رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السادس
من كتابها خُلق القلب عصيًا:.
-لقد جئتني في الوقت الذي أدركت فيه أن لا فائدة للحُلم، جئت لتحرق أحلامي الوردية التي تنتظر على ناصيتها الفارس صاحب الحصان الأبيض وقصر الهوى الذي سيشهد على ضحكاتي الرغدة. جئت بعيد كل البُعد عن خيالي، ومع ذلك نسيتُ أميري وأحببتك بثيابك المهلهلة ووجهك المُشحم وسقطت في وادٍ عيناك التي رسمت لي الحب جسرًا وأشتهيت المرور عليه بكامل إرادتي. أحببتك وأنت لا تنتمي لأحلامي. وفارقتك كعقوبة من قاضٍ الهوى الذي تمردت على قوانينه ورضيتُ بأقل مما هفا له فؤادي…
رسيل المصري.
تبدلت ملامح وجهه الساكنة بقُربها وثارت عريكته التي تحولت لغضب يحرق كُل ما يُقابله. أنصت لصوت دقات قلبه التي ازدادت فجأة وابتعدت عنه بعد ما أرجعت خصله من شعرها وراء أذنها وسألته: -حصل حاجة.
انتهى من كتابة رسالة نصية ليسري يؤكد عليه أن يتبع خطوات المدعو قاسم وسيتواصل معه صباحًا، قفل شاشة هاتفه بعد تلقيه لتلك الصاعقة التي لم يعد يتحمل بعدها كارثة وآخرى و رد بنفي: -لا متشغليش بالك أنتِ.
حدجته بنظرة تكذيب: -متأكد؟
غير مجرى الحديث وسألها: -بقيتي أحسن دلوقتِ؟
أومأت بخفوت: -أنا تمام. أحسن شوية.
احتوى كفها بحنو مفرط وقال وهو يناظر نجوم عينيها اللامعة: -وأنا مش عايز أشوفك غير في أحسن حال.
أطال التأمل بسمائها معلنًا لقلبه حقيقة تمسكه بها: -وأدركت أن مبرري و شغفي بهذهِ العُزلة معك أني أجدُ فيكِ ما لا أجدهُ وأنا مع الناس، قُربك مرآتي التي أكُون أنا فيها على الحقيقة بلا لونٍ آخر. يحيى المرء بفضل تلك الأشياء النادرة. وقلبي حيي بكِ.
وصلت رسالته لقلبها فانتفض من مكانه واهتز كيانه وقالت لتهرب من تلك الورطة التي لا مفر منها: -أنا هقوم أنام. بعد أذنك.
وثب أمامها بقامته العالية وهيبته الشامخة ووقف أمامها قائلًا بعرفان: -شُكرًا لأنك كُنتِ لطيفة معايا قُدام البنات، وبالعكس انبسطوا أوي.
بعدت عيونها عنه وقالت بجمود: -ده عشان خاطر البنات وبس.
تبسم لعنادها الطفولي وقال: -وأنا راضي يا ستي.
ثم تنهد بتعب: -يلا روحي نامي، وأنا هنام هنا.
رغم رفض دواخلها لقراره إلا أنها اكتفت بإيماءة خافتة ونظرة أخيرة من مقلتيها وانسحبت بهدوء تجر ذيول تخبطها وحيرتها. أخذ يُتابع حركتها في الممر حتى أختفت توقفت على باب الغرفة وألقت عليه نظرة لم يفهمها واختبأت بعدها محتمية ب الجدران التي تفصل بين قلوبهم التائهة.
ظل قلبها يخفق بشدة خاليًا من مشاعر الغضب التي استبدلت بمشاعر السلام المحيطة بقلبها كالغيمة الباردة التي تتوق لقوسي شمسه لتتلاشى بينهم كأنها لم تكن. أمسكت برأسها المعترضة على طيشها ومراهقتها التي لا تليق بإمرأة واعية مثلها وقالت بحزم: -الجنان ده مش هينفع. لازم يكون في حل!
ثم ألقت نظرة على ملامحها بالمرآة وسألت قلبها الصاخب: -أنتِ عايز أيه بس؟
أما عنه تمدد على الاريكة رافعًا ذراعه فوق جبهته ثم زفر بضيق: -ولما نشوف موالك أيه أنت كمان يا قاسم أفندي.
ثم نهض سريعًا وفحص هاتفه للمرة الثانية التي اكتشف فيها ما حل ب عالية وما فعله مراد نهار أمس، بدون تفكير أخذ مفاتيحه وفارق المكان هائمًا على وجهه متوعدًا: -وشرفي ما هرحمك يا ابن المحلاوي.
عودة ل قصر دويدار
-من وقت الحفلة وأنا مش ملاحقة على الكوارث والله يا فريد.
قالت عبلة جُملتها وهي تتمدد على فراشها بكلل بعد يومٍ متعب استنفذ كل طاقتها، أشعل فريد سيجارته واتجه نحو مخدعه وهو يهاتفها بنبرة الخداع والمكر: -مش أنا قايل لك أي مشكلة تكلميني على طول. ولا أنتِ مش واثقة في فريد.
-لا لا يا فريد بيه، بس محبتش اشغلك بمشاكلي، أنتَ آكيد عندك حياتك وشغلك.
