر!
أسرعت أوضح: انت تجلس على المقعد المجاور لي. ولكنك لم تتفوه بحرف واحد معي سوى الآن.
ما علاقة هذا بسؤالك؟
ألا تتساءل عن سبب وجودي هنا؟
تجيدين المراوغة.
قالها واستدار بغية اكمال طريقه ولكنني همست أستوقفه: كريس.
حين لم يلتفت نحوي قلتُ بهدوء: هل أستطيع اختصار اسمك؟ لديك اسم طويل ومن المتعب التفوه به كاملاً لذا تساءلت لو كان بإمكاني ا.
ارتفع جسدي ووقفت على اطراف اصابعي حين رفع ياقة قميصي ليقربني لوجهه متمتما بهدوء: من تظنين نفسك؟ اعتقدت بأنني قلت للتو ألا تتحدثي معك. ألم أقل بأنني أكره أمثالك الضعفاء؟
ولكننا متشابهان.
قلتها باستغراب وبساطة فضاقت عينيه وبدأ الإنزعاج يأخذ مجراه لأول مرة على ملامحه، ترك ياقتي وقد دفعني بخشونة: لا تجرؤي على تشبيهي بك.
كلانا يتعرض للمضايقات والتنمر.
قلتها مرتبة الزي المدرسي الذي أفسده وأردفت: الفرق أنني استجيب بينما يوجد حولك لوحة يُمنع الإقتراب. نبدو كبركتين إحداهما يلقي الناس فيها الحجر كما يرغبون والأخرى حولها سياج لا يستطيع الناس الإقتراب منه ويتعرض الشخص للمساءلة القانونية ويُرغم على دفع غرامة. الا تعتقد بأننا متشابهان؟
تبدين ثرثارة بالرغم من قلة حديثك بالفصل. ابحثي عن شخص مناسب تثرثرين معه يا هذه.
انت تعلم بأن اسمي تيا.
لا أريد تذكر اسمك لأنني لن أضطر لإستخدامه.
تنهدتُ بعمق ونظرت للمقعد لأتجه نحوه وأجلس متمتمة: ألا تريد سؤالي عن سبب تواجدي هنا.
لو كنتُ مهتما لفعلت.
تلك المجموعة أرغمتني مجدداً على فعل أمور أكره القيام بها.
لا تسردي شيئاً لستُ مهتما بتفاصيل حياتك البائسة.
انا لست من ذلك النوع. ليس وكأنني سأبكي لأنني أُرغمت على القيام بأشياء معينة. ولا حتى ملامحي قادرة على رسم التعابير الحزينة الخائفة ومع ذلك بدوت لهم وجبة دسمة! الا تعتقد الأمر غريباً؟!
أضفت بحيرة: فكرت في الأيام الماضية إيقافهن عند حدهن ولكنني أعلم جيداً بأنني لن أستطيع. لذا فكرت قبل لحظات فقط. ماذا لو نبدوا أنا وأنت مقربان؟ الا تعتقد بأنهم سيخشون الإقتراب مني حينها؟!
لا تقحميني في يأسك هذا. يدهشني كونك ثرثارة إلى هذا الحد.
قالها وهو يجلس إلى جانبي في نهاية المقعد منحنيا للأمام ممسكا بمنديل يجفف به الماء من يده فنظرت إليه لأقول مفكرة: يمكنك حمايتي أليس كذلك؟ اسمعهم دائماً يتحدثون عنك بنبرات خافتة حريصة ولكنهم يخشون التحدث إليك مباشرة أو الإقتراب منك. لو رأى الجميع أننا مقربان فلن يتجرأ أحدهم إلى إزعاجي كذلك!
لهذا أكره من هم على شاكلتك.
أردف يرمقني بطرف عينه بإزدراء: لو لم يكن هناك ضعفاء بائسون مثلك لما وُجد من يزعم من الحمقى أنهم مسيطرون. لتختفي رجاءً.
تمتمتُ احرك قدماي على الأرض بملل: لو لم تحمل اسم عائلتك لكنتَ أسوأ حالاً مني ربما. أو ربما كان في الحقيقة الوضع أفضل بالنسبة لك لو لم تحمل اسمهم، لديك ما يدعمك حتى بدون اللقب الذي يخشونه، يمكنك مواعدة أي فتاة تريد. يمكنك لفت الأنظار البعيدة، في الواقع انت لا تبدوا راضيا بلقبك هذا.
اعتقد بأنني أهدر وقتي.
وقف بضجر فهمست: لقد رأيت العلامات على ظهرك.
نظر إلى بعين ضيقة وبدى وكأنه سيحذرني او يهددني فسبقته قائلة بهدوء: هذا ما دفعني لأسألك إن كنت قوياً. أخبرتك بأننا متشابهان! ومع ذلك تواصل نعتي بالضعيفة. أين كانت مبادئك عندما حصلت على هذه العلامات؟
أنصتِ. أنا لن اتغاضى عن قولك وهراءك لأنك فتاة. لو واصلتِ التحدث إلى بهذه الطريقة فستدفعين الثمن غاليا و.
بالمناسبة أبي يعمل في شركة عائلتك.
عقد حاجبيه وبدى عليه نفاذ الصبر فتنهدتُ بدوري: يبدوا محبا لعمله وراضيا عنه كثيراً. هل سترأس الشركة عندما تنهي دراستك؟
ألا تعتقدين بأنك تتشعبين في المواضيع كثيراً؟
أنتَ محق. ربما لأنني لم أعتد الثرثرة مع أحد مسبقاً. أعترف بأنها المرة الأولى لي.
وستكرهين الفكرة برمتها وستكون الأولى والأخيرة بالنسبة لكِ.
لا أظن! أشعر بالتحرر كثيراً. انا واثقة بأنني سأعيد الكرة معك، لا أدري لماذا يخشاك الجميع فأنت تبدو عادياً وتنتزع الكلمات مني دون إرادتك.
ما فاجأني في هذه اللحظة هو اتساع عينيه العسليتان للحظة حتى أسرع يستدير ويخرج من الغرفة دون كلمة!
زفرت بلا حيلة وانا انظر إلى قدماي.
لم أكذب في حرف واحد للتو! شعرت براحة غريبة وانا اثرثر معه، لم أكن أحاول استفزه بأسئلتي وإنما شعرت فقط برغبة في ابداء ما يجول في خاطري معه.
ولكنني عازمة على التقرب منه، أريد الحصول على حمايته. لا يجب ان يستمر الوضع هكذا باستخدامي من قبل تلك المجموعة كفأر تجارب أو طُعم يضعنه أينما أردن.
