رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السابع والثلاثون
أحمق هو من ظن أن ردود أفعاله سريعة مع كل الصدمات، فأحيانا بعض الصدمات تصيبك بالشلل وتنجح ببراعة في جعلك عاجز عن المواجهة.
صرح نصران ولم يخش شيء، حيث سدد لمنصور التهمة بقوله: دم مراتي اللي على إيدك يا أشر الخلق.
تهمة جعلت وجه منصور يبهت وهو يدفعها عن نفسه بارتباك: أنا مش فاهم كلامك.
ابتسم نصران وأعطاه الرد قائلا: لا أنت فاهم وبتلاوع، ما تخليها على المكشوف أحسن يا منصور.
طالعه منصور ببغض وهو يهتف بتبجح: طب طالما على المكشوف بقى فأنت ملكش حق.
كلمات ضحك نصران عاليا عليها وهو يرد عليها بسؤال: ليه مليش حق؟
لم يستح منصور لذلك قال ما شاء وكأن القتل أسهل من شرب الماء: مراتك ماتت في وقت كنا لسه بيننا فيه مشاكل، مكناش لسه بقينا على الحياد وقررنا إن أي دم هيقف، يعني حتى لو أنا ليا يد في موتها زي ما أنت بتقول وأنا بقولك محصلش فهيبقى ده في وقت كنا فيه مع بعض في حرب، وطالما كانت العداوة ساعتها لسه باقي منها يبقى كل شيء مباح.
هز نصران رأسه مؤكدا على حديث الجالس أمامه: فعلا كان كل شيء مباح، مباح لدرجة إنكم ساعتها بعتوا اللي يقتلوني وفداني أعز صاحب ليا.
كلمات فتحت عليه بوابة من الذكريات وكأنه عاد الآن إلى فترة شبابه، يسير جوار صديق عمره إلى وجهتهما حيث اعتادا الجلوس، لا يتذكر حديثهما يتذكر فقط الأعيرة النارية التي كثرت فجأة من حولهم، كانت المقصود واحد بعينه، كان المقصود نصران، لم يظهر من ضرب عليهما، وأخطأ في تصويبه أيضا؛ مما أدى إلى أن تكون الضحية هي صديق المقصود وليس هو.
فاق نصران من شروده قائلا بتهكم: فاكر أبو عز يا منصور ولا نسيته، الراجل اللي راح بدالي، ولا ده كمان هتنكره؟
بتقلب في القديم ليه يا نصران؟، ما يمكن أي حد من اللي كانوا معاديين أبوك هو اللي ضرب عليكوا نار ليلتها.
السخرية والتهكم هي المسيطرة على نصران وأكمل منصور: وبرضو هرجع وأقولك ده كله كان قبل ما نصفي كل حاجة خالص، و ميبقاش فيه غير الهدنة اللي أنا وأنت اتفقنا عليها علشان نوقف الدم والخراب اللي كان داير بين أهالينا، ويفضى كل واحد فينا لمصالحه، ولا أنت جاي بقى عايز تفتح المواضيع دي تاني؟، اللي أنت عايز تفتحه ده بيبقى أخره خسارة، عليك قبل عليا.
باستهزاء شديد رد عليه الجالس أمامه: ومين قالك إني جاي أفتح في القديم تاني؟، أنا جاي أنبهك أنت توعى لنفسك ومتفتحش فيه وتوعي ابنك معاك.
أدرك منصور أن محاولة جابر للإيقاع بحسن وصلت لنصران الذي أكمل بهدوء: علشان أنا عيالي خط أحمر، ولو حد مس شعرة منهم عادي هقلبها خراب على الكل ولا هتفرق معايا، أنا جيت هنا علشان أعرفك إن مفيش حاجة بتستخبى، وكله مهما طال عليه الزمن بيوصلي، ولو أنت شايف إن غدرك بيا مبرره إننا مكناش لسه فضينا اللي بيننا وعادي أي حد يغدر بالتاني فهقولك إن وقتها كان اللي بيعمل حاجة التاني بيرد عليها، بس أنا ساعتها مردتش علشان مكنتش أعرف إنك استغليت تعبان عايش في بيتي وعن طريقه خلصت منها، وكده يبقى ليا عندك حق، وأنا علشان راجل كريم ردي هيبقى هين أوي على اللي عملته، أصل دم اللي ماتت دي بعيلتك كلها، بس زي ما قولت في الأول احنا مش هنفتح في الدم وسيرة الدم تاني.
تساءل منصور باستغراب: امال إيه معنى انك هترد، ناوي على إيه يا نصران.
وليه مصمم تلبسهالي، ما يمكن اللي بلغك هو اللي عملها.
أتاه اتصال في اللحظة التي سمع نصران فيها يقول: أنا وأنت عارفين إنك أنت اللي عاملها.