ثم غمغمت بتخابث: -ومراتك،؟
اندلعت منه ضحكة مرتفعة وقال: -أولًا أنا مش متجوز، ثانيًا بقا وده الأهم عبلة هانم المحلاوي تتكلم في أي وقت، والشغل وحياتي كلها تقف عشانها.
تبدلت ملامحها الفضولية لأخرى منتصرة وقالت بدلالٍ: -ده كتير والله.
-ولا كتير ولا حاجة، المهم حصل أيه معكر مزاج الهانم، احكي لي.
في الغرفة الثانية.
التي يقطن بها تميم وزوجته، أحضرت شمس كوبًا من مشروب الينسون الدافئ له ووضعته بجواره بعجز وهي تعاتبه بعيونها: -لازم تنام شوية، السهر ده هيتعبك أكتر.
رد باختناق: -أنام أيه بس يا شمس، وده وقت نوم! أنتِ مش شايفة المصايب اللي بتتحدف فوق دماغنا.
جلست أمامه على طرف السرير وقالت بهدوء: -من حقك تقلق، بس من كلامك حسيت أن مراد شخص محترم مش زي أخته ومامته. يعني آكيد مش هيأذي عالية.
مش كده!
تنهد بضيق شديدٍ لعجزه وقلة حيلته: -نار الغضب بتحرق الأخلاق والعقل، وعالية ولعت نار هي مش أدها. مفيش راجل هيبقل الإهانة دي ويسكت.
ثم ختم جُملته بقضبته القوية التي فرغت غضبها ب الكومود وأكمل بعصبية: -والدليل أهو اختفى ومحدش فينا عارف يوصلها. أنا هبلغ الشرطة.
-استنى بس، متكبرش الموضوع، دي في الأول والأخر مراته يعني ممكن تلاقيهم اتصالحو دلوقتِ وبقيوا سمن على عسل.
ثم ارتسمت ابتسامة خفيفة على ثغرها كأنها تذكرت شيئًا فاحت رائحة ذكراه وقالت بشرود:
-فادية الله يرحمها، لما كنت اتخانق أنا ونوران مكنتش تدخل بينا خالص، كانت تقولنا اتنين ما ينفعش تدخلوا في مشاكلهم مهما حصل، واحد ومراته، واتنين أخوات. المتجوزين بينهم صلة روح، والأخوات صلة دم. وأي طرف تالت هيبوظ مش هيحل.
رمقها بإعجاب ثم تمتم: -يارب يا شمس، أنت متتصوريش عالية دي مش أختي وبس، لولا الظروف كنت هعرف احميها كويس.
ثم عادت ملامحه المنكمشة مرة آخرى: -بس وديني لأرد لك القلم اتنين يا مراد، عشان تعرف تبلطج وتمد إيدك على أختي.
قطع حوار صوت صخب سيارة عاصي التي اقتحمت ممر القصر بسرعة متناهية. ركضت شمس نحو النافذة وقالت بلهفة:
-عاصي جيه.
تحرك تميم بمقعده بسرعة نحو الباب فلحقت به شمس: -استني رايح فين!
هبط تميم على المنحدر الملاصق للسُلم الذي خُصص لأجله ليواجه أخيه معلنًا الحرب بينهم: -أهي كل المصايب دي بسببك. شوفت أخر تهورك وعنادك! مين دفع التمن دلوقتِ غير عالية المسكينة.
-هو أزاي الحيوان ده يتجرأ ويتهجم على البيت بالهمجية دي!
قال عاصي جملته بصوت كالرعد أيقظ أهل القصر، قفلت عبلة مع فريد بسرعة وارتدت روبها الحريري وخرجت إثر مصدر الصوت، خرج تميم عن صمته الذي طال لسنوات وقال:.
-الهمجية مش بتولد غير همجية زيها، أنتَ اللي هنت أختك لما اجبرتها تتجوزه، وأدي النتيجة مش عارفين هي فين ولا ممكن يكون عمل فيها أيه.
خرجت هدير من غرفتها وعلى المقابل كانت عبلة تركض على درجات السلم بلهفة وذعر: -أيه! صوتكم عالي كده ليه؟ أنتوا فاكرين بالزعيق ده حل!
ثم اقتربت من عاصي وحدجته معاتبة: -ولا حضرتك لسه فاكر أن ليك أهل وبيت مسئولين منك! لسه راجع دلوقتي تدور على أختك؟
نفض دخان غضبه الحارق بوجهها: -ابن اختك لو لمس شعره من عالية أنا هنسفه من على وش الأرض.
ثم وجه نظره لهدير وأكمل بعواصف غضبه مهددًا: -وصلي الكلام ده لأمك. أخوكي لو مظهرش أنا هخليه يتمنى الموت ومش هيطوله.
ساد الصمت للحظات يتبادل فيها الجميع النظرات حتى تدخلت شمس قائلة: -ممكن تهدوا، ده جوزها ومهما كان سوء الفهم مابينهم ه يتحل.
تحولت أنفاس الجميع لدخان يحترق عقد ضبابة سوداء فوق رؤوسهم، هاتف عاصي رئيس الحرس بغلظة: -تعالالي…
في تلك اللحظة سمعوا صوت وقوف سيارة بالخارج وحارس الأمن يهاتف عاصي بواسطة اللاسلكي المعلق بالبيت: -عاصي بيه، مراد بيه وعالية هانم دخلوا القصر.