الآن بعد هذه الدقائق أنا أعلم جيداً بأننا متشابهان كثيراً. على أن أقنعه. سأحاول جاهدة.
في النهاية عدت للبحث عن خزانة ديريك ووجدتها، اخذت منها الرسالة واسرعت ادسها في جيبي واخرج من الغرفة بحذر.
من الجيد ان الممر كان خالياً، بحثت بعيني في الجهة اليمنى لأرى المجموعة يضحكن ويتحدثن بمرح وما ان رأينني حتى اشارت لي زعيمتهن بالإقتراب بثقة.
فعلت ذلك ووقفت امامها امد الرسالة. هذه لم تكن الحيلة الأخيرة التي استخدمنها لتحريكي كدمية لا حول لها أو قوة.
كما أنني بعد هذا اليوم حاولت جاهدة التقرب إلى كريس، ومع ذلك لم يتحدث معي بحرف واحد، بل أنني كنت اقوم بتقريب طاولتي إليه ولكن هذا لم يأتي بنتيجة.
كنت اعد الطعام في المنزل واحضر لنا نحن الإثنان علبتان ولكنه لم يأكل منها أو يلتفت إلي، بل وأنني كنت انتظره عند بوابة المدرسة صباحا. وأيضا لا فائدة.
حتى لجأتُ لمحاولة قضاء وقت الإستراحة معه ولكن محاولاتي باءت بالفشل.
بل ان العام الثاني قد مضى بلا أي جدوى أو منفعة لي واستمرت مضايقات الفتيات وانتابني شعور انني سأبقى أسيرة لديهن حتى أبلغ السبعون من العمر!
ها نحن في العام الأخير من المرحلة المتوسطة، تحديدا في الفصل الثاني.
وهذه المرة كنت أجلس أمام كريس على المقعد قبل الأخير.
نظرت إلى الساعة في معصمي. على أن أذهب في نهاية الدوام إلى لقائهن في الساحة الخلفية. لا أدري ما الذي سيُطلب مني هذه المرة!
بدأت مؤخرا اتخيل نفسي أرفض طلباتهن واقف لهن بالمرصاد لاتخيل نفسي قد تحررت ولكنني سرعان ما التمس الواقع واتخيل ما قد أجنيه من فعلتي!
في نهاية الدوام وقبل ان ينفد الوقت اسرعت اقف متجهة إلى الساحة الخلفية واخذت معي حقيبتي لأغادر لاحقا دون الحاجة الى العودة إلى الفصل وأخذها.
في الواقع لم انتظرهن كالعادة فلقد كن يقفن هناك مسبقاً، ولم يكن العدد مكتملاً بل يوجد منهن ثلاثة فقط واثنتان ليستا هنا.
لم أبالي وإنما اقتربت متسائلة بهدوء: ما الأمر؟
نظرت إلى احداهن متكتفة بحزم: أليس الأمر واضحاً؟ صديقتانا ليستا هنا!
نعم هذا واضح. وما المفترض أن يعنيه هذا؟
تدخلت الزعيمة المدعوة كيتي بنبرة هادئة وهي تبتسم ابتسامتها المزيفة: لقد تورطتا المسكينتان في المشكلة التي وقعت في الأمس مع فتيات المرحلة الأولى. اتصدقين يا تيا بأن الأستاذ اتهمهما بضرب أؤلئك الفتيات؟
لم أعلق وانما تساءلت في نفسي متى سينتهي هذا الحوار وإلى أي نتيجة سنصل.
ظلت تحاول التظاهر بالإستياء الشديد وهي تشرح معاناة الفتاتين وإيقافهما عن الدراسة أسبوعاً كاملاً لو لم نصل إلى الحل حتى اتت جملتها وهي تشيح بوجهها بحزن: ولكن لا داع للتفكير العميق طالما انتِ موجودة يا تيا.
ارتفع حاجبي الأيسر: أنا؟!
تنهدتْ كيتي واقتربت مني لتضع يديها على كتفي وتحدق إلى مباشرة: يجب ابعاد التهمة عنهما. ويوجد طريقة واحدة فقط لأجل بلوغ هدفنا.
ألا وهو؟
تلى سؤالي صفعة قوية تلقيتها واطاحت بي أرضاً!
تسمرت في مكاني على الأرض ورفعت يدي نحو وجنتي بدهشة احدق إليها بعين مذهولة!
هل. صفعتني للتو بحق الإله؟! لطالما تعرضت للمضايقات والتسلط ولكن أن يتم ضربي!
ارتجفت يدي التي ارفعها على وجنتي التي باتت تحرقني وتؤلمني لتقول بدورها منحنيه واضعه يديها على ركبتيها بسخرية: لو قمنا بتزيين وجهك قليلاً سيكون الأمر مقنعا. ستذهبين وتخبرين الأستاذ بأنكِ من افتعل ذلك الشجار والدليل هو وجهك اللطيف المنتفخ. أليس الأمر سهلاً؟
ما الذي. تقولينه! الستِ تبالغين كثيراً؟!
بدلا من الحصول على جواب حرفي تلقيت جواباً أقوى وأنا اتعرض لصفعة أخرى على وجنتي نفسها!
لم تكن كيتي وإنما صديقتها. الألم بات مضاعفاً!
اتسعت عيناي عندما أخرجت صديقتها الأخرى مشرطاً من جيبها مبتسمة: لا تقلقي لن أبالغ، لا نريدك طريحة مضجرة بدمائك وإنما سأضع بعض الرتوش واللمسات اللازمة. عليك أن تكوني مقنعة بالنسبة للأستاذ.
هاه!
بلا شك فقدن عقولهن! لا يمكنهن أن يصلن إلى هذه الدرجة من الحقارة والدناءة! لا يمكن.
لا أنكر ان الخوف في هذه اللحظة قد سيطر على وجعلني عاجزة كمن لو كنت مكبلة بالقيود!
انحنت فوقي واجبرتني على الإنبطاح أرضا ومدت يدها التي تمسك بالمشرط نحوي حتى…
تقضون وقتاً ممتعاً بلا شك.
قيلت بصوت هادئ ولم تخلو نبرته من السخرية الجافة.
رفعن الثلاثة رؤوسهن لمصدر الصوت والذي عرفته فوراً. إنه هو!
التفتُ أنظر إليه لأجده يقترب واضعا يديه في جيبه وينظر إلى كيتي بهدوء.