رد منصور على هاتفه بعد أن استرعى انتباهه وخاصة أن الاتصال من أحد الذين يعملوا بأرضه، بمجرد أن جاوب سمع: معلش يا حاج تجيلنا شوية، أنا مش عارفة في إيه، دي تاني سنة تحصل معانا، الزرع في الأرض بيبوظ، والفلاحين بيقولوا إنه فيه حاجة بتاكل فيه.
كارثة فادحة، حدثت معه في العام الماضي، واستطاع الخروج منها ولكن لم ينج من الخسائر، وتكرارها هذا ليس إلا مصيبة كبيرة طالته، وستطول تعاملاته التجارية التي ربما تنقطع تماما بعدما تكرر الأمر للمرة الثانية، محصوله عالي الجودة سيشتهر بأنه الأسوء هذا في حالة أن لحقه من الأساس.
طالع نصران بنظرات مشتعلة وهو على يقين من أن له يد هذه المرة، وعرف نصران أن الأمر وصله فسأل متصنعا الاستغراب: خير يا حاج؟
أنت اللي ورا اللي بيحصل في الأرض؟
وأمام هذا السؤال ابتسم نصران وأشار على نفسه قائلا ببراءة: أنا؟، يا شيخ حرام عليك ده أنا قاعد معاك أهو.
ثم تابع باستهزاء: هو الزرع جراله حاجة السنادي كمان ولا إيه؟، لا مينفعش، لازم تاخد بالك من شغل الفلاحة أكتر من كده، أحسن كده تضرب في السوق يا حاج منصور، أنا بوعيك.
قال جملته الأخيرة ضاحكا، واستقام للمغادرة وهو يهتف: أتمنى مشوفش غدر تاني يا منصور ده علشان خاطر الكل، و علشان اللي عملناه زمان ووقفنا بيه الدم متهدهوش أنت دلوقتي.
أنهى حديثه ولم يبق بالمكان ثانية آخرى، احتدت عينا منصور وقد كمن الشر داخلها، لقاء آخر مع نصران يجعله يتيقن من أن هذا الرجل داهية، داهية لا يمكن الاستخفاف بها أبدا.
أخبرها بأنهما سيعودا إلى الاسكندرية، ولكن حين أتى إلى المنزل قال: أنا هنام شوية يا ملك وهقوم نمشي علطول.
أخبرها بها وهرول إلى الفراش، سريعا ما سلبه النوم حتى صباح اليوم التالي، كان يحتاج إلى هذا وبشدة، لا يعلم كم مر من الوقت وهو نائم، سمع صوت هاتفه الذي توقف بعد أن فتح عينيه بصعوبة، جذب الهاتف وهو مازال ممدد ليرى من هاتفه، أنزل قائمة الاشعارات يتطلع فيها بعينين ناعستين اتسعتا فجأة وهو يلمح إشعار رسالة على تطبيق المحادثات صاحبها يضع الصورة الشخصية مع فريد، انتفض عيسى معتدلا ولوهلة توقف كل شيء، ظن عقله في البداية أن فريد يراسله كما اعتاد، طالبا منه النزول إلى البلدة لأنه يفتقده، ولكن صفعته حقيقة أن شقيقه لم يعد متواجد، وأنها مجرد رسالة من واحد من أصدقاء فريد، مسح عيسى على رأسه بتعب وقد تكونت الدموع في عينيه، فتح الرسالة وقام بالرد برسالة صوتية بان فيها إثر نومه: ازيك يا فادي، إيه يا عم مبقاش حد يشوفك.
تحجج محدثه بأن ليس لديه وقت كافي للنزول إلى الاسكندرية ولكن عيسى مدركا تماما لحقيقة الأمر، صديق شقيقه لا يريد أن ينزل ويدرك أن فريد لم يعد هناك، طالبه عيسى بأن يراه في أقرب وقت ثم أرسل وعينه لا تفارق صورة فريد: بقولك إيه، لو معاك صور لفريد كنتوا متصورينها سوا ابعتهالي.
خرجت ملك من المطبخ الصغير وبيدها كوب من الشاي الساخن الذي وضعته سريعا على الطاولة وانتبهت لذلك الشارد في هاتفه بعد أن كان نائما فسألت بريبة: عيسى هو في حاجة؟
هز رأسه نافيا وهو يقول بهدوء: لا مفيش، البسي يلا علشان هنمشي.
لم تصدقه فكل إنش في وجهه يخبر بالعكس لذلك اقتربت منه وسألت من جديد تطمأن: متأكد إنك كويس؟
شعر ببوادر إحدى نوباته، رعشة يديه تنذر، وشعور الغضب الذي يجتاحه فطلب منها: هاتيلي ماية يا ملك معلش.