ركض عاصي هائمًا على وجهه وتابعه الجميع بلهفة، هبطت عالية صاحبه أعين السمك الميت، عيونها الجاحظة ولكنها مُغيبة تمامًا عن الوعي. انطلق عاصي إلى السيارة وهجم على ياقة مراد وسحبه من السيارة صارخًا بوجهه: -انزل…
هرولت عالية لتفصل بين شجارهم صارخة: -عاصي أنت مش فاهم حاجة. سيبه.
دفع عالية من أمامه بيساره تابعتها يمينه بلكمة قوية تحت عينه وصرخ بوجهه: -أنت بأي حق تتهجم على بيتي بالسلاح وتمد أيدك على أختي! دا أنا انسفك من على وش الأرض يالا!
دفعه مراد بقوة ليتخلص منه، وعاتبه بغضب: -لسه فاكر أن ليك أخت؟ أختك اللي رميتها عشان بس صورتك قدام الناس ومكانتك؟ عشان تنفي شوية إشاعات!
ثم ثبت عيونه بعيني عبلة: -ولا خالتي اللي معتبتش بيتي تطمن على بنتها؟ كأنها بيعة وصدقتوا ما خلصتوا منها؟
فأشار بسبابته نحو صدره: -أنا أه غلطت وغلط مش هسامح نفسي عليه من أول ما قبلت بالجوازة دي. قبلت ادخل لعبة رخيصه واستخدم حد ملهوش ذنب عشان احقق اللي عايزه!
بلل حلقه ثم أتبع: -بس اللي عايز أوصل له معماش قلبي؟ ولا خلاني أقرب من واحدة لسه مش عارفة مشاعرها أيه ناحيتي! أختك دي أنا غلطت في حقها زيكم بالظبط ومهما حاولت أعوضها مش كفاية، الطريقة الوحيدة اللي ترجع بيها لنفسها هي أني اطلقها. علاقتي بأختك بقيت مستحيلة، أهي عندك ملمستش فيها شعرة.
ثم أخفض نبرته منبهًا: -بس يا ريت تعرف تحافظ عليها وتحميها زي ما أنا عملت.
مجرد ما أنهى حديثه صعد سيارته على الفور وغادر لعنة ذلك القصر بسرعة، اقتربت عالية من عاصي ومسكت يده وقالت بأنين ضعف: -أنا كويسة، محصلش حاجة.
أطرق نظراته بصدمة مما سمعه ولم يتحمل النطق بشفا كلمة، اكتفى أن يضمها إلى صدره ويربت على ظهرها بحنان ثم همس معتذرًا: -حقك عليا يا عالية. كل واحد غلط في حقك وأولهم أنا لازم يتعاقب.
تدفق سيل دموعها الذي لم يتوقف وقالت باستسلام: -كلها دروس عشان نتعلم منها، وأنا اتعلمت واتعلمت كتير أوي. متحملش هم ذنبي، أنا المذنب الوحيد في كل ده، أنا اللي كنت بقول حاضر على حساب نفسي وحياتي. أنا اللي كان لازم اتعاقب وأهي الدنيا مقصرتش معايا…
أردفت كلماتها ثم انسحبت بهدوء، بدون كلمة واحدة مكتفية بالمعارك الطاحنة الدائرة بها. تود أن تبحث عنها وعمن تكون في داخلها في وسط الزوبعة العاكسة للاوهام، فلم تجد إلا دخانًا قد تلاشى مع بقية الأرواح المهاجرة بعد كل كارثة حلت بها.
اندفعت هدير نحوه وأخذت تربت على كفته بثقة وقالت: -معلش يا عاصي متزعلش نفسك. يلا تعالى ارتاح في أوضتك.
حدجها باشمئزاز ثم ابتعد عنها بدون كلام، جاءت عبلة من الخلف متنهدة: -الحمد لله عالية بخير، هنام وانا مطمنة عليها. بالحق بناتك فين يا عاصي؟
أغمض عيناه طويلًا ثم أجاب بملل: -عند خالتهم مروة.
مجرد ما أردف جملته رحل مُفارقًا ساحة القصر متجهًا إلى غُرفته، مالت شمس على آذان تميم قائلة: -تعالى نطمن على عالية.
ما زالت عبلة تحت سطو ذهولها ثم صرخت لنفسها بإعتراض: -البنات بيعملوا أيه عند مروة!
تمتمت هدير ببراءة مزيفة: -أنا هروح اطمن عليه.
انصرفت هدير محددة وجهتها وهي غُرفة نومه، مجرد ما دخلت وجدته مُلقيا على مخدعه بحذائه الذي لم يتكلف ويخلعه. اقتربت منه بهدوء الحية قبل أن تلذع فريستها وقالت بلين: -معقولة نمت بالسرعة دي!
ثم جلست بجواره وأخذت تداعب جدائل شعره بدلال حتى وشوشت إليه: -أي رأيك في حمام دافي ومساج يخلي كل الهم إلا على وشك ده يفك.
لم يتكرم ويفتح جفونه حتى لا يرى وجهها الذي يذكره بأخطائه الكبرى: -أطلعي بره يا هدير.
ببرود: -هطلع بس لما اطمن عليك بقيت كويس ولا لا.