بدى الهواء أثقل بالنسبة لهن والجو مكهربا مليئا بالشحنات السالبة، كيتي بدورها همست لصديقتيها بحذر وصوت خافت: لننسحب الآن.
مع انها قالتها بحذر ووقفت صديقتها بالفعل إلى أنه قد وصل إلينا ولا يزال يحدق إليها، أسرعت كيتي تقول مبتسمة بلطف إلي: تيا هل أنتِ بخير؟
نظرتُ إليها ببرود وانا اعتدل على الأرض ولكن دهشتي لم تكن أقل منهن عندما امتدت يده ليرفعني عن الأرض ويوقفني إلى جانبه!
نظرت نحوه بعدم استيعاب وكذلك لمعت أعينهن بالإستنكار الشديد!
ما الذي يفعله كريس! ألم يقل بأنه لا ينوي التدخل أو مساعدتي في أي شيء؟ ظل يقول بأنني مزعجة ولن يهدر وقته معي!
عاود يضع يديه في جيبه متمتماً ببرود: استخدام ادوات حادة كهذه في المدرسة. الا يعد ممنوعاً؟
توترت تلك الفتاة ونظرت مستنجدة إلى كيتي التي اجابت عوضا عنها وقد تغيرت ملامحها للحذر أكثر: لقد استعرناه من المختبر. انتهى الدوام وسنعود لبيوتنا. لنذهب.
تحركن بالفعل خطوات معدودة قبل ان يستوقفهن صوته متنهداً: لا تهمني أمور الفتيات. ولكنني بلا شك أكره تكرار حديثي أكثر من مرة واحدة ولو اضطررت لذلك فلن تكون نبرتي هادئة أبداً.
تسمرن في مكانهن يحدقن إليه بترقب وتوتر واضح عدى كيتي التي تحاول جاهدة تصنع الهدوء بينما أضاف بعين عسلية تلمعان بالتهديد: نحن نتواعد. وأي ضرر قد يصيبها فهو ضرر موجه لي شخصياً. انتن في غنى عن الغرق في بحر من المشاكل. ساتجاهل ما رأيته للتو ولكن لن تتمنوا تكرارها مجدداً.
اتسعت عيناي بذهول مرددة بهمس: ن. نتواعد!
تجاهلني ولم ينظر نحوي بل شهقت كيتي بعدم تصديق: ماذا! انتما. تتواعدان؟!
صاحت الأخرى بدهشة: مستحيل!
زفر بشيء من الضجر المكبوت وسمعته يهمس بصوت لا يُكاد يسمع: لا تعتقدي بأنني ساعدتك بدافع الشفقة. أريد أن أتخلص من ازعاجك اليومي. ما اريده في المقابل هو ان تتوقفي عن مضايقتي وحسب.
لم أشعر بنفسي وانا ابتسم محدقة إليه وهو لا يزال ينظر إليهن.
هل هذا هو مفهوم الشعور بالأمان والسعادة؟
اشعر بالسكينة التي هبطت على فجأة! وكأن الطمأنينة تحيط بي من كل جهة، بل وكأنني الآن حرة أستطيع السير على قدماي ولا آبه بمن حولي!
لا أدري كيف ولكن يداي قد امتدتا لأحتضن ذراعه بقوة، لم يظهر ردة فعل ولكن شعرت بتصلب ذراعه دلالة على رغبته في ابتعادي.
تجاهلت الأمر وقلت بهدوء: لم أرغب في كشف علاقتي به. ولكنها الحقيقة، نحن نتواعد منذ بداية هذا العام وسنتخرج معاً ونلتحق في المدرسة ذاتها سوياً.
احتدت عينا كيتي بشدة وظهرت عروقها التي ابدت لي كم هي تحاول كتم غيضها وغضبها ولكنها في النهاية تراجعت بخطى صغيرة للوراء وسرعان ما استدارت مغادرة وقالت بحدة: لنذهب.
تبعتها الأخرى ثم صديقتها بخطوات واسعة سريعة.
عندما اختفوا عن أعيننا انتزع ذراعه بحزم والقى على نظرة جفاء مشمئزة وهمس مبتعداً: لا تنسي أسبابي. أريدك ان تتوقفي عن ازعاجي وحسب.
ولكنني لحقته وفاجأته حين عاودت احتضن ذراعه بقوة.
ما الذي تفعلينه!
قالها باستنكار شديد، أغمضت عيناي وسمحت لمشاعري بالتشكل لتأخذ هيئة الحروف المندفعة: انا ممتنة لتدخلك قبل قليل. من كان يعلم ما قد يحدث لي حينها! وبشأن حيلتك تلك أنا شاكرة لما قلته! رأيت اليأس والغيض في أعينهن.
يكفي ابعدي يديك عني.
حاول ابعادي عنه ولكنني أبيت ذلك بل أنني ابعدت يداي عن ذراعه وبأقل من الثانية عانقته بقوة دافن رأسي في صدره.
الأمان الذي أشعر به الآن. لا أذكر بأنني قد سبق وشعرت به من قبل في حياتي أبداً!
الشعور الذي ينتابني مشابه لفتاة كادت تغرق ووجدت لوح من الخشب لتطفو فوقه وتنفد بجلدها من الموت! لا أتخيل هذا فعيناي تدمعان الآن ولم أستطع السيطرة على نفسي.
لن أبالغ لو قلت الآن بأنه ثاني عناق أحضى به من بعد أبي الذي أكره ان اوقعه في مشاكلي الخاصة او اشغل تفكيره. يكفي أنه يعمل جاهدا لأجلي ولأجل استقرارنا.
أعتقد بأن هذا يكفي.
لم اهتم بجملته المتبرمة تلك بل واصلت إغماض عيناي بإسترخاء هامسة: لنكن صديقان.
ابتعدي عني. لم أنسى الهراء الذي تفوهتِ به للتو، لماذا كذبت بشأن التحاقنا بالمدرسة ذاتها بعد التخرج بحق الجحيم!
رفعت رأسي دون ان ابتعد عنه لأنظر إليه: لأنني سأتبعك.
ظهرت تقطيبة بين حاجبيه ثم قال بهدوء محدقا إلي: أنتِ أوقح وأجرأ فتاة رأيتها.
إن كنتَ تقصد عناقي ووجهي القريب فلا تقلق. إنه عناق أخوي، أنا جادة سأتبعك أينما تذهب.
أخذ شهيقا وانتزع نفسه مني بصعوبة فنظرت إليه بترقب وحيرة.
رتب مظهره ومرر يده في شعره وتمتم دون ان ينظر نحوي: لا تجرؤي على إزعاجي بعد هذا اليوم. اتركي مسافة كافية بيننا واريحيني من ثرثرتك.