هزت رأسها موافقة واتجهت إلى المطبخ لتجلب له بينما أخرج هو علبة الحبوب التي أعطاها له نور وأخرج واحدة منها وهو يتردد في ذهنه كلمات نور بأن هذا سيخمد من ثورته ويحسن الوضع بعض الشيء، وضع القرص في فمه وحين أتت ملك تناول منها المياه، شرب، ثم تنفس بعمق، يصارع جاهدا لإبعاد أي فكر سلبي، التفكير في الأشياء الإيجابية فقط.
أشار لها بعينيه لكي تستعد ليرحلا، تشعر بضيقه ولكن اختارت ألا تتحدث الآن، محاولته لضبط نفسه هذه جعلتها تدرك أنه ربما يمنع نفسه من الوصول إلى ذروة الغضب، لا تعلم كم مر من الوقت، كل ما تعلمه أنها استعدت وفعل هو المثل والآن هي جواره في السيارة في طريقهما للعودة، سألها بهدوء رافقه منذ أن نزلا من المنزل: أنا هجيب قهوة، أجبلك زيي ولا عايزة حاجة تانية؟
عيسى هو في إيه؟
قالتها باستنكار لطريقته الجافة هذه، مما جعله يحاول جبر ابتسامته على الظهور وهو يرد: مفيش حاجة، أنا بس مضغوط شوية يا ملك معلش الشغل وكده.
هزت رأسها نافية وهي تقول: لا يا عيسى ده مش ضغط شغل، ظهر فجأة كده لما نمت وصحيت، قولي مالك، أنا عملت حاجة ضايقتك طيب؟
دفع عنها ما قالته مردفا بهدوء: لو عملتي حاجة كان زماننا بنشد في شعر بعض دلوقتي عليها.
ابتسمت على جملته وتابع هو ضاحكا: مفيش حاجة، متشغليش بالك، بس أنا حاسس الأيام دي إني مضغوط من كل ناحية، فأعصابي بايظة شوية، متزعليش ماشي.
قال جملته الأخيرة وهو يربت على كتفها فطالعته بعتاب جعله يقول بغيظ: لا فكي بقى، وبلاش نكد، هتشربي قهوة، ولا هتشربي ايه في ساعتك
قهوة ماشي.
قالتها بترفع وكأنها تتعالى عليه فضحك وهو يقوم بإيقاف السيارة لينزل ويبتاع ما أرادا، ولكن داخلها هي كانت على يقين بأنه ليس بخير.
لم تكف عن النحيب، طالبت بتبرير فوري لما تفوهت به علا، تبرير لجملتها: شاكر محبش غير ملك
هي الآن في غرفة شاكر تجلس على الفراش تنتظر ما سيقول بعينين بان الحزن جليا فيهما، جلس هو أمامها والتقط كفها سائلا: أنا قولتلك اهدي ونتكلم، هديتي؟
سحبت يدها وظهر بوضح أنها تطالبه بالرد، فتنهد قبل أن يقول بعينين برعا في تحويل الكذب للصدق: أول حاجة عايزك تعرفيها، إني محبتش في حياتي حد قد ما حبيتك أنتِ علشان كده اختارتك، وكان عندي عشم ما اشوفش في عينك النظرة دي يا بيري، نظرة إنك مكدباني دي توجعني أوي.
لانت نظراتها بعض الشيء، يعرف طريقها وكيف يستحوذ تدريجيا على تفكيرها، بدأ حديثه أمام صمتها يقص عليها بعتاب: بعد ما قولتيلي انبه علا تبعد عن بشير لو هو بشير اللي نعرفه بعد ما سمعتيها بتكلمه، حسيت بالغدر جاي من ناحية ولاد نصران، و اتأكدت فعلا إنها تعرف الواد اللي اسمه بشير ده، ماسح عقلها خالص يا بيريهان وكان بيحرضها ضدي، علا مبقتش هي، علطول بتخرج ولما بعتت ناس وراها لقتها بقت تنزل مع أمي القاهرة كتير علشان تقابله، عايزين يموتوني باختي، عايزين تبقى هي اللي هيكسروني بيها.