فرغ من مرقده ثم خلع حذائه بكلل ورماه بعشوائية. شد العظاء فوق جسده متجاهلًا وجودها تمامًا وخلد إلى النوم، لم تتحرك من جانبه إلا لتنزع سترتها الفضفاضة مكتفية بملابس النوم وتمددت هي الأخرى بجانبه.
صباحًا
لم يتحرك مراد من مقعده الذي احتواه طوال الليل وملابسه المُقيدة لحركته. أحس بأزميل الفراق بدأ ينخر في قلبه، بات صدره وبيته خاليًا من وجودها للأبد، بات طيف وجودها يحاصره بكل مكان. من بداية قسوته معها لنعومة أيامهم سويًا. مر شريط الذكريات سريعًا حتى نطق عقله ليحسم المعركة:
-مكنش ينفع، أنتِ اللي اخترتي يا عالية.
أما عنها ؛ فلم يزر النوم عينها للحظة، كل ما بها ساكن تحت صاعق الصدمة، صدمة الكلمة أنتي طالق و الفراق وتبدل حالها لحال أسوأ، تجلس تحت الشرفة كالقرفصاء تناجي الليل والنجوم أن تدل حيرتها. لم تفارق هاتفها الذي كل حين وآخر تلقي عليه نظرة متأملة في اتصال حتى ولو بالخطأ منه.
ثم تدفق إلى قلبها سيل الشوق والحنين إلى التحدث مع الله كما كانت تفعل كل ليلة. نهضت بهدوء للتوضأ ثم افترشت سجادة الصلاة وبعد وقت طويلٍ من السجود خرت باكية ومناجية:
– أعلمُ أنك لن تتركني وأنني في عنايتكَ وأنك ستدلني كلما تهتُ وستعيدني إليك كلما ابتعدتُ، وأعلمُ أنك تسامحني أكثر مما أستغفر، وتحرسني أكثر مما ألجأ، وتحميني أكثر مما أحذرُ، وتُحبني أكثر مما أطيعُ.
وأعلمُ أنني بئس العبدُ، وأنكَ نِعم الرّب
أستغفرك وأتوب إليك يا عظيم ولا حول ولا قوة إلا بكَ
نهضت نوران على صوت نحيبها الدفين فغاصت هي الأخرى في البكاء لانها لا تملك وسيلة لتهون عليها بل شاركتها في الهم والدمع…
فتح عاصي عينيه مازال الغضب والنفور يحاوطه وتيقن من مصدره عندما ولى وجهه وجد تلك الأفعى تتوسد مخدعه وتطوقه بذراعها، رماه بعيدًا ثم قال بضيق وهو ينفث دخان غضبه بقوة، نهضت هدير متخذة دور الزوجة الحنونة:
-حبيبي نمت كويس!؟
رد بإختصار: -لأ…
قامت خلفه: -ليه.؟
-عشان مش بحب حد ينام جمبي.
اقتربت منه متعمدة إثارة غضبه وتغنجت: -حبيبي هو أنا وابنك حد! على فكرة أنا كنت همشي بس ابنك هو اللي صمم، شكله محبش يسيبك وأنت مضايق.
ثم غمزت بعينيها: -مهنتش عليا.
تجاهل الشجار معها وشرع في خروج ملابسه من الخزانة ففوجئ بها تمرر أناملها على جدار عنقه وتقول: -أنت هتاخدني بذنب مراد ولا أيه.
رد بتأفف: -لا متقلقيش كل واحد سجله عندي مليان وزيادة.
-يعني أيه.
ولى وجهه إليها: -تعرفي أنا عملت في حياتي جرايم كتير ومندمتش على حاجة فيهم. إلا جريمة واحدة هفضل ادفع تمنها عمري كله، وهي أني اتجوزتك.
استقبلت إهانته ببرود وحاولت تلطف الأمر معه وهي تعانقه بدلالٍ: -أخص عليك يا عاصي، تصدق أن دي أحلى حاجة في حياتي إني اتجوزتك.
أجابها بفتور: -طبيعي. عشان حياتك كلها مفيهاش حاجة عدلة ياهدير.
ثم اسقط ذراعيها من عليه واقترب منها بابتسامة غامضة حتى اندمجت انفاسهم وهمس إليها بتخابث: -حطيتي أيه لحياة في العصير؟
رفرفت رايات الصدمة على ملامحها وهي تغمغم: -أنت عرفت أزاي!
ابتسم بانتصار ثم قال: -كنت متأكد أنك أنتِ اللي وراء الحركة الرخيصة دي! مش بقولك كل واحد دفتره مليان عندي.
هتفت مبررة: -أنت بتقول أي جنان وخلاص! مالي أنا ومالي بست بتاعة دي.
اخفض نبرته: -أهدي يا هدير! أنا بسألك بس عشان عايز اعرف اسمه ايه، مش يمكن احتاجه تاني.
توترت قليلًا: -أنت بتقول أيه! لو عايزني امشي من البيت قول لي امشي يا هدير لكن مش تتهمني بحاجات عشان تطلعني وحشة كدة.
-أنا مش محتاج مجهود عشان اظهرك على حقيقتك كل حاجة واضحة وضوح الشمس. بس انا ماشي معاكي بمبدأ خلي عدوك تحت عينك تسلم.
