رواية في حي السيدة للكاتبة هاجر خالد الفصل الثامن عشر
ظلّت عائشة واقفة لعدة ثواني تُطالع سفيان الذي فقد وعيه في نفس التوقيت ولا تعلم لما، فاقت عائشة من صدمتها واقتربت من جسده ببطىء شديد وهي خائفة، تدعو اللّه في داخلها أن يكون على قيد الحياة، يا رب علشان خاطري، يا رب مش هو كمان يموت بسببي.
تمتمت عائشة بدعاء ثم مدّت يدها نحو عنقه ويدها الأخرى ضغطت بها على جرحه، تلك النبضات الخفيفة في عنقه جعلت من ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها ثم مدّت يدها نحو حقيبتها الواقعة أرضًا تفتحها بيد واحدة بصعوبة وتكتم بيدها الأخرى الدماء الكثيرة التي تخرج منه والتي هي السبب في فقدانه لوعيه، رهف، اسمعيني بسرعة ادي التلفون لأي راجل جنبك، أي حد من أصحاب أخو هايدي بسرعه.
قالت عائشة بفزع وهي تحادث أختها التي كانت في حالة من التوتر أيضًا بسبب عدم فهمها ما يحدث هنا وهناك، نظرت رهف حولها بتوتر، الرجال واقفون في حالة من القلق يناظرون الحريق الذي أطفئوه في اللحظة الأخيرة قبل انفجار السيارة، وجدت صالح يقف بجوار أدهم يحتضنه بقوة ووالد صالح ذهب هو والعم أمجد لرؤية الكاميرات علهم يعلمون هوية السارق، وفي كل هذه الأمور لم تخفى عليها نظرة سعاد الغاضبة التي رمتها بها، فابتلعت رهف رمقها بتوتر وأزاحت بصرها عنها حتى تنفذ ما أرادت أختها، وجدت أمامها فرغلي واقفًا على بعد مسافة قصيرة منها فكرمشت وجهها بخوف وحين أستمعت لصراخ عائشة في الهاتف تحركت بهلع نحوه تلقي عليه الهاتف، نظر فرغلي لها بتعجب ولكن رهف أساسًا تهاب الناس لا سيما من هذا الثور الهائج أمامها، نعم…
قال فرغلي بتساؤل ولكن رهف لم تجيبه بل شحب وجهها فجأة حين وجه كلامه لها، يأس فرغلي منها فرفع الهاتف نحو أذنه باستغراب، ألو، السلام عليكم، قال فرغلي وعندما سمع أجابتها تعالى صوته بصدمة خالصة وركض وهو يصرخ فيها بأن توصف له مكانهم.
مزقت عائشة قميص سفيان من الجانب الآخر وكرمشته في يدها مستخدمة إياها في كتم الدماء، وما أثار رعبها حقًا وجهه الذي شحب بقوة آخافتها، أستحمل لو سمحت، أرجوك متموتش.