قال جملته الأخيرة بتأثر واسترسل موضحا: رسم عليها طبعا دور الحب، وإنها لازم تسيبني وتهرب علشان أنا مبحبهاش، لحد ما خليتها معاه وروحت طبيت عليهم، لقيته قاعد بيقولها لازم تقاطعي أخوكي لو عايزة نكمل، روحت اخدها منه قام كان هيتخانق معايا، و خدتها ومشيت بالعافية، مش هكدب عليكي أنا اتعصبت وضربتها وخدت منها الموبايل وكل حاجة، سيبتها كام يوم ومهانتش عليا أكتر من كده دخلتلها وقولتلها إنه كداب وإنه بيعمل كده علشان ينتقم من بيري اللي سابته واختارتني، وعلشان هو من طرف عيال نصران اللي كل همهم أذايا…
ابتلع ريقه وابتسم بحسرة وقد بدأت الشفقة في الظهور على وجه زوجته وهو يكمل: كدبتني، وقالتلي أنت و بيريهان دي عايزين تبوظوا حياتي، وأنا بحبه وهروحله واسيبكم، وبقت عمالة تصوت وتكسر ورافضة حتى إنها تصدق أي كلمة وحشة تتقال عنه، دي كمان هددتني إنها هتقول قدامك إني كنت بحب ملك بجد لو مسيبتهاش تروحله، وأنا عارف إنه أكيد هو اللي حرضها على ده علشان تبوظ علاقتنا، فاكرة شمت فيكي ازاي قدام القسم؟
هزت رأسها مسرعة، تتذكر ليلة فرحها حين غدروا بزوجها وخرجوا بكل تبجح من القسم وكأنهم لم يفعلوا شيء.
أضاف شاكر وقد زرع الألم في عينيه بالإجبار: اضطريت اقفل عليهم البيت هنا، خوفت تنفذ كلامها وتهرب وتروحله، مكنتش هقدر اسيب اختي تسلم نفسها ليهم ويضغطوني بيها، وقولت لأمي توعيها لحد ما اجيبك بنفسك تقوليلها إنه واد لعبي و بيضحك عليها، وواخدها كوبري، لكن رجعت لقيت أمي حالتها وحشة، كان هيجرالها حاجة وقبل ما اسألها في إيه عرفت السبب، دخلت أوضة علا لقيت شعرها مرمي على الأرض، شوفتي جنانها وصلها إنها تعمل إيه؟، حلقت شعرها ومهمهاش…
لمعت الدموع في عينيه ولكن لم تمنعه عن الإكمال: قولتلها أنتِ عملتي كده ليه، وبقيت مش مصدق عيني، لقتها بتقولي أنت اللي عملت فيا كده، وأنا هفضحك في كل حتة لو مسبتنيش امشي.
هتفت بيريهان وهي تحرك رأسها بصدمة: يعني ده مكانش مرض جلدي زي ما أنت قولتلي؟
سألها بقهر بدا وكأنه كُتِب له: عايزاني أقولك اختي اتجننت وعملت كده في نفسها؟
رفعت كفها تمسح الدموع عن وجنتيه، فتناول كفها ولثمه هاتفا بما رأته هي وجع: علا طول عمرها في البيت، احنا بطبيعتنا أبويا كان بيشوف خروج البنات عيب، وكان مقفل عليها جامد.
وأنا كنت بخاف عليها من الهوا، تطلع مع السواق وترجع مع السواق، بس أنا معترف بغلطي أنا اتشغلت عنها وسمحت لعيل زي ده يستغلها ويضحك عليها ويقلبها عليا…
انفعل في جملته الأخيرة وحاولت زوجته أن تحد من هذا الانفعال بقولها: طب اهدى بس علشان خاطري.
في دقائق استطاع قلب الطاولة، بعد أن كان هو المدان أصبح صاحب حق وبان هذا في نبرته المعاتبة وهو يهتف: ابقي اسألي أمي، قوليلها علا عملت إيه في شعرها، وعملت إيه في الأيام اللي فاتت خلى شاكر يلف حوالين نفسه لو مش مصدقاني.
تناولت بيريهان كفه وهي تعتذر بنظراتها قبل أي حديث واستكمل هو بحزن: أنا اختي بتضيع مني، رمت الكلام اللي حفظهولها وطلعت تجري وملحقتهاش، أكيد هتروحله.
هزت رأسها نافية بسرعه وهي تخبره مطمئنة: أنا هكلمها، هقولها ترجع وإنه كذا…
بتر عبارتها بقوله الساخر: خلاص معادش ينفع، هي مش هتصدق حد، أنا هتصرف
ورفع سبابته محذرا: ومتدخليش مع الزفت بشير ده في أي حاجة يا بيريهان.
هزت رأسها موافقة وتبعت ذلك بقولها الحزين: أنا أسفة.
ظنت أنه لن يقبله ولكن على عكس توقعاتها احتضنها، كان في عينيه طاقة غضب لا تُنسى تمنى لو صبها الآن على شقيقته كاملة، شقيقته التي لم يكن يوضع في كل هذا لولاها هي.
لم تهدأ منذ ليلة أمس، أيقظت والدتها منذ الصباح الباكر، وبدأت في الإلحاح بأنه من الواجب زيارة.
طاهر الآن، لم تستجب لها هادية إلا في منتصف اليوم، ذهبت بها حيث منزل نصران و رحبت بهم سهام مرغمة واستضافتهم في الردهة، أتت رفيدة و يزيد الذي هرول ناحية شهد فاحتضنته قائلة بضحكة واسعة: وحشتني يا واد.