لا أستطيع.
زفر وابتعد عني لأتبعه قائلة بتفكير: أتعلم. يبدو الأمر بالنسبة لي وكأنني فتاة ترعرت وكأنها الابنة الوحيدة ثم اكتشفت ذات يوم أن لها شقيقاً! لما لا نكون إخوة إن كنت ترفض صداقتي.
اغربي عن وجهي.
صدقني سيكون الأمر أفضل مما تتخيل! سنخرج معاً، ونتحدث بشأن أمور كثيرة، سنتبادل حماية بعضنا البعض. سنجتهد في إبقاء هذه الصداقة أو الأخوة حتى نتخرج ونعمل.
استرسلت مبتسمة بهدوء: سنصنع علاقة متينة وستتوطد مع الأيام، نحن متشابهان يا كريس!
وقف فجأة فتوقفت أيضا ولا أزال أبتسم.
استدار نحوي وظل ينظر إلى بغيض قد استنكرته. طال الصمت حتى همس: لا أريد أصدقاء، ولا أريد إخوة. كنتُ أملك كل هذا مسبقاً ولكنني لم أعد أفكر في إمتلاكه مجدداً لذا فلتمضي بعيدا عني وحسب وأريحيني. لا تجبريني على اتباع حيَل ستندمين عليها.
كان. يملك أخوة أو أصدقاء؟ ما معنى هذا لم أفهم!
ولكنني سمعت بأن لا اخوة له! كما لم يسبق له وقد بنى علاقة صداقة مع شخص ما. ما الذي يعنيه إذاً؟
في الواقع تهديده هذا لم يغير شيئا او يرغمني على العدول عن قراري في كسبه كصديق أو أخ مقرب. بل أن الأيام التالية لم تخلوا من ثرثرتي فوق رأسه كعصفورة مزعجة تحوم فوقه، رأى كل من في الفصل او الفصول المجاورة اننا نخرج من البوابة معاً، نجلس بجانب بعضنا البعض، نتحدث ونتناول الطعام، ولكن ما كان يحدث خلف كواليس هذه الأحداث هو تحرك شفتاي أنا وحدي فقط.
فلقد كنت من تتحدث وتأكل وتثرثر وتجلب طاولتها إلى جانبه. لا يزال يصدني وكأنه سدٌ صنع من النحاس المذاب! ليس سهلاً أبداً.
بات البعض يتحدث عن كوننا مقربان، صديقان، وحتى انتشرت اشاعة كوننا نتواعد مما جعلني سعيدة بإجباره على الخضوع للأمر الواقع.
ولكن.
لقد خاب أملي كثيراً حين لم يسدي أي أهمية لكل هذه الأقاويل من حولنا.
بل اننا تخرجنا وحان وقت الإلتحاق بالمرحلة الثانوية أخيراً.
لم يتفاجئ بوجودي في المدرسة ذاتها وبالفصل ذاته معه تحديداً فهذا ما كنت مستمرة في إخباره به دائماً.
وفي هذه المدرسة كانت الوجوه المألوفة بالنسبة لنا نادرة جداً.
فمعظم من نعرفهم التحقوا بمدارس أخرى، على عكس هذه المدرسة الخاصة ذات الرسوم الدراسية العالية باهظة الثمن.
تمكنت من أخذ منحة دراسية بفضل المعدل العالي الذي حصلت عليه، ولا يهمني كم يصدني كريس فبالرغم من كل هذا. أنا أشعر بالأمان إلى جانبه حتى لو رأيته يمشي من بعيد فهذا يكفيني.
بالمناسبة في هذه المدرسة أيضا يعتقد الكثيرون أننا نتواعد، ونظراً للوجوه الغير مألوفة هنا بات كريس في البداية ملاحقا من الفتيات من جميع المراحل.!
انها خطوة إيجابيه في حقه ولكن الغريب انه لم يلقي بالاً لكل هذا!
ما الذي يفعله او يفكر به؟ لا أحد هنا يعرفه فلماذا لا يستغل الفرصة؟!
هذا ما واصلت التفكير بشأنه طوال الوقت.
أعادني إلى أرض الواقع تمتمة شارلوت الساخرة وهي تستلقي على الاريكة الطويلة منصتة إلى بإندماج: بربكِ! من التي سترغب في مواعدة نرجسي عاشق لذاته مثله.
لا تقاطعيني!
أردفت بحيرة يجوبها شرود عميق: كل هذا يبدو وكأنه قد حدث في الأمس فقط.
لا أنكر بأنني دُهشت كثيرا ولكن. أن تقومي بإذلال نفسك لشخص مثله طوال هذه السنوات أمر لا يمكنني قبوله واستيعابه. اهم محرك للإنسان على هذه الأرض هو الكبرياء ولكنك تخليت عنه تماماً!
لا شأن للكبرياء فيما حدث. ولا يجب اقحام الكبرياء في كل شيء كما تعتقدين. عقلك الصغير لن يستوعب هذا.
مطت شفتيها وبدت تفكر حتى همست وهي تنبطح على بطنها بشرود: من كان ليتخيل ما تقومين به! كان بإمكانك الحصول على الأمان من شخص آخر. ولكن أن يكون هذا الشخص هو كريس فأنا لا أزال أرغب في العودة للزمن وأرغمك على التفكير بعقلانية.
الن تطبقي فمك؟
حسناً حسناً. أكملي.
تنهدت بعمق وغيرت وضعيتي لأفرد قدماي اسندهما على الطاولة أمامي.
بقيت أسيرة للتفكير. عاجزة عن إيجاد مدخلا لصده الدائم لي وإن كان في الآونة الأخيرة بدأ يستجيب بنسبة ضئيلة.
بعد ذلك بفترة طويلة تماديت أكثر لأرغمه على الإستسلام، فما كان مني سوى البحث عن عنوان منزله وزيارته بنفسي هناك.
لن أسرد دهشتي بضخامة المنزل أو حياة الرفاهية التي كادت تُسقط فكي على الأرض آنذاك.
ولكنني سأسرد الأهم في ذلك الوقت.
أتذكر جيداً أنني ذهبت إلى هناك للمرة الأولى عند الحادية عشر صباحاً قبل الظهيرة، وهناك استقبلتني السيدة أولين التي كانت غير مستوعبة أو قادرة على تصديق جملتي التي أجبتها فيها على سؤالها.