ثم انقض على ذراعها واحتدت نبرته المرعبة وصرخ بوجهها: -أنا لو وريتك وش دويدار الحقيقي هتتمني الموت، وللمرة الألف بقولهالك طلعيني من دماغك يا هدير.
-بلاش يا عاصي، بلاش تحطني في خانة العدو عشان مجربتش عداوتي.
اشعلت نار الانتقام برأسه من عائلة المحلاوي، فثارت عواصف غضبه معلقة بشعرها وشدها بعنفوان وهو يجهر: -بس أنتِ مجربة…
فتح باب غرفته تحت صوت صراخها ودفعها بكل قوته بعيدًا عنه فاختل اتزانها وتكومت لتأكل بجسدها منحدر السُلم الطويل وهي تستغيث صارخة.
هرول الجميع إثر صوتها الصاخب وصرخات استغاثتها، أما عنه فوقف ثابتًا يشاهدها بصدمة، فلم يسعى لأذيتها بهذه الوحشية، ركضت شمس ثم تابعها نوران وعبلة نحو مصدر الصوت. جلست شمس على ركبتيها وحاولت إفاقتها فوجدتها تغيبت عن الوعي وفقدت إدراكها.
تفوهت عبلة بصراخ: -اطلبوا الإسعاف بسرعة دي بتنزف…
فتحت حياة جفونها المُطلة على الفتاتين اللاتي ملن الانتظار بمفردهن. تفوهت بصوت متكاسل: -أنتوا صحيتو بدري ليه؟
تاليا ببراءة: -اتعودنا عشان المدرسة كل يوم.
أفسحت لهم مكانًا: -طيب تيجوا تنامو جمبي؟
داليا برفض: -أنا جعانة عايزة أفطر.
ثم أيدتها تاليا: -وأنا كمان جعانة.
أحست حياة إنها بورطة جديدة، نهضت بتكاسل وهي تلم شعرها: -هو بابي مش بره؟
هزت تاليا رأسها يمينًا ويسارًا: -لا. بابي خرج.
أصدرت حياة إيماءة خافتة: -طيب تحبوا تفطروا أيه؟
لم تلق منهم أي رد ثم أكملت: -تعالوا نفكر ف المطبخ!
خرجت حياة من الغرفة ثم اتبعها البنتين وشرعت في إعداد وجبة الأفطار، سألتها داليا ببراءة: -أنطي. ممكن اسال سؤال؟
أخرجت حياة الخبز المجمد من المبرد ووضعته بالفرن الكهربي وقالت: -اتفضلي طبعًا.
-أنتِ بتحبينا.؟
-آكيد طبعًا وبحبكم أوي كمان.
-وبتحبي بابي!
ظلت ترمقها بنظرات خرساء ثم قالت بذهول: -ليه السؤال ده يا داليا؟
-مش عارفة، بس أنا بشوف بابي فرحان أوي هنا.
ثم تدخلت تاليا: -أنطي، حضرتك ليه مشيتي من القصر؟
-والله يا توتا السؤال ده يجاوب عليه بابي، مش أنا. هو اللي عايز كده.
ثم جاءت بسؤالٍ جديدٍ: -أنطي، أنتِ وبابي متجوزين. مش كده؟
غمغمت بتيه: -والله منا عارفة حاجة؟
ثم جهرت بصوت مسموع: -ااه. اااه يا حبيبتي.
-يعني أنتِ تبقي مامي؟
تتزاحم الأفكار في ذهنها فلم تستطع تميز شيئا منها سوى إيماءة خافتة ثم قالت: -ااه، طبعا مامي عند ربنا. بس أنا موجودة هنا لو احتجتوا أي حاجة.
طلبت منها الصغيرة بترجي: -طيب ممكن تبقي تروحي معانا المدرسة عشان صُحابي يشوفوا ويصدقوا أنك مامي بجد.
-ان شاء الله يا حبيبتي.
ثم أردفت تاليا سؤالًا أحدث رجة بصدرها: -أنطي. لو جبتي بيبي هيكون أخونا الصغير؟
-أيه!
ثم بللت حلقها ونبرتها المبحوحة وقالت: -ليه الكلام ده يا توتا.
-عشان نفسي يكون عندنا بيبي صغير نلعب بيه أنا وداليا. بس مامته متكونش أنطي هدير عشان مش بتحبنا. ولا أحنا كمان بنحبها.
هربت حياة من قسوة اسئلتهم على رائحة الخبز المحترق وقالت بفزعٍ: -العيش اتحرق…
جاء عاصي في هذه اللحظة، فسمع البنات صوت مفاتيحه فركضن فارحين مهللين بقدومه، تنفست حياة الصعداء وأخرجت زفير اسئلتهم المحرجة وقالت لنفسها: -اهدي اهدي. دول عيال صغيرين. هتعملي عقلك بعقلهم!
ثم عادت لتكمل الفطار بفوضى وعدم تركيز ولم يصدح برأسها إلا طلب البنات الغريب، وضعت كفها على قلبها النابض ثم جوفها فقالت برفض قاطع: -مستحيل. أنا أخلف من البني آدم ده!
استلمن الفتاتين رأس أبيهم الذي خلع هموم القصر بخلع حذائه أمام الباب متناسيًا أمر هدير التي تجهض بالمشفى، سُحب بواسطة بناته إلى المطبخ وسألته أحدهم:
-بابي أنت روحت فين؟
-روحت شغل ورجعت أهو.