هتفت سهام بكلمات ذات مغزى ملخصها أنها تطالبهم بالرحيل: معلش هو طاهر تعب شوية، وأنا قولتله يطلع يريح فوق فمش هينفع ينزل وكده علشان تعبان.
أنا هطلعله، ينزل ليه؟
قالتها شهد وهي تطالعها بتحدي، فرمتها سهام بنظرات بان فيها الضجر، خاصة حين همست رفيدة: ليه كده يا ماما
ثم قالت بترحيب: اتفضلوا يا طنط أنا هطلعكم عند طاهر، أو خليكم أنا هطلع أقوله ينزل.
لا ماتتعبيهوش يا حبيبتي احنا هنطلع.
قالتها هادية بهدوء يتنافى مع غضبها من قلة ذوق سهام، دقائق وكان يرحب بهم ويعاتب أخته هاتفا: مقولتيش ليه إنهم هنا وأنا أنزل.
ابتسمت هادية وهي ترد بابتسامة: متتعبش نفسك يا بني، طمني عليك أنت كويس؟
طمأنها بقوله: أنا بخير.
استفسرت عن الفاعلين قائلة: طب مفيش أي خبر عن العيال اللي عملوا كده دول؟
هز رأسه نافيا فهتفت: منهم لله ربنا ينتقم منهم، كل حاجة تتعوض المهم أنت بخير.
أعطاها ابتسامة واسعة، ثم استدار لهذه التي جلست جواره وكأنها وجدت ضالتها للتو، تحت أنظار والدته الثاقبة، وكأنها تنافس يزيد في أفعاله الطفولية، طالعت شهد الجرح في رقبته بقلق سائلة: أنت غيرت عليه؟
جاوبت رفيدة بدلا عنه: اه ماما جا…
ولكن بتر عبارتها قول سهام المتهكم: عايزة تبقي تيجي أنتِ تغيريله عليه ولا إيه؟
وماله مش جوزي؟
قالتها شهد بابتسامة صفراء، وطالع طاهر والدته برجاء أن تكف، وقطع جلستهم تيسير التي اصطحبت إحداهن إلى هنا، كانت آخر واحدة توقعتها شهد، فريدة الزوجة السابقة لطاهر والمدبرة للكارثة التي أبعدتهما، كانت فريدة في كامل أناقتها، ثوب أسود لاق بها، وخصلات مصففة بعناية، وباقة من الزهور كانت تحملها ووضعتها وهي تقول بابتسامة: ألف سلامة عليك يا طاهر.
هتفت شهد بغضب: أنتِ إيه اللي جايبك هنا؟
قولها هذا جعل سهام تقول بانزعاج: متتكلميش كده مع حد، عيب.
صاحت شهد باستنكار: أنا عيب وهي إيه؟، أنتِ عارفة دي عملت إيه؟
بس يا شهد.
قالها طاهر حين لاحظ تأثر ابنه بالأجواء ومراقبته للجميع ولكن شهد لم تصمت بل استدارت له تسأل باستنكار: بتقولي أنا بس؟، ده بدل ما تطردها
استقامت والدتها واقفة وردعتها بقولها ونظراتها المحذرة: شهد مش كده اهدي.
حملت رفيدة الصغير وحاولت سحب شهد معها قائلة: تعالي معايا يا شهد.
لم ترض أبدا بل هتفت بتبجح: اجي معاكي فين؟، أنا مش هروح في حتة غير لما البت دي تغور.
لا دي أنتِ زودتيها أوي.
قالتها سهام التي منعها ابنها من الاسترسال بقوله: ماما لو سمحتي خدي يزيد بعيد عن هنا.
استجابت له مرغمة تحت نظراتها المستنكرة لأفعال شهد بينما سحبت هادية ابنتها، ولكن لم تستجب بل طالعت طاهر هاتفة بحزن: يا تقولها اطلعي برا يا أنا اللي همشي.
تعلم فريدة جيدا أنه لن يطردها، أتت ضيفة ومن واجبه إكرامها، هتفت بارتباك مصطنع: أنا بس جاية اتطمن عليه وماشية خلاص، الدكتور اللي كان في المستشفى اللي كنت فيها امبارح، دكتور فؤاد، كلمني وقلقني فجيت أشوفك.
لم تهتم شهد بأي مما يقال، اهتمت فقط بأنه لم ينفذ رغبتها لذلك هتفت بضجر امتزج بقهرها: يبقى أنا اللي همشي يا طاهر خليها تنفعك.
انطلقت كالصاروخ فترك فراشه مسرعا وحاول اللحاق بها على الرغم من ألم ذراعه وهتف: شهد اقفي وبلاش شغل عيال.