من تكونين يا ابنتي؟
اجبتها بهدوء: صديقة كريس في المدرسة. هل هو موجود في المنزل؟
اتسعت عينيها تنظر إلى بتمعن شديد: صديقته!
أومأت برأسي فما كان منها إلا ان تطلق شهقة استغراب شديدة وتقترب وكأنه ترغب في الإستمرار بالتحديق إلى عن قرب أو تجبر نفسها على تصديق ان ما يحدث هو واقع وليس وهماً!
استنكرت تصرفاتها بشدة آنذاك، ولكنني وجدت منها ترحيبا حاراً جداً بل وبدت تشتعل حماساً وهي تقودني للإنتظار في غرفة الجلوس العلوية.
وبما أن زيارتي حينها كانت في نهاية الأسبوع، فلم يكن السيد ماكس أو والده إفليك في العمل.
وهذا ما دفع السيدة أولين لإخبارهما بتواجد فتاة تدعي أنها صديقة كريس.
لن أصف ذهولي بمجيئ الإثنان ودخولهما غرفة الجلوس بعدم تصديق!
ظل كل منهما يطرح الأسئلة، وكأنهما يحاولان تصديق الأمر بشتى الطرق مما جعلني أيقن بأن الصداقة ليست موجودة في قاموس كريس وهذا ما دفعهم لمحاولة الإستيعاب.
لقد كان جده إفليك رجلاً حازما بعض الشيء على عكس السيد ماكس الذي بدى دائما لطيفاً، أخبرتهما ان أبي يعمل في الشركة وهذا ما جعل السيد ماكس يتعمق في حديثه معي ويصف لي كم ان اسم والدي في العمل يترك دائما بصمة تعبر عن النشاط والشغف بحب العمل.
ولكن حديثنا انتهى فور دخول كريس للغرفة.
وكالعادة انتابني الشعور المعتاد ما أن رأيته. الأمان الذي يسيطر على كل جوارحي بالرغم من النظرة المنزعجة الحادة والمتوعدة التي القاها علي.
وعندما فعل هذا نظر جده ووالده إلى بعضهما وخرجا من الغرفة.
وأول جملة تلقيتها كانت: ما الذي تفعلينه هنا بحق الإله، الا ترين بأنكِ تجاوزتِ حدودك كثيراً!
تساءل بحزم يجوبه غضب، ولكنني أجبته بهدوئي المعتاد: ما الذي أفعله! أزورك في منزلك. اليس أمراً عاديا بالنسبة للأصدقاء؟
لسنا كذلك! توقفي عن فرض نفسك واتركيني! إن كنتِ ترغبين في الحصول على الحماية فسأفعل ولكن لا تقتربي مني أكثر.
منزلك رائع!
قلتها أتأمل الغرفة من حولي بإعجاب، تقدم نحوي ووقف أمامي لتحتد عيناه: لقد بدأ صبري ينفذ. احتملتك عامين ولا يمكنني الصبر أكثر! أنتِ تقودينني للجنون يا تيا.
ابتسمت متكتفة: يوجد تقدم جميل وواضح. لقد تفوهت بإسمي الآن لأول مرة منذ عامين.
هذا لا يعني التقدم وإنما وقوفي على شفى حفرة من اتخاذ خطوة ستندمين عليها.
والدك وجدك لطيفان جداً! لقد رحبا بي جيداً. تلك السيدة مدبرة المنزل أيضاً! يبدو أنها تحبك وسعيدة لأجلك.
احكم قبضة يده بقوة محاولا تمالك نفسه بصعوبة وقبل ان يفتح فاهه ليتحدث طُرق الباب.
ثوان فقط حتى فُتح لتطل منه سيدة حبستْ أنفاسي بروعة ملامحها وجمالها الفائق! ولم يكن الامر بحاجة للتفكير فخمنت بأنها والدته نظرا لتشابههما الكبير. لون الشعر والعينين وحتى الإطلالة المميزة!
وقفت دون شعور انظر إليها وهي تقترب مبتسمة بلطف، وحينها لاحظت توتر كريس الذي كان واضحاً مما جعلني أغرق في الحيرة!
اعتقد بأنها المرة الأولى التي يبدو فيها مرتبكاً هكذا!
وحينها أجبرت على الشعور بالقلق. إن كان كريس قد توتر هكذا فهو بدوره يمحي بعضا من شعور الامان الذي كان يسيطر علي!
اقتربت المرأة بابتسامتها الجميلة التي تزين ثغرها لتقف أمامي أخيرا وتنظر إلى بحاجبين مرتفعان: أنتِ هي صديقة كريس؟ الجميع يتحدث عنك. من صعب تصديق هذا ولكن المنزل بأكمله يتحدث عنكِ الآن.
اتبعت جملتها بضحكة خافتة فابتسمت أمد يدي: مرحباً سيدتي. أنا تيا.
لقد أصبحت غنية عن التعريف منذ الزيارة الأولى. اسم لطيف.
صافحتني ثم نظرت لكريس بعينيها العسليتان الواسعتان الكحيلتان وطرفت بهما باستغراب لتتساءل: لما لم تخبرني يا كريس بأن لك صديقة جميلة مثلها؟!
مع ان السؤال كان عادياً جداً ولكنه اخفض عينيه وأجاب بهدوء غريب: لم أجد وقتاً مناسباً.
اتسعت عيناي غير مصدقة لكلماته! لماذا لم ينكر الأمر كالعادة!
سيطر على هاجس غريب وشعرت بالإرتياب قليلاً ولا أدري لماذا.
ظلت والدته تنظر إليه بينما يخفض عينيه حتى تقدمتْ نحوه ورفعت يدها تمررها بلطف على شعره متسائلة: ما الأمر؟
ولكنه انتفض قليلا وابتعد عنها بخطوات صغيرة ونظر إلى بنظرة كان مفادها أن أغادر، ولكنني استمريت في التحديق إليه بشيء من الإستغراب.
حينها تنهدت والدته بأسى: ألا زلت منزعجاً مني يا كريس؟
رمقها بنظرة سريعة ومرر يده خلف عنقه ليقول بنبرة هادئة لم يستطع إخفاء الإرتباك فيها: لستُ كذلك.
ولكنك تتجنبني منذ الأمس! لا بد وأنك لا تزال متضايقاً!
ما هذا الجو المشحون بينهما! لست حمقاء حتى لا أدرك مدى توتره ومدى محاولتها لإنتزاع الكلمات منه!
القى على نظرة خاطفة وهو لا يزال يرغب في مغادرتي.
حينها وجدت نفسي أتنازل وابتسم: حسنا إذاً أعتقد بأنه على العودة للمنزل الآن.