ثم رفع صغيرته على بار المطبخ وأكمل بصوت عالٍ: -مقدرتش أبعد عنكم أكتر من كده. لقيت قلبي مجرور لعندكم وسايب شغل أد كده ورايا.
ثم حمل الثانية بجوارها وهي تقول بسعادة: -بابي أنا مبسوطة أوي.
-ليه، فرحيني معاكي.
قالت داليا ببراءة: -اتفقنا مع أنطي حياة هتجيب لنا بيبي نلعب بيه. أيه رأيك؟
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه وهو يجيب: -وأنا جاهز جدًا، بس هي تأشر بس.
سألته بجزل طفولي: -أحنا هننزل نشتريه سوا من عند الدكتور؟
قهقه عاصي بصوت عالٍ جعله يتناسى همومه المتكدسة ويهرب إلى ملاذه الوحيد بين صخب الحياة، رصت حياة الأطباق على الطاولة ثم نادت بحدة: -الفطار جاهز.
تاليا بمرح: -يلا يا بابي نفطر.
ملأ الرباعي أضلاع السفرة المُربعة وشرعوا في تناول فطورهم بصخب مفعم باسئلة بناته ومزاحه معهم حتى غمز لها بطرف عينه متسائلًا: -سرحانة ومش معانا خالص على فكرة.
لكت اللقمة في ثغرة ثم ابتلعتها برشفة ماء وقالت: -لا أبدا شبعت.
ثم وثبت قائمة وهربت من نظراته الحارقة ودخلت غُرفتها، مسح ثغره ثم دخل وراءها بعد ما أكد على صغاره بتناول إفطارهم كاملًا، ومجرد ما قفل الباب خلفه قال:.
-أنتِ زعلتي ولا أيه؟ أنا كنت بهزر على فكرة.
جلست على طرف السرير وسألته بجفاء: -أنت جبتني هنا ليه؟
حرر أول زرارين من قميصه ثم فكر طويلًا حتى جلس أمامها وقال بارتياحٍ: -عشان عايز أبعدك عن عاصي دويدار وجبروته.
أشاحت نظرها كي لا ترى عيناه وهي تتحدث فتصاب بأسهم الضعف مرة آخرى، قرأ الحيرة بعيونها فأكمل موضحًا:.
-عالم عاصي دويدار مخيف ومرعب، أنا عايز أبعد عن كل ده، عايز أجيلك هنا كأنك تذكرة سفر حرة قادرة تخليني ألف العالم كله وأنا قاعد مكاني باصص في عيونك…
صمت طويلًا ثم قال: -عمرك ما هتحبيني وأنا لابس توب دويدار. التوب ده أكبر لعنة في حياتي، عايزك الركن الهادي اللي ارتاح من الدنيا بحالها عندك. هنا عايز انسى أنا مين، وأنتِ الوحيدة اللي حسيت معاها بكل ده.
تركض في حلقة مستديرة يملأها الخوف. رجل لا يمكنه أن يفرط بها حتى ولو اتبع خطاها إلى أخر العالم. احتوى كفيها وتمتم راجيًا: -خليكي مركبة النجاة اللي هتنقذني من العك اللي أنا عايش فيه.
-أنت قررت كل حاجة من غير ما تاخد رأيي، أنا مش الشخص اللي في خيالك؟
نظراتها المهترئه المهزوزة التي تعلن قسوة قراره جعلته يتحرك من مكانه ليقترب منها قائلًا: -أنت الحاجة الصادقة اللي جات لي من الخيال، مكنتيش مجرد خيال يا رسيل…
رفعت حاجبها باستغراب: -أول مرة تقولي رسيل.
-لما الموضوع يتعلق بالبحر تبقي رسيل، كُنتِ المية العذبة اللي خرجت لي من البحر، المية اللي روت قلبي، كُنت رسول الحب بيني وبين البحر الوحيد اللي حس وفهم أنا عايز أيه وجابك لحد عندي، تفتكري كل ده صدفة؟
حانت منه التفاتة إلى ساعة الحائط ثم أكمل: -كُنتِ قاطعة النفس، كل اللي حوليا خافوا عليا اتورط فيكي، لما أمرتهم يرموكي في البحر حسيت بسلك كهربي كلبش في قلبي. ودي كانت أول مرة قلبي يتحرك فيها من زمان أوي ومكنتش عارف السبب. لما بصيت في عيونك عشان استدل تُهت، تهت أكتر منا تايه.
أخذ نفسًا طويلًا: -أول مرة أرغي واكتشف إني رغاي قدامك، مش بقولك لقيت معاك عاصي اللي بدور عليه من زمان!
-بردو ما ردتش على سؤالي، كل كلامك بتفكر في نفسك وبس، أنا فين من كل ده؟ مش يمكن مشاعرك دي كلها من طرف واحد! ليه بتعلق نفسك بواحدة هي مش عارفة هي مين! ومستني منها تنور حياتك!
أخذ يبتسم في هدوء عجيب مناقض لمجرى الحديث: -طيب ما تقولي الكلام ده و أنت باصة في عيني.
اهتزت نظرتها وقالت: -أي كلام،!
-اللي قولتيه. قوليلي مش عايزاك، أبعد عني. بس وأنتِ باصة في عينيا.