سيبتلك شغل الكبار.
قالتها وهي تمسح دموعها بعنف ولم يلحق هو بها فتأفف منزعجا، لمح والدتها فهتف بأسف بعد أن تأكد من أن لا أحد يسمعه سوى هادية: أنا مكنتش عايز أزعل شهد والله العظيم، بس فريدة جت من فترة للحاج واعتذرت عن اللي عملته، مع إنه عندي مفيش أي اعتذار ينفع مع اللي عملته، بس أنا مكنتش هقدر أطردها دلوقتي، دي أصول وحتى لو هي مراعتش قبل كده، أنا مش هينفع أعمل كده…
ثم أبدى حزنه من فعلة شهد هاتفا: وشهد مبتتفاهمش، يا اعمل اللي هي عايزاه، يا تغضب وتمشي، أنا ميهونش عليا أزعلها والله.
تدرك هادية ما يقوله جيدا لذلك ربتت على كتفه قائلة: خلاص يا طاهر ولا يهمك، ألف سلامة عليك.
قالتها ورحلت فمسح على وجهه بتعب وخاصة أن ما حدث للتو لم يكن في حسبانه.
في نفس التوقيت كانت رفيدة عند البوابة حتى تلحق بها ولكن وجدت عز قادم، أجبرت عينيها على ألا تلتفت ناحيته وأتت لتتحرك فسمعته يقول: طاهر جوا يا رفيدة؟، تيسير كانت بتحكي مع أمي الصبح وقالت إنه تعبان، خير؟
ادخله.
قالتها بتجاهل ولم تلتفت له حتى فاستوقفها هاتفا باسمها: رفيدة.
توقفت مكانها وتحرك هو ليصبح أمامها، هتف بحزن: هو أنتِ زعلانة من ساعة سوء التفاهم اللي حصل عندنا.
قصد ذلك اليوم حين أخبرتها والدته بأنه يحبها ودخل هو فجأة لينفي هذا وينكره بشدة وكأنه جرم بل ويصرح بأنه يريد الزواج من آخرى.
رفعت رفيدة كتفيها هاتفة بتصنع الاستغراب: وهزعل ليه؟، أزعل دي لو في حاجة عندي من ناحبتك، لكن أنت أخويا يا عز.
ردتها له كما أتلف هو بها أعصابها كثيرا، جاهد لكي لا ينفعل وهو يسألها: متأكدة؟
ابتسمت بتهكم لترد على سؤاله بآخر: مش أنا أختك برضو؟
لم تنجح محاولته، لقد تلفت أعصابه بالفعل، انفعل وهو يرد على سؤالها: لا مش أختي.
انكمش حاجبيها وقبل أن تهتف بأي شيء وضع كفه أمام وجهها طالبا منها السكوت وصرح هو للمرة الأولى: أنا بحبك يا رفيدة.
ولو قولتلك إني عرفت يوم من أول ما وعيت على إني بحبك أحب غيرك أبقى كداب.
جمدتها الصدمة، الصدمة وشعور آخر جعلها وكأنها تحلق في السماء، وكأن العالم توقف ولم يعد به سوى عز، سوى من أسرها بخصاله الطيبة، ومواقفه التي لا تدل إلا على أنه رجل يُعتمد عليه، ولم يعرف هو كيف قالها، كانت كالحمل الثقيل والآن تحرر وعبر عن مشاعره، ولا يصدق حتى هذه اللحظة بأنه أخيرا اعترف لمن احتلت قلبه سنوات وكانت نظرة منها فقط ترضيه في وقت لم تكن هي تراه فيه من الأساس، ولكنه على يقين الآن من أن قلوبهما تلاقت وصفت ولذلك رأت.
جالسة على الدرج في إحدى زوايا جامعتها، تدون شيء ما وهي تتناول مشروب الفواكه الذي ابتاعته ليخفف من حرارة الأجواء هذه، لم تنتبه بمن جلس جوارها إلا حين قال: مريم.
استدارت فلم يكن سوى حسن، ألقت عليه نظرة مشتعلة وجمعت حاجتها سريعا وهبت لتقف وترحل وما إن تحركت حتى لحق بها قائلا: طب استني نسيتي دول.
قصد قلم الرسم الخاص بها ومحفظتها، انتشلتهم منه بضيق، وأكملت طريقها، لم يتعرض لها طوال الطريق، فقط كان يسير في الخلف في طريقه للعودة هو الآخر، لا تعلم أين سيارته وحين سألت نفسها منعتها سريعا عن الاسترسال في السؤال عن أي شيء يخصه، قطع سيرها صوت إحداهن تقول: يا أبلة مريم.