قالت عائشة بارتجاف ولاحظت ثقل أنفاسه بين يداها، يا اسمك ايه أنتَ، أستحمل علشان خاطر مامتك، أنا مش عارفة إنتَ دخلك إيه في الحوار ده ولا رائف يعرفك إزاي، ومروان وسليم معرفش وحاسة إني هتجنن بسببك وإنتَ دلوقتي هتموت بسببي، أنا آسفة واللّه، قالت عائشة ببكاء وهي تضغط على جرحه بقوة شديدة فتآوه سفيان فجأة وهو يفتح عينيه ببطء ثم بدء يلهث لكي يأخذ أنفاسه، عائشة…
قال سفيان بهمس وهو ينظر لها يطمئن أنها بخير فبكت عائشة أكثر أمامه، أنا آسفة، بص متغمضش عينك ماشي، أنا هنقذك بإذن اللّه، قالت عائشة ببكاء فابتسم سفيان بألم وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة، إنتِ أنقذتيني من زمان يا عائشة، من أيام ما كنا عالكوبري، فاكرة؟
الشاب إللي كان عايز ينتحر، ومسكتيه من رجله، صمت سفيان وهو يتآوه بألم ويجزّ على أسنانه، بينما الصدمة ألجمت عائشة فناظرته قائلة، هو إنتَ سفيان صاحب مروان، بس إزاي؟، دنا افتكرتك مُت، إن شاء اللّه إللي يكرهني…
نبس سفيان بألم وهو ينظر لها ببغض، فنظرت له عائشة بتوهان وحين لاحظ نظرتها ابتسم ببطء وفي هذه الأثناء كان فرغلي يركض بسرعة عالية نحوهم بسبب قرب هذا الشارع من منزلهم، حين رأى حالة سفيان صرخ في عائشة بقوة ودفعها من جانب سفيان غير مهتمًا بحالتها ولا كيف انكمشت هي على نفسها بخوف، فتح سفيان عينيه مجددًا ورأى أمامه فرغلي وحالته المتوترة أمامه فابتسم له ببطء ونظر وراءه فوجدها على حالتها الخائفة، نظر له بعتاب وقبل أن يحدثه كانت سيارة صالح تقترب من مكانهم وفتح بابها فجأة وهبط أدهم وصالح وهم يصرخون باسم سفيان، حين خرج فرغلي بحالته المثيرة للقلق خاف أصدقائه من أن يكون حدث له شيء هو الآخر، لم يخبرهم فرغلي إلا بعد إلحاح كبير منهم ولهذا أتوا وراءه، رفع الرجال سفيان خائر القوى بسبب كمية الدم التي فقدها وحين وضعوه في السيارة توجه فرغلي ناحية عائشة وجذبها بقوة ضاغطًا على مرفقها فأنت أمامه بألم وهبطت دموعها ولكنها كتمتها بخشية منه، عايزين إيه منه ها؟، ردي عايزين إيه من سفيان.
قال فرغلي بغضب وهو يجز على أسنانه كي لا يسمعه رفيقه، لاحظهم صالح فاقترب منه بسرعه ساحبًا إياه بقوة وهو يصرخ به بغضب، سفيان لو عرف يا فرغلي هيقاطعك عمره كلّه، فوق كده وأهدى، ويلا نوديه المستشفى علشان نطمن عليه، تضيع الوقت مش في صالحه، نظر لها فرغلي بغضب والتفت نحو السيارة ثم ركبها وهو يخبط بابها بغضب، أما صالح فنظر لعائشة بهدوء وحالة من الشعور بالشفقة احتلت قلبه خاصةً مع بكائها المكتوم وهي تفرك مرفقيها بألم، فتنهد بسخط ثم عادَ للسيارة وأمر فرغلي وأدهم بالذهاب للمستشفى كي يوصل عائشة ثم سيلحق بهم وقد وافق فرغلي على هذا أما أدهم فقد كان يحتضن جسد أخاه بقوة وكأنه خائف من فقدانه، ثم انطلق فرغلي مسرعًا نحو المستشفى…
آخر ليلة ليهم في بيتي يا أمجد، أتصرف وإلا واللّه أسيبلك البيت وأمشي، قالت سعاد بغضب وهي تكتف يديها أمام صدرها فتنهد أمجد بضيق منها أما زينبو فهمت أن تبرر لها حالتهم، يا بنتي حرام دول ولايا ومش معاهم حد، قالت زينبو بشفقة فنظرت لها الأخرى بخوف قائلة بصوت أم خائفة على أولادها، أنتوا فاكرني هبلة ومعرفش إنهم سبب المصايب إللي نازلة علينا كلها، مين رائف الشافعي ده يا أمجد؟