اصبحت اجمل في تمنعها وتدللها عليه عندما أثقل على كتفيها مصيرهم، تحمحمت بخفوت ثم قالت بتوتر: -أنت جايب الثقة دي كلها منين؟
رد بثقة: -مني،!
زفرت بضيق أخفت ورائه ابتسامتها وقالت: -والله!
ثم أعلنت رفضها: -بس أنا مش موافقة على الوضع ده. منا مش شقة مفروشة تيجي فيها عشان تريح دماغك.
-ما كُنا حلوين قلبتي ليه؟
ثارت محتجة: -عشان الوضع ده مش عاجبني.
ثم فرت من أمامه هاربة وخرجت من الغرفة لتحتمي بالصغاره من مكر الثعلب الذي يراوغ بقلبها بدون شفقة، من قبيل خبرته بالنساء خفق صدره بانتصار وهو يقول لنفسه: -شكلك هتغلبيني…
رن هاتفه في تلك اللحظة، إذن بعبلة معترضة: -أنت فين يا عاصي، هدير هنا بتسقط وخالتك وكريم هنا وأنت اختفيت مرة واحدة، فينك.
هلل بفرحٍ: -يافرج الله؟
ثم تحجج قائلًا: -عندي شغل. مضطر أقفل، سلام دلوقتي.
-يا عالية أنتِ لازم تاكلي عشان صحتك يا حبيبتي.
أردفت شمس جملتها التي كررتها كثيرًا حتى يأست من قبول عالية للطعام، تدخل تميم قائلًا:
-طيب أنتِ زعلانة ليه، مش اطلقتوا، ولو على حقك هيرجع لك صدقيني، وابن المحلاوي هنعلمه الأدب.
فزعت متوسلة: -لا يا تميم. وغلاوتي عندك بلاش أذية، مراد عصبي بس عمره ما قل مني بالعكس أنا اللي غلطت فيه.
رمقها تميم بنظراته الكاشفة: -فيكي أيه يا عالية! متغيرة ليه؟
-أبدا يا تميم. أنا كويسة.
ثم تحججت هاربة من حصار نظراته: -هنزل اتمشى شوية في الجنينة.
انصرفت عالية فاقتربت شمس منه وطالعته بنظراتها الحائرة، سألها تميم بفضول: -شايفة أيه؟
تنهدت شمس بألم ثم قالت: -بتحبه، دي مش عالية اللي أعرفها، غير كدة نوران بتقولي أنها طول الليل بتعيط، دا يدل أنه أثر فيها.
نفى تميم نظريتها: -لالا. عالية موجوعة وشايفة أنها اتهانت وهي ماتستاهلش، هي صعبانة عليها نفسها مش أكتر. حاسة أنها مكسورة.
أجابته بثقة: -الحب الحاجة الوحيدة اللي تكسر أقوى ست. وده اللي شايفاه في عالية.
ثم رفعت حاجبها متحدية وهي تعد له خُبزة محشية: -هتشوف مين فينا الصح.
مدت له الخبز وقالت بخفة: -اتفضل كُل أنت كمان ومتغلبنيش زيها.
أخذ الرغيف من يدها ثم غير مجرى الحديث قائلًا بغزل: -أنا قُلت لك قبل كده أن شعرك جميل!
شرعت بطوي شعرها بخجل وهي تبرر: -أسفة مأخدتش بالي، أنا اتشغلت بس مع عالية و
أمسك ذراعها كي تكُف عما تفعله وقال بحنو: -وأنا عشان بقول لك شعرك جميل، تحرميني من شوفته، تاني مرة هأبقى أعاكسك في قلبي يا ستي.
بات قلبها تحت خيمته يتراقص، بللت حلقها الذي جف وقالت بحزن: -فادية كانت بتحب تضفره دايمًا، من يوم ما مشيت وأنا مش بعرف أعمله ولا عارفة أهتم بيه، بقيت مهملة فيه خالص.
-أنا بعرف أضفره على فكرة. أممم لو حبيتي يعني، أنا بردو مش غريب!
وثبت كالملدوغة متحججة: -هروح أشوف نوران فطرت ولا لسه.
دومًا ما تكون حقائب صبر العاشق ضائعة في بحور الهوى، إلى متى سيتعمد دفن مشاعره المتحركة باستمرار نحوها؟ متي تفتح قلبها وترافقه دربه الخالٍ من البشر مكتفيًا بها بقية عمره.
-تحبي أخلصك من الجدع اللي اسمه مراد ده خالص؟
أردف فريد جُملته الأخيرة بعدما اطمئن على حالة عالية ووصولها لمنزلها. ابتعدت عبلة عن أختها بحذر ألا تسمعها وقالت:
-لا طبعا، أحنا هنربيه مش هنخلص عليه. ده مهما كان ابن اختي!
نفث دخان سيجارته وقال: -عموما أنا في الخدمة في أي وقت، حسيت بس أنه مزعلك، وأنا مايهونش عليا أشوفك مضايقة.
-أفوق بس من الورطة دي، وهنفكر سوا نعمله أيه عشان يعرف ازاي يتهجم على بيتي.
فريد بمكر: -أنتِ لحد دلوقتِ ناسية معادي مع عاصي بيه، وبصراحة البضاعة اللي معايا ما ينفعش تقعد أكتر من كده وزبونها واقف على الباب، ده بس لاني اديتك يا هانم كلمة.