مهلا ً.
قالتها والدته مبتسمة: لا زال الوقتُ مبكراً!
ثم وجهت نظرها لكريس لتردف بهدوء: لقد كونت صداقة واخفيت الأمر عن والدتك. ما الدافع من كل هذا!
أمي. إنها مجرد زميلة في الفصل وحسب.
قالها بجدية فنظرت إليهما بحيرة!
حسنا. الأمور لا تبدو على ما يرام وربما يجدر بي المغادرة بالفعل.
هذا ما قررت ولكن نبرتها الحازمة ادهشتني وهي تقول مشيرة إلى موجهة حديثها له: مجرد زميلة؟ ومنذ متى يزورك الزملاء في المنزل! ماذا عن أوليفيا؟ هل حقا ستواصل تجاهل تلك المسكينة؟
لمعت عينا كريس بشيء من الحقد فجأة مما اجبر جسدي على الجلوس على الأريكة خلفي.!
ما خطبه؟
لما نظرة الحقد هذه!
ولكنني أُجبرت على الوقوف عندما قامت والدته بسحب يدي اليمنى قائلة بحدة: اتبعيني يوجد ما نتحدث بشأنه.
ولكنني توقفت عندما سحب يدي اليسرى وجذبني نحوه ليقول مهدئاً: هذا يكفي! صدقيني هي مجرد زميلة فقط وسترحل الآن.
ثم اجبرني على السير أمامه نحو الباب مسترسلا: ولن تريها مجدداً.
ولكنني شهقت بخفة حين استوقفتنا لتبعد يده عني وتشير إلى بغضب: انصت إلى يا كريس، ربما هي تحاول إستدراجك! أعرف مصلحتك جيداً. لا يجب أن تثق بها!
هاه!
همست بعدم فهم: أ. أنا؟
صرخت في وجهي بإنفعال: أنتِ تحاولين الغدر بابني! لن أسمح لكِ بهذا. سأكشف نواياك الحقيقية أمامه! انتِ تتظاهرين بصداقته لأسباب خاصة اليس كذلك؟ لن تحققي مرادك. كريس لن.
ولكنه وقف يحيل بيننا واضعا يديه على كتفيها: أمي رويدك! أخبرتك بأنها مجرد زميلة. دعيها وشأنها.
لا يا كريس! لا يجب ان تثق بها حتى لو كانت تدعي كونها زميلة! أنظر إليها جيداً.
اكملت هامسة بتحذير: ستحاول الظفر بك. أنا أفعل هذا لمصلحتك! لو حدث لك مكروه فستحزن أوليفيا كثيراً.
زفر كريس مهدئاً: أرجوكِ. يكفي!
ثم نظر إلى وأشار نحو الباب: عودي إلى منزلك.
لم أفكر في مجادلته او اتردد بل تحركت قدماي بالفعل نحو الباب ولكنها سحبت ذراعي بقوة آلمتني: إلى أين تظنين نفسك ذاهبة! تريدين الهرب حتى لا تُكشف حقيقتك هاه؟ اعترفي ما الذي تريدينه من كريس؟
نفيت برأسي بدهشة: لا أريد شيئاً! أ. أنا فقط.
عاود يتدخل يبعدني عنها وقد صرخ في وجهي: اخرجي من هنا ولا تعودي مجدداً.
ولكنها حاولت التقدم نحوي متملصة من يدي كريس بصعوية: ابتعد عني! دعني. سأساعدك فقط لا تقلق! انظر إليها يا بني هل تبدو محل ثقة! اتركني سأتحدث معها فقط.
بدأ صوتها يعلو أكثر فأكثر حتى فُتح الباب ليدخل السيد ماكس بحاجبين معقودان وهو ينظر إليهما وسرعان ما تقدم نحو زوجته ليتدخل عوضا عن كريس: عزيزتي اهدئي. لا داع للإنفعال.
نفيت برأسها ترفع رأسها نحوه: ماكس. إنها تحاول الغدر بابننا! م. مهلاً. بأي حق تلمسني أنتَ أيها المنافق الكاذب الأكبر! اتركني. انصت يا كريس. لا تثق بمن يدعي أنه صديقك! ستتم خيانتك ذات يوم صدقني! لا تثق بهم أبداً. ستتعرض للخيانة.
دفعت كلتا يديه ولكنه حاول جاهدا تهدأتها وحينها سحبني كريس من طرف قميصي بغضب يجرني خلفه لنخرج من الغرفة ثم ننزل الدرج ونخرج إلى الحديقة.
وقفت امام النافورة بتوتر شديد وارتياب ولم يسمح لي بالتقاط انفاسي اذ قال بسخط: لا تعودي إلى هنا مرة أخرى.
ك. كريس أنا.
أنتِ تحفرين قبرك بنفسك. إياك وان تطأ قدميك هنا هل تفهمين هذا؟
ثم نظر إلى شيء ما ولم يكن سوى ذراعي فنظرت بدوري أنا أيضا لأجد علامة حمراء تركتها يد والدته حين كانت تمسك بي بقوة.
اغمض عينيه ومرر يده على جبينه هامساً: انظري إلى حماقتك.
مررتُ يدي على العلامة متمتمة: أنا بخير.
بعدها افترش الصمت بساطه في المكان لأمضي هذه اللحظات بالتحديق إلى الأرض بينما كان مشيحا بوجهه بعيداً ينظر للبعيد بشرود.
ما خطب والدته؟ لماذا تصرفت بتلك الطريقة! انفعالها المفاجئ لا مبرر له!
ما الذي يحدث لكريس في هذا المنزل على أي حال؟
منذ ذلك الوقت الذي رأيت فيه الندوب على ظهره وانا اتساءل عمن قد يقوم بأمر كهذا.
لقد ظل دائماً يتفادى تبديل ملابسه أمام أي شخص، فمثلا الأولاد بعد الحصة الرياضية وبينما نجلس نراقب لعبهم يقومون بعد الإنتهاء بخلع قمصانهم بلا استثناء وكذلك في حصص السباحة على عكسه هو! إنه يحاول ألا يظهر تلك العلامات التي من المؤكد ان اثرها لن يختفي.
بدت عميقة وواسعة ومن الصعب ان تختفي.
يا تُرى هل يوجد ما يمكنني القيام به لأجله؟
بعد هذا اليوم لم يتغير أي شيء. لم يبدو أقرب لي مثلاً. ولم نتحدث بشأن ما حدث في منزله.
بل ومر عام كامل وها نحن في السنة الثانية.