وإيه علاقته بينا، تنهد أمجد بسخط ونظر لهايدي بعتاب فأخفضت رأسها بخجل منه، ما ذنبها إن كانت والدتها فضولية ألحت عليها حتى أخبرتها قشور عن الموضوع بأكمله، رائف الشافعي بيكره سفيان، وسفيان ابنك بيكرهه، ورائف ابن عم عائشة، حسنًا كانت جملة واحدة فقط استنتجت منها بأن عائشة ورهف هم أساس المصائب بمنزلها، وطي صوتك البنت جوة، وعيب كده عايزة تصغريني قدام الناس، من أمتى وأنا بقفل باب بيتي في وش الناس يا سعاد؟
قال أمجد بصوت جهوري وهو ينظر لها بقوة ثم ضرب عكازه في الأرض بسخط دلالة على غضبه، فبكت سعاد بخوف قائلة، قلبي مش مطمن يا أمجد، أنا شوفت حلم وحش، ده كابوس، البنات دول هيبقوا سبب خسارتنا كل حاجه، طمئنها فرغلي وربت على كتفها، قل لن يصيبنا إلّا ما كتب اللّه لنا، أهدي ومتخليش شيطانك يسود الأمور في وشك، البنات غلبانين وملهمش إلا ربنا، سيبيني أساعدهم، هدئت سعاد نسبيًا في هذه اللحظة ولكنها نهضت واقفة بخوف حين لاحظت حالة عائشة المشعثة وملابسها الملطخة بالدماء…
انقبض قلبها لحظيًا ونظرت لصالح لكي يطمئنها ولكن صالح متوتر من الأساس فلم يفعل، خير يا بنتِ، تعالي بسم اللّه الرحمن الرحيم، قالت زينبو وهي تتوجه ناحية عائشة التي تنظر للأرض بخوف لحقتها هايدي وهي تربت على ظهرها بينما تقرأ بعض الآيات القصيرة عليها فقد شعرت بارتجافة تصيب جسدها كأنها نابعة من العظام، أما سعاد فقد جلست على الأريكة بخوف بعدما لم تستطع صلب طولها وأمجد كذلك أحس بالخوف ولكنه لم يظهره فظل محتفظًا بمظهره القوي أمامهم، أما صالح فابتلع رمقه بتوتر وناجى اللّه في سره، فين سفيان؟
قال أمجد بقوة مصطنعة ولكنك تستطيع الشعور بارتجافة صوته، في القسم.
قال صالح بسرعة ولا يعلم كيف جائت على باله هذه الفكرة، نظرت سعاد له باستغراب بينما أمجد ناظره نظرات لا تفسر، وهو مروح مع عائشة، في شباب عاكسوها، وإنتِ عارفة سفيان بقا، ما صدق لقا خناقة، والدم، الدم ده دمهم بسبب إنه ضربهم جامد، وهاتيلي كوباية مايه بسكر بسرعة اللّه يكرمك، قال صالح بتوتر وصوت حاول أن يصبغه بالجدية فتنهدت سعاد باطمئنان واستعاذت بالله من سوء أفكارها وتوجهت نحو المطبخ ببطء من قدماها التي تيبست بفعل الخوف، طبعًا إنتَ مش فاكرني عبيط؟
قال أمجد بصلابة فأغمض صالح عينيه بخوف، رائف بعت ناس اتهجموا عليهم، سفيان انضرب بس أدهم كلمني وأنا تحت وبيقول جرح سطحي بس سفيان أغم عليه علشان كان الأدرينالين بتاعه كان عالي وضغط الدم برضوا كان فيه حاجة، بس أنا مش عارف إيه هيا علشان أنا مهندس مش دكتور، قال صالح كلماته بسرعة شديدة وكأنه كان يحفظ فيها طوال الطريق، أما أمجد فنظر أمامه بغضب وضرب عكازه أرضًا بسخط، رائف الزفت لازم يتحط له حد، هو فاكرها سايبة، جهز العربية…
قال أمجد فنظر له صالح بتساؤل، هتروح المستشفى؟، سفيان كده كده جاي إنت عارفه مبيطقش قاعدة المستشفيات، أما أمجد فأغمض عينيه بغموض، أحنا هنسافر الإسكندرية…
إيه، يالهوي، إنتوا قررتوا تحرروا العالم يوم خطوبتي، أنا عريس يا عمي، وربي عريس.