استدارت فتعرفت عليها، سيدة في القرية تتردد كثيرا على المحل الخاص بهم، لذلك تساءلت بقلق: في حاجة يا أم ابراهيم؟
أعطتها ابتسامة واسعة وهي تقول: لا يا حبيبتي كل خير ان شاء الله، أنا بس كنت عايزة أتكلم مع الست هادية في موضوع بس قولت أفاتحك الأول.
في هذه اللحظة أنصت حسن تماما بل وتوقف عن السير أرضا مما جعل السيدة تطالعه باستغراب سائلة عن سبب وقوف ابن كبير قريتهم هكذا: مالك يا أستاذ حسن في حاجة؟
حاجة بس وقعت مني بدور عليها.
قالها متصنعا بأنه يبحث عن شيئا ما على الأرض و هتفت السيدة بحماس: طب والله أنت فيك الخير، عايزة اسألك سؤال قدام الأبلة، إيه رأيك في ابراهيم ابني؟
مسح حسن على وجنته وقد بدا الانزعاج على وجهه ولكن نجح في تحجيمه وهو يسأل: من ناحية إيه؟
استنكرت رده و أردفت: من ناحية كل حاجة يا أستاذ حسن، راجل وشهم ويُعتمد عليه ولا لا، عمركوا سمعتوا عنه حاجة زي شباب اليومين دول التالف اللي بيجروا ورا البنات.
أرادت مريم أن تقول: ما هو أنتِ مينفعش تاخدي رأي واحد من شباب اليومين دول التالف.
ولكن لم تستطع بسبب قول حسن الذي أراد مجاراة السيدة لمعرفة ما تريد وتأكيد ظنونه: لا الشهادة لله، ابراهيم بتاع واجب.
أسرعت تضيف محدثة مريم: والله يا حبيبتي ولا عمره سيجارة دخلت بوقه، ومتغرب وبيعرف يعمل القرش
وهنا قاطعها حسن معترضا: امال أنا بشوفه بيشتري سجاير ليه؟
كان كاذب ولكن السيدة لم تعطه الفرصة بل قالت باستغراب: ابراهيم ابني؟، محصلش تلاقيك بس اتلغبطت بينه وبين واحد تاني، وبعدين هتشوفه فين ده مسافر يا أستاذ حسن بينزل كل فين وفين
أنا إيه علاقتي بكل ده؟
سألتها مريم وقد طفح كيلها فردت الواقفة أمامها بابتسامة واسعة: الصراحة كده يا حبيبتي أنا عايزاكي لابراهيم.
قول جعل الوقف يهمس بنبرة سمعتها مريم القريبة منه: ده أنا هكسر اللوحة اللي في ايدي دي على دماغ ابراهيم.
فردت عليه مريم الواقفة جواره بنفس همسه: أحسن منك، راجل محترم وشقيان علشان أهله، مش شقيان بيلف ورا أي تاء مربوطة معدية.
أثارت غضبه وكانت سترد على السيدة ولكن منعها قوله: مريم لسه صغيرة يا حاجة على الكلام ده.
ولكن صدمته مريم حين قالت بابتسامة: حضرتك تقدري تتكلمي مع ماما في الموضوع ده وتشوفي رأيها هي، واللي فيه الخير يقدمه ربنا.
ماذا تفعل، تساءل وهو يراها تفتح بابا للسيدة من أجل أن تأتي بصفة رسمية، لن يحدث هذا ما قاله بإصرار وهو يراها ترحل وكأنها لم تفعل شيء، بعدما أخبرت السيدة بما لديها ولكن بالنسبة له كانت تصريحاتها هذه إعصار مدمر.
افتقد الجسر كثيرا، ذلك المكان الدافئ في قريته والذي اعتاد أن يجلس عنده بمفرده، فقط هو والبحر وحينما ظهرت ملك أصبحت صديقتهما الثالثة، أوقف عيسى سيارته وقد وصل إلى الاسكندرية تحديدا إلى مكانه المفضل، كانت ملك نائمة فناداها هاتفا: ملك اصحي.
لم تستجب، بدا عليها التعب فعليا، وارتفع صوت هاتفها الموضوع في الحقيبة، فقال ثانيا: ملك تليفونك طيب.
تململت ولكن لم تستجب فسحب الحقيبة بغيظ وفتحها للبحث عن الهاتف حتى يرد هو بدلا عنها، النساء وأفعال النساء هذا ما هتف به داخل رأسه وهو يرى حقيبة يدها قد احتوت على أشياء كثيرة ازدحمت بداخلها، تارة تقع يده على علب العلكة، وتارة دبابيس، ولكن لفت نظره شيء جمده، علبة أقراص تشبه تماما هذه التي أعطاها له نور لتساعده في العلاج، اتسعت عيناه بغير تصديق، وأخرج علبته التي وضعها في السيارة ليقارنها بما معها، إنها نفسها تماما، لما بحوزتها هذه!