-متقلقش بكرة بالكتير هاخدلك معاد من عاصي وتتفقوا.
اقتربت منها جيهان التي تشع نارًا من شدة الغضب وقالت: -ده ابنك عاصي؟
توترت عبلة وقفلت المكالمة سريعا: -لا يا جيهان ده شغل.
هتفت جيهان بانتقام: -هو فعلا عاصي السبب في اللي حصل لبنتي يا عبلة!
-قهوتك.
مدت له فنجان القهوة التي أعدته خصيصًا لأجله، أخذه منها كالغريق المتعلق بحبل النجاة: -ده جيه في وقت بالتمام.
وقف الثنائي يتأملان المنظر من وراء الشرفة، وبعد أول رشفة من القهوة أبدى أعجابه بمذاقها فقال: -واضح كده مش عيونك وبس اللي هتجيبني على ملا وشي، فنجان قهوتك كمان طلع حكاية!
تبسمت بخفوت ثم قالت دون النظر إليه: -لما شفتك قُلت ده رجل مش بيعرف يتكلم غير بلغة الفلوس، حتى مشاعره واللحظات الحلوة اللي بيعيشها بيشتريها بفلوسه.
رفع حاجبه منتظرًا تكملة رأيها فيه: -طيب ودلوقتِ!
-لازم؟
-لا أفهم، ما بحبش اللي يقول حاجة وميكملهاش.
أخذت رشفة من القهوة وقالت: -حتى ولو هيضايقك.
يخشي نظرتها الحادة التي يفهم مغزاها جيدا، مد قامته بشموخ ثم قال مراوغًا: -خلي بالك اللي بيضايقني مجبر يصالحني، وأنا بكون استغلالي أوي في الحتة دي، بالذات معاك، أممم هتلكك.
تراجعت على الفور: -وليه الطيب أحسن.
-خوفتي؟
تحدته قائلة: -مابخافش.
وبعينين لامعتين من شدة حبه للحديث معها: -أومال جبتي وراء ليه وسحبتي كلامك!
تنهدت بثقة ثم قالت: -محصلش. بس مش لطيفة لما أقول لعاصي بيه دويدار انك اتعلمت الأونطة…
ضحك ملء فمه ولأول مرة تراه يضحك هكذا، ظلت ترمقه بعيون لامعة حتى انتهى من ضحكه قائلًا بثبات:
-منا لقيت أن الفلوس مش سكتك، قُلت أما أجرب الأونطة.
-ولو مكنتش سكتي؟
-متقلقيش هفضل احاول لحد ما اعرف أيه هي سكتك؟
ثم غمز بطرف عينه: -وراكي وراكي، مفيش مفر
رمقته بشفقة على حاله: -ربنا يعينك بقا.
تجرع أخر شئ بفنجانه وقال باحثًا عن هاتفه: -موبايلي فين؟
ردت على الفور: -مع البنات بيتفرجوا على كرتون.
ثم أخذت الفنجان من يده وقالت: -هرجعه المطبخ واجيبلك الموبايل.
انصرفت من أمامه تتخبط بجدران حيرتها وتعجبها من تصرفاتها المبهمة، من أين ترفضه وتسعى لخلق الحديث معه، كيف تريد بعده وهي التي تتحاشى الأركان لتبقي بجواره! أخذت الأسئلة تجوب في رأسها حتى دخلت الغرفة على البنات وجدتهن نيام، شدت الغطاء فوقهم وسحبت الهاتف برفق وغادرت، أثناء عودتها إليه لم يتوقف يسري عن إرسال بيانات قاسم التي عثر عليها وبالصدفة فُتحت أمامها صورة قاسم القديمة، صورة جلاد روحها قبل ما يتحول لقاسم بيه صفوان.
تجمدت في مكانها تتفقد معالم الصورة حتى أحضرت ذاكرتها تفاصيل كابوسها المُرعب…
###
تشبث برأسها: -قاسم انا مصدعة أوي، من وقت العصير ده وحاسة إني دايخة! يلا نروح!
مد ذراعه كي تستند عليه: -نروح أيه، اسندي عليا بس واقعدي يلا اقعدي.
لم تتذكر إلا آهات وجعها وعجزها عن المقاومة، صوت صرخات البحر وتلاطم الموج غضبًا عن اغتصاب روح حوريته، سُلبت روحها وسُلب معها الحياة وباتت فريسة لمكر ذلك الثعلب الذي تسلل إلى جسدها بدافع الحب:
-أنا مش هسيبك لحد غيري، أنتِ ليا وبس فاهمة! فاهمة يا رسيل!
ساحت دموعها من مقلتيها وهي لا حول لها ولا قوة وتغمغم بحسرة: -ليه.
صرخ بصوت ينافس صوت البحر: -عشان أعرف قنديل المصري مين هو قاسم صفوان اللي رفض يجوزه بنته، أعرفه أنك بتاعتي وبس حتى ولو العالم كله وقف قاصدي.
استردت حياة وعيها على صوت سقوط الهاتم من يدها ثم سقطت ورائه تائهة في حالة لا توصف من الذهول حتى اندلعت منها صرخة رفض لماضيها رجت قلب عاصي قبل أركان البيت…
التعليقات