قال صالح بسخط وهو يجذب خصلاته بقوة، صالح، هات مفتاح عربية أبوك، أنا هروح لوحدي، قال أمجد فاتسعت أعين صالح بفزع، إيه، يا مصيبة بيضة، ده سفيان كان يموتني فيها، إنتَ عايزني أسيبك تروح لزفت الطين ده لوحدك، ده كان يشعلق رقبتي على باب زويلة، قال صالح فنظر له أمجد بغضب، هات مفتاح العربية يا بني، وسفيان لو عرف حاجة صدقني أنا إللي هعلق رقبتك على باب زويلة، أنا هروح وآجي بسرعة، مسافة الطريق بس، لو سألوك عليا هتقولهم راح المحل إللي في القنطرة ماشي؟
قال أمجد بصلابة فهز صالح رأسه بالايجاب بتهور شديد ولا يعلم كم سيكلفهم هذا الأمر، هبط صالح من المنزل يمشي بهم شديد، ولكنه عقلها بداخل رأسه، سيذهب العم أمجد وسيحاول التفاوض معه إذا وافق قد كان خيرًا وإذا رفض فلن يحدث شيء، هو يعلم أن العم أمجد رأسه أصلب من الصخرة وأنه سيذهب به أو بدونه فلهاذا هو سيحضر السيارة ثم سيتوسل له بأن يأخذه معه، حسنًا هذه الفكرة جيدة للغاية…
في منزل سفيان، تقدم أمجد خطوات نحو الغرفة التي بها عائشة ورهف ووالدتهم، ثم دق الباب بخفة ففتحت له هايدي الباب ونظرت له باستغراب، نعم يا بابا؟، حضرتك عايزني؟
نفى أمجد برأسه ثم أخبرها أن تنادي عائشة، نادت هايدي عائشة باستغراب ووقفت بجانب الباب منتظرة حديثه ولكنه أشار لها بالذهاب فتنهدت ودلفت لداخل الغرفة تتسلى بالحديث مع رهف، نعم يا عمو، حضرتك طلبتني؟
قالت عائشة بهدوء فنظر لها أمجد وقال لها، عايز عنوان بيت رائف الشافعي…
اتسعت أعين عائشة بخوف مفاجيء بالنسبة له، ماذا فعل لها كي تخاف فقط من سمع اسمه، ليه، إنتَ هتروح ليه هناك؟
قالت عائشة بتوتر فأومأ لها أمجد بغموض، إللي زي رائف ده نوعية جبانة بتتغذى على ضعف الناس إللي خايفين منها، وأنا مش هستنى لما لما يبعتلي جثة ابني عالبيت، قال أمجد فأخفضت رأسها بتوتر وخوف ملحوظ، طب استنى لما سليم يطلع يا عمو علشان خاطري، رائف شخص مالوش أمان، حين نبست عائشة بجملتها ابتسم أمجد بتسلية قائًلا، يبقى متعرفيش عمك أمجد بقا…
نظرت له عائشة برجاء ولكنه كان مصرًا على الذهاب له، وحين وعدها بأنه سيأخذ حذره تمامًا أعطته العنوان وليتها لم تفعل، لم يعرف أمجد بأن رائف ليس إنسانًا ليتصرف مثلهم، كان كالحيوانات المفترسة ليس لهم أمان، وحين التفت ناويًا الذهاب وقف فجأة وحذرها بنظراته قائلًا، سفيان ميعرفش حاجة عن الموضوع، وعد بيني وبينك لو سفيان عرف حاجة عنه مش هسامحك، أنا رايح مسافة السكة وجاي، هزت عائشة رأسها بالموافقة، هي لا ينقصها مشاكل كي تورط نفسها في واحدة أخرى، وعد يا عمي، مش هقول لسفيان حاجة…
قالت عائشة بهدوء، ولو تعلم مقدار المصائب التي تستقط فوق رأسها بسبب وعدها هذا لم تكن ستفعل من الأساس، لم تعلم الجميلة بأنها على شفا حفرةٍ من تدمير كل شيء حولها، بسبب وعدها، الوعد الأسود.
التعليقات