لم يكن النداء رقيق هذه المرة بل كان جامدا وهو يهتف: ملك.
لم يكرره سوى مرتين و استيقظت هي، تطلعت حولها لتدرك أين هما، وحين علمت هوية المكان، الجسر الواقع بالقرب من منزل والدتها، نزلت من السيارة بابتسامة وهي تطل على البحر هاتفة: المكان هنا كان واحشني أوي.
دي معاكي ليه؟
رفع علبة الحبوب أمام وجهها فشعرت وكأن الدماء تجمدت في عروقها، ابتلعت ريقها بتوتر وأسرعت تبحث عن حل ينقذها ولكن بدا كذبها من نبرتها المرتبكة: ده مهدأ باخده دكتور نور كان كتبهو…
بتر عبارتها بقوله الذي ظهر فيه غضبه جليا: متعودتش إنك كدابة، العلبة دي معاكي بتعمل إيه؟
مارس ضغطه عليها فهتفت بالحقيقة لتتحرر من هذه الضغوط: قبل ما توافق تقابل دكتور نور، أنا كنت حكياله حالتك وهو كان قايلي إن ده ممكن يريحك لما تتعصب.
لم ترد قول الحقيقة، قول أن نصران هو من أجبرها على أخذ هذه العلبة للحالات الطارئة وقد وصفها له نور لحالة ابنه.
ضحك عيسى ساخرا وهو يسألها: قالك استغفليه وحطيهوله صح؟
هزت رأسها نافية سريعا: ده مش استغفال يا عيسى.
بالنسبالي اسمه كده.
قالها بنبرة عالية جعلتها تنتفض، وعلى إثرها هتفت بدفاع: العلبة اللي قدامك دي كاملة، أقسم بالله العظيم أنا ما حطتلك منها ولا مرة، والمرة الوحيدة اللي نويت أحطلك فيها رجعت في آخر لحظة، أنا بس كنت عايزة أساعدك.
أشار لها بالنفي وهو يعلق بتهكم: لا سيبك من اساعدك دي، أنتِ قولتي اللي ميجيش بالذوق هيجي بالعافية، على فكرة أنا باخد من الحبوب دي دلوقتي بس بمزاجي علشان أنا كنت عايز.
أثار غضبها وجعلها تقول بانفعال: يعني إيه كنت؟
رد وهو يمسك مرفقها وقد أطلق لغضبه العنان: يعني لو أنا عايز أعمل الحاجة أعملها، إنما تغصبيني عليها ومن ورايا كمان وكأنك شايفاني عيل صغير مش مهم رأيه حتى في حاجة تخصه، مش مهم الحبوب دي هو هيبقى مستعد لأثارها ولا لا.
حاولت سحب ذراعها وهي تهتف دافعة عن نفسها كل ما سدده لها من اتهامات: وأنا علشان كده، محطتلكش منها، بص مكتوب عدد الأقراص على العلبة كام، وعد اللي في العلبة
عدد الأقراص 15 وعد هو ليخبرها بسخرية: 13 قرص
أيوه علشان أنا قولتلك إني حطيت قبل كده واتراجعت في آخر لحظة، والله العظيم ما اديتك منها خالص.
قالتها وقد داهمتها الدموع وتجمعت في مقلتيها، لم يكن في حالة تسمح له بسماع أي شيء منها، ترك مرفقها وأشار لها بعينيه قائلا: روحي يا ملك.
طلبت منه برجاء: طب نتكلم.
بقولك روحي.
قالها بانفعال وحين طالعته بحزن وضع العبلة في كفها قائلا: امسكي دي متخصنيش، دي تبعك أنتِ.
كلمات موحية تضربها في مقتل، تتذكر كم رفضت، كم قالت لوالده بأن ابنه لن يستجيب بطريقة كهذه وإن عرفها سيدمر كل شيء ولكنه لم يستمع لها، لتسقط الخيبات على رأسها وحدها الآن.
رأته وهو يعبر إلى الجسر، جلس بمفرده وقد أعطاها ظهره بينما ووقفت هي في الخلف تتأمله بدموع، بالتأكيد خذلان هو ما يشعر به كلاهما الآن، طالعها بخيبة مزقتها، و طالعته بدموع فتكت به.
شعور يعلم كلاهما بأن مرارته مميتة، وخاصة وإن أتت ممن نحب، فالخذلان منهم لا ينسى مع الأسف أبدا، لتردد روح كل منهما: لم أتوقعها منك.
لم يتوقع أن ترغمه، ولم تتوقع أن يعطيها ظهره بينما قلوبهما تبادلت الهتاف: فعلتها من أجلك.
وليس هناك أصدق من حديث هتف به قلب عشق حتى أغرقه العشق.
التعليقات