وما حدث في بدايتها كان سبباً في تغير مجرى الكثير من الأمور وانفتاح ابواب مغلقة في وجهي.
توفي والدي قبل أسبوع ونصف.
تغيبت عن المدرسة طوال هذه الفترة، لم أتلقى زيارات من أي شخص يُذكر، فوالدي عاش ومات يتيماً. أما أمي فلا أعرف عنها شيئاً لأنها توفيت بعد ولادتي مباشرة ولا أظن بأن لها أقارب فهو لم يذكرهم يوماً أو يزورنا أحدهم.
أبي كان يعمل جاهداً لأجلي. كان خير صديق وشقيق كذلك.
وتأثري بموته لم يكن هيناً. فأنا كالجثة الهامدة اتحرك وكأنني جسد بلا روح.
هل هذه هي النهاية؟ أعتقد بأنني سألحق به. لن أتحمل حياتي دون أبي. لا يمكنني الوقوف بنفسي بينما يرقد تحت التراب.
لو خرج مبكرا في ذلك اليوم لما تأخر عن العمل واضطر للقيادة بسرعة.
لو كنتُ قد استيقظت قبله فقط لما حدث كل هذا!
المنزل صار موحشاً جداً. الصمت كان يتربع على عرشه وخلق الصدى المخيف من حولي.
لا يمكنني النوم أو القيام بأي امر آخر. أنا اتنفس وازفر الهواء فقط وهذا كل ما أجيد فعله.
آخر مرة تناولت فيها طعامي كانت في الأمس صباحاً. يا تُرى هل هي محاولة غير واعية مني للإنتحار؟ لا يوجد ما أفعله وحدي في هذا العالم!
كنت مستلقية على ارض غرفة الجلوس احدق إلى السقف بلا حيلة عندما رن جرس المنزل.
متى كانت آخر مرة سمعت فيها صوت الجرس! أنا حقا لا أتذكر.
وقفت ببطء أجر قدماي اللتان ترفضان السير.
فتحت الباب دون أن أكلف نفسي عناء السؤال عمن قد يكون الطارق. وكأنني لا أبالي بمصيري.
وجدت زوج من العيون العسلية ذات اللمعة الصفراء المميزة.
نظر إلى بتمعن فبادلته النظرات بلا تعبير أو جهد مبذول.
ما الذي يفعله هنا. ربما كلفته المدرسة مهمة القاء نظرة على للتأكد من كوني حية أو لا.
لماذا فتحتِ الباب دون التأكد من هويتي؟
سألني بنبرة هادئة تميل لنبرة الإستجواب، لم أجب وإنما استدرت على عقباي لأعود للإستلقاء على الأرضية أواصل تحديقي الصامت إلى السقف.
أغلق الباب وسمعت صوت أكياس فتذكرت أنه كان يحمل في يديه بعض الأكياس الورقية.
سمعت خطواته المقتربة وهو يضع ما في يده على الطاولة المقابلة لي.
اشتريت طعاماً.
كان لا يظل واقفا فارجعت رأسي للوراء قليلا أنظر إليه.
لأهمس أخيراً: لستُ جائعة. لماذا أنتَ هنا؟
أضفت انبطح على بطني وأغمض عيناي: أنتَ حتى لم تسأل عني منذ اول يوم تغيت فيه عن المدرسة. هل طلب منك أحدهم زيارتي؟
لماذا قد ألبي طلب أحدهم؟ لا أتذكر بأنني عُينت وليا لأمرك.
كيف علمت بعنواني.
ليس وكأنك تسكنين في منطقة معزولة او مجهولة. اعتدلي بسرعة.
ولكنني لم أفعل بل واصلت الإستلقاء على الأرض على بطني ولم ارغب في تحريك جفناي لأفتح عيناي.
ولكنني همستُ بضعف: لقد اشتقت إليه كثيراً. كان مرحاً أكثر مما تتخيل. لازال صوته يتردد في أذني حتى هذه اللحظة. بل وبدأت أرى أطيافا تحوم في المنزل كل منهم يرتدي قناعا يشبه وجه أبي. بدأت أصاب بالجنون بكل تأكيد.
سمعته يتحرك وادركت انه جلس على الأرض بجانبي فأكملت بنبرة واهنة: لقد كان يعني لي كل شيء. أبي هو عائلتي الوحيدة، كيف سأواصل العيش دونه! لا أريد حياة لا تشمله.
اليس من الطبيعي ان يموت شخصا ليولد آخراً؟!
تساءل بهدوء فنفيت وقلت بنبرتي السابقة: ولكن لماذا أبي؟ يوجد عوائل ضخمة. لماذا شخص مثل أبي لا عائلة له سواي يموت؟ ألا تدري كم كان ابي يشعر بالوحدة دائماً؟
ربما تخلص من الشعور بالوحدة الآن.
أنتَ قاسِ جداً. هل تعتقد بأنك تواسيني!
قلتها وقد اعتدلت وبدأ الغضب يجتاحني! كيف له ان يكون بهذا البرود بحق الإله؟
لستُ جيداً حين يتعلق الأمر بالمواساة. ولكنني أعرف جيداً أن الموت ليس الطريقة الوحيدة للرحيل. يوجد الكثيرون في هذا العالم امواتاً وهم على قيد الحياة.
عقدت حاجباي بعدم فهم فهمس مخفضا رأسه ويسند ظهره على الأريكة خلفه: أنظري إلى عقارب الساعة أيتها الساذجة. لازالت تتحرك، أخرجي رأسك من النافذة وسترين الناس لكل منهم وجهة خاصة. يوجد من يخرج في موعد ويوجد من يتجه لعمله أو لقاء أو حتى من خرج ليستنشق هواءً. يا تُرى هل منهم شخص واحد وصله ما تشعرين به؟
جحظت عيناي وسيطر على شعور غريب لأعتدل فوراً محدقة إليه بارتياب!
رمقني وقد رسم ابتسامة مضمرة فاجأتني: بينما تجلسين هنا مفكرة بتفاصيل لا داع لها. الحياة لا تتوقف لموت شخص حتى لو كان عزيزاً عليكِ. وقد يكون نهاية لحياة شخص وبداية لحياة شخص آخر. ما الذي ستفعلينه بعد الإضراب عن تناول الطعام؟ هل سيعود والدك؟
لم يعد لحياتي طعم بعد موته!
صرخت بتلك الجملة وقد بدأتُ أبكي وقد خرجت عن السيطرة فتنهد متمتما: ليس وكأنها قد كان لها طعم قبل وفاته. هل نسيت أي حياة كنتِ تعيشينها؟ دعيني أذكرك بأنكِ كنت تلك الوجبة الدسمة تتعرضين للمضايقات صباحاً ومساءً، لم يخاطب لسانك أي لسان آخر سوى عند الضرورة. ومؤخراً فقط بدأت تشعرين بالتحرر ولكنك لازلت مقيدة. أنتِ تعودين للوراء.
أنتَ لا تفهم. مقارنتك سيئة جداً! لن تفهم ما أمر به.
اخبرتك بأنني سيئ في المواساة. لا تنتظري مني كلمات لطيفة، لن أفعل.
زاد بكائي بعد قوله هذا مما جعله ينظر إلى بإستنكار وترقب.
أنا لا أدري لماذا أبكي بصوت عالِ كالأطفال! ولكنني انفجرت وعاجزة عن إغلاق فمي.
بدلا من البكاء كالحمقى فكري فيما يمكنك تعويض والدك به حتى ولو بعد وفاته. ألم تقولي بأنه كان يعمل في شركة جدي؟ الأمر بسيط. ادرسي بجد وتخرجي للعمل في الشركة وواصلي ما كان يستمتع والدك بفعله. لا يمكنني التفكير بطريقة أخرى.
أردف بشرود: لا فائدة ستُجنى من البكاء أو إنتظار لحظة الفرج.
حاولت السيطرة على نفسها حين تغيرت نبرته كثيراً وتساءلت من بين شهقاتي: لا تتحدث. وكأنك تفهم ما أمر به. فقدان شخص مهم في حياتك ليس أمرا سهلاً. الكلام دائما أهون من الفعل.
لم أجرب شعورك ولا أريد. ولكن هذا لا يعني بأنني لا تجارب فاشلة لي! ليكن في علمك أنني أعيش بفضل الماء والغذاء وصوت يتردد في عقلي دائماً.
عقدت حاجباي بعدم فهم: صوت؟
لمعت عيناه العسليتان ببريق عجزت عن تفسيره! ولكنه كان دافئ جداً أجبرني على التخفيف من حدة بكائي. وتساءلت عن نوع العواطف التي سيطرت عليه في هذه اللحظة.
ليجيبني بذهن بعيد عني: صوتها الصغير لا يزال مستحوذا على بشكل غريب ومسيطر. قد يكون هذا مضحكاً ولكنها تفوهت بكلمات بالرغم من بساطتها فهي المتنفس الذي أستعين به كلما أشعر بالقيود من حولي.
ما الذي قالته!
ابتسم بشيء من السخرية ينظر للاكياس على الطاولة: أخبرتني أنها سألت شخص ذات مرة. لماذا نسمع دائماً أن الأشخاص الطيبون يرحلون عن العالم بسرعة قبل غيرهم؟ ولماذا يرحلون بعد ان نتعلق بهم فقط؟ لماذا لا يغادرون أبكر بقليل؟
استحوذني الإهتمام وقد توقفت عن البكاء لأعطيه كل تركيزي فأكمل: ليخبرها هبوطاً بالمستوى اللفظي ليسهل فهمها للأمر لو ذهبنا للتنزه معاً وكل منا يمسك بشبكة صيد صغيرة للفراشات، أي فراشة ستصطادين؟ أجابته ببساطة الأجمل. حينها قال بأنه حالنا على هذه الأرض أيضاً. فالأشخاص الأنقياء أو الطيبون هم أكثر عُرضة للصعاب وقسوة الحياة. إنها تختبرهم لترى إلى أي مدى حبالهم الصوتية قادرة على كبت الصراخ والتأوهات. وإلى أي مدى ستتسع قلوبهم لما يمرون به.
ارتخت ملامحي بشكل مفاجئ وتساءلت: هل هي طفلة؟
كانت. حسنا ربما لا زالت.
ارتفع حاجباي بحيرة فأشار للأكياس: سيبرد الطعام.
نظرت للأكياس واستنكرت تغييره للموضوع. ولكنه محق. بالرغم من كونها كلمات بسيطة إلا أنها تحمل معاني جميلة وعميقة.!
انه يشير إلى أنني في اختبار وعلى ان أتخطاه وأجتهد في القفز فوق العقبات.
وقال للتو بأنه سيئ في المواساة!؟ ربما سيئ ولكنه اختصر الأمر برمته في ذلك المثال الصغير!
وحينها همست ممازحة بصوت لازال مبحوحا إثر البكاء: حسنا أنت هنا لمواساتي، اشتريت طعاما وتطلب مني تناوله قبل أن يبرد. اعتقد بأنك تحرز تقدماً جيداً.
تجاهل تعليقي وامتدت يده نحو أحد الأكياس ليخرج منه علبة متوسطة الحجم.
مدها نحوي فتناولتها بصمت لأفتحها. إنها علبة أرز وشريحة من اللحم وبجانبه بعض الخضروات المسلوقة. وجبة متكاملة ومغذية!
أخذ بدوره العلبة الأخرى وفتحها متمتماً: لقد اضطررت للإنتظار في صف طويل لطلب هذا الطعام، لا تجرؤي على رميه.
ابتسمت انظر للطعام وقد عاود ذلك الشعور اجتياحي مرة أخرى، إنها الطمأنينة التي تنتابني كلما كنتُ إلى جانبه.
وهذا ما دفعني لأهمس مبتسمة بلطف: لنكن أصدقاء يا كريس.
لم يعلق وإنما بدأ بتناول الطعام فقلت ارفع حاجباي: الصمت علامة الرضى.
أشار لي بأن اصمت واتناول طعامي فشهقت بدهشة: هل أنتَ جاد؟ اسمع. لا يوجد مجال للتراجع! لو بقيت صامتاً فسأعتبر صمتك إشارة للموافقة بجدية هذه المرة!
ظل يمضغ الطعام ينظر إلى بملل فهمستُ محذرة: لن أسمح لك بالتراجع. لا زال لديك فرصة! منذ هذه اللحظة نحن أصدقاء مقربان. بل أصدقاء طفولة وعلاقتنا وطيدة.
تمتم مشيراً إلى بالملعقة البلاستيكية: أصدقاء الطفولة تبدأ علاقتهم منذ سن العاشرة أو أقل وتستمر هذه العلاقة أكثر من عشرة أعاوم.
لا يهم! أنا أعرفك منذ المرحلة المتوسطة الثانية. أنظر في أي مرحلة نحن الآن. نحن أصدقاء طفولة مقربان وقُضي الأمر.
التعليقات